بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف الرابع عشر.
ونوقع الكلام فيه مختصراً.
وهو آخر مواقف العامّ والخاصّ.
جرت عادة كثيرٍ من المحقّقين في علم الأصول أن يختموا مبحث العامّ والخاصّ بالبحث عمّا لو صدر العامّ والخاصّ من الشارع الحكيم. ودار الأمر في الخاصّ بين كونه ناسخاً للعامّ أو مخصّصاً له. فما هو مقتضى القاعدة؟
وقد أهمل غير واحدٍ من المحقّقين هذا البحث ولم يتطرّقوا له، مع أنّه فيه مباني نظريّة مهمّة، ولعلّ إهمالهم له من جهة عدم انتهائه إلى ثمرة عمليّة في باب الاستنباط؛ إذ من الوضوح بمكان ـ على مستوى التطبيق ـ أنّنا لا نبتلى في العادة بموردٍ يكون من هذا القبيل؛ ذلك أنّ النسخ في الشريعة قليل غايته، وأنّ الموارد الكثيرة الواردة فيها قد حُملت على التخصيص وتُسولم على ذلك.
ولا بدّ ليأخذ البحث حقّه من أن يُبحث ضمن خطوات، لا يسعنا هنا أن نفصّل فيها كثيراً؛ ذلك أنّ البحث يستدعي في الأساس الحديث عن ظاهرتي النسخ والتخصيص في التشريعات، وعمّا تقتضيه الحكمة بإزائهما؛ إذ البحث في هذا المجال ينفتح في بعض شؤونه على المجرى العقلائيّ للتشريع، وفي بعضها الآخر على ما يقتضيه حكم العقل بلحاظ خصوصيّة كلّ مشرّعٍ عقلائيّ حكيم، وبلحاظ خصوصيّةٍ يمتاز بها مشرّعنا الحكيم، من جهة اختصاصه بعدم جواز تبدّل العلم عنده، بخلاف المشرّع العقلائيّ العامّ؛ فإنّه قابل للعلم بعد الجهل، أو لاكتشاف أنّ ما كان قد زعمه حكمةً ليس كذلك.
وخلاصة الكلام: أنّ النسخ الذي هو ظاهرة قائمة في التشريعات يمكن أن ينشأ في الحياة العقلائيّة من أحد منشأين، بعد أن كان واضحاً أنّ المراد منه، ولو إثباتاً، إنهاء الدليل الناسخ لأمد الدليل المنسوخ، وإن كان ربما انعكس الأمر ثبوتاً ولم يكن كذلك، بمعنى: انتهاء أمد الحكم الأوّل ثبوتاً، لا إنهاء الحكم الثاني الناسخ له.
توضيح ذلك: أنّ الكلام في النسخ هو في رفع حكمٍ ثابتٍ بدليلٍ ظاهره تقنيناً أنّه عامّ في الأزمان، والدليل المنسوخ يُلغي الحكم في بعض الأزمان، وأبرزه إنهاء الحكم فيما تبقّى من الأزمان بلحاظ مدلول الدليل الناسخ، وهذا إمّا أن يكون من جهة أنّ الحاكم بالحكم الأوّل كان يعتقده ذا ملاكٍ مستمرٍّ في الزمان، ولا دافع أو رافع له، أو لا قصور في اقتضائه ثبوتاً وإثباتاً، ولكنّه انكشف له بعد ذلك معطيات جديدة، فإمّا أنّ ما كان زعمه مصلحة وحكمة لم يكن كذلك من الأوّل، أو ما كان زعمه معمّماً في الزمان لم يكن كذلك، وإن كان في مبدئه كذلك. أو أنّه انكشف له ما ينافي اقتضاءه الموجود والباقي كما كان في أوّل أمره، بأن طرأ مانع أو اكتشفه، جميع هذه الشقوق متصوّرة في المشرّع العقلائيّ الحكيم؛ إذ هو مهما كان عقلائيّاً فإنّه يعزب عن علمه أشياء.
