الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

39/02/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:حكم النظر إلى الأجنبية:

تحدثنا عن الفرعين في البحث الماضي، وهنا نتحدث في الفرع الثالث :

الفرع الثالث: حكم نظر الرجل إلى الوجه والكفين من الأجنبية بدون التلذذ والريبة.

اعلم أن هذا الفرع مشتمل على ثلاثة أقوال:

الأول : الجواز مطلقاً.

الثاني : عدم الجواز مطلقاً. (حرمة مطلقاً)

الثالث : التفصيل بين النظرة الأولى والثانية فيجوز في الأولى وعدمه في الثانية. (أو إطالة النظرة الأولى حتى يقال هذه هي النظرة الثانية)

القول الأول أي القول بالجواز منسوب إلى بعض القدماء كالشيخ الطوسي في المبسوط ومن تبعه و لكن المحقق السبزواري في كفاية الفقه نسب القول إلى الشيخ في المبسوط على كراهية.

و بعض المتأخرين كالشيخ الأنصاري في رسالة النكاح وصاحب الحدائق والنراقي في المستند والمحقق السبزواري في الكفاية ومن تبعهم.

والقول الثاني أي عدم الجواز مطلقاً منسوب إلى المشهور حسب ما قاله السيد الخوئي في كتاب النكاح وكتاب الصلاة؛ لأنه محل تعرض السيد لها في لزوم الستر في الصلاة. وعليه صاحب الجواهر و كاشف اللّثام و غيرهما.

و أما بعض القائلين بالجواز في مقام الاستدلال ، وهم القائلون بالاحتياط الوجوبي في ترك النظر في مقام الفتوى، فوافقوا القائلين بالقول الثاني في الفتوى، وخالفهم في الاستدلال السيد اليزدي في العروة والسيد الخوئي في الموسوعة في كتاب الصلاة والنكاح.

و القول الثالث: أي التفصيل بين النظرة الأولى والثانية وهو مذهب المحقق والعلامة في أكثر كتبهما كالشرائع والقواعد والتحرير.

والترتيب يقتضي أن نتعرض أولاً لأدلة القول بالجواز ثم الحرمة ثم التفصيل.

إلا أن الأنسب - برأيي- في هذا المقام أن نتعرض أولا لأدلة القول الثاني أي أدلة القول بالحرمة، لأنه إن استطعنا إثبات الحرمة فلا مجال للبحث عن الجواز، وإن لم نستطع إثبات الحرمة فيثبت القول بالجواز بنفسه، ولا نحتاج إلى إيراد دليل أصلاً، فعلى هذا نبدأ بالبحث عن أدلة عدم الجواز.

أدلة القول بالحرمة:

فقد استدلوا عليه بأمور:

أولاً: بآيات من كتاب الله عز وجل. وثانياً: بالإجماع عليه. وثالثاً: بالسيرة العملية من المتشرعة المتصلة بزمن المعصومين ^. و رابعاً: بحكم العقل. وخامساً: بالأخبار منطوقاً ومفهوماً.

أما الآيات فهي:

الآية الأولى : الإطلاق في آية الغض:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَ يَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا يَصْنَعُونَ[1] .

وكيفية الاستدلال التمسك بإطلاق قوله تعالى يغضوا من أبصارهم، إي إن الغض في الآية مطلق يشمل جميع بدن المرأة و منها (من جملة أعضاء بدنها) الوجه والكفين، ولا ريب في شموله لهما. يعني أن الآية تحكم بأنه يحرم النظر إلى أي جزء من بدن المرأة الأجنبية، و فيه :

أولاً: ما قدمناه في الفرع الأول، في تحقيق معنى الغض، بأنه غير الغمض، أي إن الغض عبارة عن النقص في النظر وليس معناه ترك النظر. فالآية لا تناسب للاستدلال على تحريم النظر.

ثانياً : يمكن أن نقول بأن الغض الذي أمر به في الآية عبارة كناية عن التجاوز عنها وأن لا يتوقف أحد عندها إن كانت أجنبية... ويستفاد منه أن المراد من الغض هو إعراض الرجل عن المرأة الأجنبية لأن الوقوف عندها يقوي التلذذ الشهوي الذي يوجب الابتلاء بالأمور التي تكون من مقدمات الزنا و يؤيد ما قلناه قوله تعالى: يحفظوا فروجهم.

ثالثاً: يحتمل أن يقول أحد: أن الآية لا إطلاق فيها، بل إطلاقها منصرف إلی ما عدا الوجه والكفين، وهو المتعارف العرفي من الآية الكريمة، لأن المرتكز عند أهل العرف عدم شمول الآية الكريمة للوجه والكفين.

و رابعا: لو سلمنا أن الغض بمعنى الغمض فلا يجوز لنا أن نستدل بإطلاقها على التحريم أيضاً، لجواز النظر إلى كثير من الموجودات، وخروج الأكثر عنها بالاستثناء يوجب الابتلاء بالأمر المستهجن وهو استثناء الأكثر.

فبالنتيجة إن الأمر بالغض في الآية مجمل بالنسبة إلى الوجه والكفين وحيث كان فيها إجمال فلا يصح الاستدلال بالمجمل.

الآية الثانية:

الاستدلال بقوله تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَ نِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[2] )

وادعي أن الآية تدل على حرمة الإبداء أي إظهار الزينة الملازم لعدم جواز النظر، حيث لا معنى لحرمة الإبداء وجواز النظر ولا يمكن الجمع بين الحكمين بهذه الصورة مضافا إلى أن إطلاقها يشمل الوجه والكفين، يعني حرم على النساء أن يظهرن وجوههن وأيديهن ، وبالملازمة العقلية حرم على الرجال النظر إلى الوجه و الكفين منهن.

وفيه: إن الآية نفسها تستثني الزينة الظاهرة من إبداء الزينة ، بقوله تعالى {إلاّ ما ظهر منها} ، ولا ريب في أن أكمل المصاديق من الزينة الظاهرة هو الوجه والكفان وبهذا يضعف الاستدلال بالآية على التحريم.

مضافا إلى أن بعض النصوص كصحيحة الفضيل وموثقة أبي بصير فسّر الزينة الظاهرة بالخاتم وأمثالها، والنظر إلى الخاتم لا ينفك عن النظر إلى الكف.

و مؤيدا بما روى مسعدة بن زياد عن الصادق في جواب السؤال عما تظهر المرأة من زينتها قال: الوجه و الكفان.

و بالنتيجة الاستثناء الوارد في الآية بقوله تعالى {إلا ما ظهر منها} يقتضي جواز النظر إلى الوجه والكفين خلافا لما يدّعيه المستدل.

 


[1] نور/سوره24، آیه30.
[2] نور/سوره24، آیه31.