بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/04/12

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الموقف الثاني، الذي عقدناه للحديث عن اسم الجنس.
وقلنا إنّ الأصوليّين تعرّضوا بمناسبة البحث عن اسم الجنس لمسألة اعتبارات الماهيّة، والتي هي مسألة فلسفيّة في الحقيقة.
حيث وقع الكلام بين الأصوليّين في الموضوع له اسم الجنس. وحيث إنّ هذا المبحث قد تعرّض له الفلاسفة مستعينين باصطلاحاتهم في هذا المجال، فقد سرى هذا البحث الفلسفيّ إلى علم الأصول. وإلّا، فالأصوليّ لا يحتاج إلى أكثر من الحديث عن واقع البحث؛ ذلك أنّ ما يهمّ الأصوليّ هو تنقيح وتحقيق ما هو الموضوع له اسم الجنس. وهدفه من ذلك الوصول إلى نتيجة، وهي أنّ الدالّ على الأفراد والسريان والشمول والاستيعاب هل هو نفس اللّفظ الموضوع له أمّ أنّ الدالّ على ذلك هو أمر وراء اللّفظ ينضمّ إليه، وهو المعبّر عنه في كلماتهم بقرينة الحكمة. فإن كان الدالّ لفظيّاً بات المطلق في الدلالة على الاستيعاب كالعموم الاصطلاحيّ، وقد يحاول البعض حينئذٍ التفرقة بينهما بما يصعب ويعسر. وهو المسلك المنسوب إلى مشهور المحقّقين قبل سلطان العلماء.
وقد يُقال في قبال ذلك بما ذهب إليه عموم متأخّرن المتأخّرين من علماء الأصول من أنّ اسم الجنس موضوع للدلالة على الطبيعة المهملة، وهي المساوقة للكلّيّ الطبيعيّ. وحينئذٍ: فهي لا تدلّ على التفريد بوجهٍ، فضلاً عن العموم والشمول للأفراد. وهو ما ذهب إليه سلطان العلماء رحمه‌الله وتابعه عليه غيره.
هذا هو المقدار الذي يحتاج إليه الأصوليّ في المقام. وعلى أساس هذا البحث يُخرّج ما لو تنافى مطلق مع عامّ اصطلاحيّ؛ فإنّ المعروف تقديم العموم؛ لأنّه دالّ على التفريد لفظاً، وأنّ المطلق مغلوب في المقام، لو كان بإزائه عموم؛ لأنّه لا يدلّ على التفريد لفظاً، بل يتوقّف على عدم البيان، والعموم بيان، فيكون العامّ حاكماً أو وارداً على المطلق فيُقدَّم عليه.
يتفرّع على هذا بحث ثانٍ يهمّ الأصوليّ أيضاً ويُنتج في المجال الأصوليّ، وهو أنّ الإطلاق هل هو جمع القيود ثمّ إخراجها، بأن يتصوّر كلّ التقسيمات الثانويّة للماهيّة التي تصنّفها وتنوّعها إلى أنواعها وأصنافها ثمّ نرفضها، فينتج الإطلاق، أم هو رفض القيود، بأن لا يلحظ من الأساس شيئاً من هذه القيود، أي: يلحظ أن لا يلحظ (لا أنّه لا يلحظ من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما هو واضح)، فيلحظ الموضوع التامّ الماهيّة بما هي هي، وهذا لا ينفكّ عن كونه رافضاً لتقسيماتها الثانويّة، مثل الرجل العالم أو الفقيه أو النائم أو..؟
وهذا البحث أيضاً تظهر له ثمرات في بعض المواضع.
وهذان البحثان هما ما يهمّ الأصوليّين. وبعض الأصوليّين وإن أطال القائمة أكثر حين فهرسته للأسئلة التي يريد جواباً عنها، لكنّ الناظر في تلك القوائم يظهر له جليّاً أنّ بعض هذه الأسئلة لا ربط لها بواقع البحث الأصوليّ. وإنّما نشأ البحث فيها من جهة المصطلحات المعارة من الفلسفة. من تلك الأسئلة ـ مثلاً ـ : أنّ اللّابشرط القسميّ هل هو جامع لما تحته من القسمين: البشرط لا، والبشرط شيء أم أنّه ليس جامعاً؟ وأنّ اللّابشرط القسميّ هل هو نفسه الماهيّة المهملة أم أنّها اللّابشرط المقسميّ، أم هي لا هذا ولا ذاك، بل شيء ثالث يُضمّ إلى بقيّة المصطلحات؟ هذه كلّها تساؤلات ليست من واقع حاجة الأصوليّ. بل إنّما نشأت في طول إدخال هذا البحث الفلسفيّ إلى حيّز البحث الأصوليّ.