الحالة الثانية التي يحصل فيها النسخ هي ما لو كان المشرّع الحكيم يعلم من البداية أنّ حكمه ينتهي بعد شهرٍ، أو سنةٍ، لكنّه لحكمةٍ يُصدره غير مقيَّدٍ في الزمان، وغير محيَّث بحيثيّة كذلك، بل يكون عند المتلقّي للتشريع عامّاً في الأزمان كما هو عامّ في الأفراد والأحوال ـ مثلاً ـ، ولو من جهة جعل المكلّف يتهيّب الحكم ـ مثلاً ـ، ولا يتوانى عن الالتزام به بحجّة أنّه حكم سرعان ما سيرفع الشارع يده عنه، ما يقلّل من أهمّيّته في نظره؛ إذ كثير من المكلّفين قد ينبعثون عن الملاكات، أو لسببٍ آخر، فيأتي الدليل الناسخ ليُخبر المكلّف، ولو بلغة التشريع، بأنّ أمد الحكم الأوّل قد ارتفع ولم يعد موجوداً، سواء كان لتمام الموضوع أم لبعض الموضوع.
وهذا المعنى من النسخ يجوز على كلّ مشرّعٍ حكيم، وهو المتعقَّل في الأحكام الحقيقيّة الواقعيّة الناشئة عن ملاكات واقعيّة في المتعلّقات بالنسبة لشارعنا الأقدس.
كما أنّه يمكن أن يجعل المشرّع الحكيم حكمه بداعٍ غير داعي وجود المصلحة المتمحّضة في المتعلّق، بل لأهداف وأغراض تكليفيّة تشريعيّة مولويّة تؤثّر في تربية وسَوق العباد إلى الطاعة، في كلّ مولىً بحسبه، من دون وجود المصلحة الواقعيّة في المتعلّق محضاً، وهذا ضرب من ضروب الأوامر الامتحانيّة؛ إذ الأوامر الامتحانيّة قد تكون لمجرّد الابتلاء، من دون تعلّق الإرادة بالفعل، كما في ذبح إبراهيم لإسماعيل'، وقد تكون المصلحة التربويّة أو الامتحانيّة المطلوبة تقتضي الإتيان بالمتعلّق الذي لم يكن في حدّ نفسه ذا مصلحة لمدّة من الزمن، كما ربما صحّ التمثيل لهذا من التشريع بجعل القبلة أوّلاً إلى بيت المقدس. ما يكشف عن أنّ الملاك الواقعيّ ثبوتاً من الأوّل هو التوجّه إلى بيت الله الحرام. ومع ذلك، جعل الله سبحانه القبلة إلى بيت المقدس لمصلحةٍ ليست في المتعلّق محضاً، بل لامتحان العباد بتسليمهم لرسول الله-.
المهمّ أنّه في جميع ذلك كلّه لا يخرج عن قانون الحكمة العامّ. هذا بالنسبة لشارعنا، وأمّا لغيره فباب الخطأ مفتوح.
وفي جميع هذه الحالات لا يُقال للدليل إنّه ناسخ اصطلاحاً إلّا أن يكون الدليل الأوّل غير موقّت بوقت، وأمّا لو جُعل الدليل الثاني بديلاً عن الأوّل، في وقتٍ كان الدليل الأوّل قد انتهى أمده إثباتاً، فإنّ الثاني لا يُسمّى في الاصطلاح ناسخاً؛ إذ ليس هو الذي أزال ظلّ الدليل الأوّل، بل الدليل الأوّل زائل في الفرض حتّى لو لم يُشرع في مورده ما تضمّنه الدليل الثاني. وإن كان قد يُتوسّع ويُطلق عليه الناسخ من باب أنّه حلّ محلّ الدليل الأوّل، لكنّ هذا توسّع في الاصطلاح، وليس الاصطلاح قائماً عليه.
وأمّا أنّ النسخ بهذه الضوابط هل هو واقع في الآيات أو الروايات أم غير واقع؟
هذا بحث آخر، المشهور أنّه واقع بما يجوز على مشرّعنا الحكيم والناطقين عنه(، بل إنّ الظاهر ثبوتاً أنّه لا مانع منه، في قرآن مع قرآن، ولا في قرآن مع سنّة. بل الثابت على مستوى الإمكان أنّ كلّ معصومٍ فيمكن أن يكون كلامه ناسخاً لكلام معصومٍ آخر، كتاباً كان أو سنّةً، ولا مشكلة ثبوتيّة في البين ضمن الضوابط الحِكميّة التي لا يمنعها العقل، فنسخ حديث بحديث، أو آية بسنّة، أو آية بآية، كلّ ذلك ممكن لا إشكال فيه ثبوتاً.