من هنا، فالأصوليّ لم يبحث كثيراً في الموضوع له اسم الجنس، لكنّه أطال البحث شيئاً ما فيما أُطلق عليه اسم (اعتبارات الماهيّة).
طبعاً هناك خلاف قديم بين نفس الفلاسفة، بعد بيان مصطلحات الماهيّة، في أنّ الموضوع له اسم الجنس هل هو اللّابشرط المقسميّ، كما ذهب إلى ذلك صاحب المنظومة رحمه‌الله، وتبعه عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله، وربما آخرون؟ أم هو اللّابشرط القسميّ، كما ذهب إليه الخواجة الطوسيّ في منطق التجريد، وتبعه عليه كثير من الأصوليّين؟ وربما وقع الرفض أصلاً للوضع لأحد الاصطلاحين، كما صدر من صاحب الكفاية رحمه‌الله؛ إذ قال: لو كان موضوعاً لأحد الاصطلاحين فلا يصدق على الخارج إلّا بالتجريد.
من هنا، نقتصر على بيان المصطلحات فحسب، ولا نطيل في هذا البحث.
ومن أجمل ما رأيناه من بيان في هذا المجال هو بيان الشهيد الصدر رحمه‌الله، وإلّا، فالكلام هو الكلام فيما اتّفقوا عليه. هو رحمه‌الله لم يأتِ بجديد، لكنّه عرضه بطريقة جميلة.
حاصل البحث:
أنّنا تارةً نتحدّث عن الماهيّة الموجودة في الخارج، كالإنسان الخارجيّ، والأسد الخارجيّ، ونحو ذلك، فهذا الموجود الخارجيّ إمّا هو متّصف بصفة وإمّا غير متّصف بهذه الصفة. كلّ صفةٍ ننظر إليها فإمّا هو متّصف بها وهي موجودة معه ناعتة له أو غير متّصف بها وهي غير موجودة معه وغير ناعتة له. ذلك أنّ الماهيّة لا توجد في الخارج إلّا في ضمن مشخّصات، ومن الواضح: أنّ كلّ مشخّص من المشخّصات إمّا هو مقرونة معه الماهيّة أو غير مقرونة. فالرجل في الخارج إمّا هو عالم أو ليس عالم، وهكذا..
فيوجد في الخارج قسمان، لا أكثر. وهو أمر واقعيّ خارجيّ، يعني: مفاد كان الناقصة وليس الناقصة واقعه في الخارج، وليس من الاعتبارات الذهنيّة. ففي الخارج الإنسان إمّا هو متّصف بالعلم أو غير متّصف به، وكونه يُدرك بالذهن، لا يعني أنّ هذا صار أمراً ذهنيّاً، بل الذهن هنا مجرّد وعاء للإدراك.
فإذا جئنا إلى الذهن، ففي الذهن، الموجود بلحاظ الخارج هو صور من الخارج، نجد أنّ الموجود في الذهن هو نفس الموجود في الخارج من حيث الصور، مثلاً: إنسان متّصف بالعلم، وإنسان ليس له اتّصاف بالعلم. فالأوّل يُسمّى: بشرط شيء. والثاني يُسمّى: بشرط لا. وهناك وجود ثالث في الذهن، وهو الإنسان الذي قصرنا النظر واللّحاظ عليه، من دون ملاحظة أنّه متّصف بالعلم، ولا ملاحظة أنّه لم يتّصف بالعلم، يُقصر النظر فقط على إنسانيّته. فهذا الإنسان هل هو موجود في الخارج أم لا؟
إذا كان المقصود أنّه موجود في الخارج بوجود منحاز عن الإنسان المتّصف بالعلم والإنسان غير المتّصف بالعلم، فقطعاً ليس له وجود؛ إذ في الخارج ليس هناك شيء ثالث يرتفع فيه الضدّان أو النقيضان. وإذا كان المقصود أنّه موجود في الخارج، لكن لا بوجود منحاز، أي: الإنسان الذي قصرنا النظر على إنسانيّته يمكن أن يُقال: إنّه موجود في الخارج، لكنّه لا يوجد في الخارج إلّا في إنسان عالم أو إنسان غير عالم. فهذا مقبول.