لكن ادُّعي الإجماع على انسداد باب النسخ بانتهاء حياة النبيّ-، بل ربما ادّعى البعض عدم وجود نسخ كتابٍ بسنّة مطلقاً، مع أنّ مرجعهما واحد؛ لأنّ السنّة كلّها تعاليم وحي من عند الله سبحانه، ولا يبقى فرق بين السنّة والكتاب حينئذٍ إلّا في الصيغة المعجزة له. بل وحتّى على هذا المبنى، أعني: مبنى دعوى الإجماع بأنّ باب النسخ يختصّ بالقرآن الكريم، أو أنّه انسدّ بابه بانتهاء حياة النبيّ الأعظم-، هناك مجال للحديث عن أحكامٍ ناسخة في زمن الأئمّة(، بأن يكون النبيّ- قد أخبرهم بالدليل الناسخ، ولم تكن هناك مصلحة، أو كان هناك مانع من إبرازه للناس، فيُبرز في زمنٍ، أو تقتضي المصلحة أن يبدأ النسخ من سنة ثمانين للهجرة، فيكون النبيّ- قد أخبر أوصياءه بذلك، فعندما حان وقته أخبروا عنه.
بعد هذا، لا بدّ من إيقاع الكلام موجزاً فيما يرتبط بالتخصيص. التخصيص كظاهرة لا شكّ في أنّها تشذيب من الحكم المخصَّص، كالتقييد، وإخراج منه، وحينئذٍ: فلا شكّ في أنّ ذلك ما كان ليحصل عند المشرّع الحكيم إلّا لحكمة ومصلحة. ففي المشرّع الحكيم غير المعصوم قد تكون الحكمة هي اكتشاف خطإه.
وعموماً، ففيما يرتبط بشارعنا المقدّس أو من أطلعه الله على غيبه لا شكّ في أنّ التخصيص في الجملة إنّما يكون حيث لا يكون التعميم لعموم الأفراد أو الأحوال حاوياً للملاك، فيكشف الخاصّ أو المقيِّد أو الحاكم عن عدم وجود الملاك في تعميم الحكم لمورد المخصِّص والمقيِّد والحاكم من الأوّل، وهذا هو فرقه عن النسخ. فهو من الأوّل يرفع حالةً من حالاته أو فرداً من أفراده، وهذا قد يُرفع بلغة رفع الفرع، كما في القضايا الخارجيّة، وقد يُرفع بلغة التصنيف والتنويع كما في القضايا الحقيقيّة في العادة. وإنّما عمّم منذ البداية لحكمةٍ، ولو من قبيل أنّ التنصيص على الأفراد يحتاج إلى جعول كثيرة، فيجعله بلغة القانون، ثمّ يشذّب منهم، لخصوصيّة بيانيّة، وهذا لا مشكلة فيه، وقد نعرف وجه الحكمة وقد لا نعرفها في بعض الحالات، المهمّ أن لا نعرف أنّه لا يوجد وجه حكمةٍ، فلا بدّ من نفيه عن المولى الحكيم حينئذٍ.
وهنا، بعد هذه المقدّمة تُطرح قاعدتان مهمّتان:
الأُولى: ترتبط بالنسخ، وهي أنّه هل يجوز عقلاً على شارعنا النسخ قبل حضور وقت العمل أم لا؟ إذ قد يُقال ـ وهو المشهور ـ بأنّه لا يجوز ذلك، وقد يُقال بالجواز، وربما فصّل بعض المحقّقين.
والثانية: ترتبط بالتخصيص بالمنفصل بعد حضور وقت العمل، والمقصود من حضور وقت العمل، أي: بعد فرصة العمل، وصيرورة الحكم فعليّاً وتحقّق كلّ شرائطه، فيُقال: يلزم من التخصيص المنفصل في هذه الحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ إذ ينكشف أنّه قد غرّر بعبده، وهو من الأساس لا يريد منه إكرام الصنف الفلانيّ من الناس، فمن الأوّل كان عليه أن يخبره؛ فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، ويلزم منه إيقاع العبد في الضيق والإحباط النفسيّ.