فكما أنّ الماهيّة لا توجد في الخارج إلّا بتشخّصاتها، فنقول: لا يمكن أن يرتفع بتشخّصها الخارجيّ النقيضان أو الضدّان اللّذان لا ثالث لهما. لكن في الذهن هناك اعتبار ثالث نستطيع أن نقول: إنّنا نأخذه من الخارج، فنجرّد المفهوم عن الوصفين، فنقصر لحاظنا عليه من دون ملاحظة أيٍّ من الضدّين، فنحن لا نقول إنّه يوجد في الخارج بدون الضدّين أو النقيضين، بل نقصر النظر عليه ولا ننظر إلى شيءٍ آخر. للذهن مثل هذه القدرة. فيُقال حينئذٍ: هذا الإنسان هو نفسه الإنسان الموجود في الخارج الذي يتّصف بالعلم فعلاً أو لا يتّصف به، وليس شيئاً ثالثاً.
فهذا الوجود الثالث هو الذي سُمّي الماهيّة اللّابشرط، وهو الذي سُمّي أيضاً اللّابشرط القسميّ.
ومن الواضح: أنّه حيث كان الكلام عن الذهن والتعقّل، فهناك لحاظات ذهنيّة، ولذا سُمّيت بـ اعتبارات الماهيّة. والعلوم لا تتعاطى مع الخارج مباشرةً، بل تتعاطى من خلال صور ذهنيّة. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح: أنّ الذهن لحظ تارةً صفة العلم، وقال: إنسان عالم، ولحظ أُخرى عدم الاتّصاف بالعلم، فقال: إنسان ليس بعالم. وثالثةً لم يلحظ أيّاً منهما، لا العلم ولا عدم العلم، بل لحظ انتفاء اللّحاظين ـ بتعبير بعضهم ـ. ليس المراد من لحاظ انتفاء اللّحاظين هو القضيّة المعدولة.
ولكن الإنصاف أنّه ليس هناك ضرورة لمثل هذا الكلام؛ إذ حديثنا هنا إنّما هو عن ملاحظة الطبيعة، كالإنسان، فمقتضى هذا التعبير أنّه يجب أن يلحظ الإنسان ـ مثلاً ـ مقيّداً بأن لا يتّصف بالعلم ولا يتّصف بعدم العلم، مع أنّ هذا غير لازم.
وهذه النقطة تحديداً هي التي أدّت بصاحب الكفاية رحمه‌الله إلى القول بأنّ اللّابشرط القسميّ ليس هو ما وُضعت له الماهيّة؛ إذ هو ليس قابلاً للانطباق على الخارج؛ لأنّ اللّحاظ جزء منه، وإذا كان اللّحاظ جزءاً منه، لم يكن بالإمكان انطباقه على الخارج إلّا بالتجريد، إذاً، فليس هو الموضوع له اسم الجنس.
وأُجيب عنه من قبل المحقّقين، بأنّ اللّحاظ تارةً يكون مرآةً للملحوظ، وأُخرى يكون قيداً له، وإنّما يتمّ الإشكال لو كان من قبيل الثاني، أي: قيداً للموضوع له، وأمّا لو استعملنا اللّحاظ بالنظرة المرآتيّة، لا بوصفه قيداً، فلا يكون جزءاً من الموضوع له، وهذا هو المقصود.
لكن ما نريد قوله هنا ـ بمعزل عن هذا الجواب الصحيح في محلّه ـ هو أنّه من قال بأنّ اللّحاظ مطلوب أساساً في المقام، بل المطلوب ملاحظة إنسانيّته، وأمّا كون هذه الإنسانيّة لُحظ معها اقترانها بالعلم واقترانها بعدم العلم ثمّ نفينا اقترانها بالعلم وبعدم العلم، فهذا ليس مطلوباً، وهو بالوجدان ليس حاصلاً.
كما أنّ القول بلزوم اللّحاظ أدّى بالسيّد الخوئي رحمه‌الله إلى إنكار أن يكون الموضوع له هو اللّابشرط القسميّ، وأصرّ على أنّ الموضوع له هو شيء اسمه الماهيّة المهملة، وذهب إلى أنّ الكلّيّ الطبيعيّ هو الماهيّة المهملة، واللّابشرط القسميّ لُوحظ فيه عدم أحد الوصفين، البشرط شيء والبشرط لا. لذلك، ليس هو الموضوع له. فصار اللّابشرط القسميّ عنده غير الماهيّة المهملة، وصار الموضوع له هو الماهيّة المهملة.
مع أنّ الظاهر أنّ الصحيح هو أنّ اللّابشرط القسميّ هو نفس الماهيّة المهملة، لا شيء آخر، وإنّما جاءت هذه البلبلة والتشويش من جهة دعوى لزوم أخذ لحاظ القيد ونفيه، وأحذ لحاظ عدم القيد ونفي النظر إليه في اللّابشرط القسميّ.
ويترتّب على هذا بحث آخر، وهو أنّ اللّابشرط القسميّ هل هو الجامع بين البشرط شيء والبشرط لا، بحيث ينعكس المقسم في الأقسام، أم أنّه شيء ثالث في مقابلها ويكون قسيماً لها؟
الصحيح أنّه ليس المقصود من اللّابشرط القسميّ أنّه جامع بين البشرط شيء والبشرط لا، وإن كان يوجد بوجود أحدهما في الخارج؛ إذ لا يوجد في الخارج إلّا هما، كما اتّضح.
توضيح ذلك: أنّ الإنسان الذي لحظناه إنساناً فقط، يوجد في الخارج بوجود الإنسان بشرط شيء، وكذا يوجد في الخارج بوجود الإنسان بشرط لا، لكن هو لا يحكي البشرط شيئيّة ولا البشرط لائيّة، بل يرفضها بحسب مفهومه؛ إذ النظر فيه مقصور على نفس الماهيّة، ولا يُتعرّض فيه لشيء سوى نفس الماهيّة، فهو اعتبار ذهنيّ ثالث في مقابل كلا الاعتبارين، لكنّه بما هو اعتبار بحدّه لا وجود له في الخارج. بل إنّما يوجد في الخارج في ضمن أحد الاعتبارين، لا من جهة أنّه كلّيّ عقليّ، بل من جهة أنّ الأمور لا توجد في الخارج إلّا بمشخّصاتها. فالعبرة ليست بتسميته بشرط شيء، بل العبرة بتشخّصه، وواقع ما يُشار إليه عندما نقول: بشرط شيء. ولذلك، فعندما نقول: إنسان ليس متّصفاً بالعلم، فهو حتماً متّصف بصفةٍ خارجيّة، وإلّا، لو لم يكن متّصفاً بصفةٍ خارجيّة، لم يكن خارجيّاً، بلا شكّ ولا ريب.
وعلى هذا الأساس، فالظاهر ـ والله العالم ـ أنّ اللّابشرط القسميّ هو نفسه الذي يُعبَّر عنه بالماهيّة المهملة، أو أنّه ينبغي أن يكون كذلك، وهو الذي يوجد في الخارج بوجود فرده، وفرده لا يوجد إلّا ضمن أحد اللّحاظين السابقين.
هذه المصطلحات الثلاثة إلى هنا هي ما يعبّرون عنها بـ المعقول الأوّليّ. وقد يعبّرون عن الماهيّة اللّابشرط القسميّ بالماهيّة المطلقة والماهيّة البشرط شيء بالماهيّة المخلوطة.
وهنا قالوا: هناك وعاء أعلى من هذا الوعاء، وهو وعاء المعقول الثانويّ، وهو أنّ نفس هذه المعقولات الأوّليّة، أعني: الماهيّة اللّابشرط القسميّ، والماهيّة البشرط شيء، والماهيّة البشرط لا، هذه الأقسام الثلاثة نحلّلها بتعقّلٍ أعلى، فيُقال: ماهيّة مقيَّدة بأن تكون كذا، أو مقيّدة بأن لا تكون كذا، (أو غير مقيّدة بكذا، على الخلاف) وماهيّة غير مقيّدة بأحد القيدين، وهي الماهيّة اللّابشرط القسميّ، فيعمد الذهن إلى اختراع مصطلح جديد جامع لهذه الثلاثة، ويُسمّى الماهيّة اللّابشرط المقسميّ، والتي ناقش فيها البعض، وقالوا: لا نتعقّل شيئاً كهذا.
وفي المقابل، ذكروا أنّ هذا اعتبار عقليّ، والمقصود منه هو الماهيّة من حيث هي، لا موجودة ولا معدومة ولا أيّ شيء آخر. (وهذا لا علاقة له بالإطلاق والتقييد، وإن كان بعضهم ذهب إلى أنّها هي الموضوع لها اسم الجنس، فيكون لها علاقة بعلم الأصول). والمراد بهذا الاصطلاح الجديد: الماهيّة من حيث هي، والتي تكون جامعة بين البشرط شيء والبشرط لا واللّابشرط القسميّ، يعني: أنّها لا يُلحظ معها شيء، ولا يُلحظ معها أنّه لا يُلحظ معها شيء.
وهنا نحتاج إلى تفرقةٍ دقيقة بين الماهيّة اللّابشرط المقسميّ والماهيّة اللّابشرط القسميّ.