بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/22

بسم الله الرحمن الرحیم

انتهينا في فرض تردّد جملة الاستثناء في رجوعها إلى الجملة الأخيرة من جمل العموم أو الإطلاق، أو جميعها، إلى أنّ المعروف بين المحقّقين، ومنهم صاحب الكفاية رحمه‌الله، القول بالإجمال وعدم إمكان التمسّك بالعموم أو الإطلاق ليكون معقد غير الجملة الأخيرة شاملاً لمورد الاستثناء.
وخالفهم السيّد الخوئي رحمه‌الله في ذلك، وصار إلى تنقيح كبرى المحتفّ بما يصلح للقرينيّة، وأفاد: أنّ هذا الأمر غير منقّح في الكلمات، فلخّص تنقيحه بما يرجع إلى القول بأنّ ما يصلح للقرينيّة هو خصوص ما كان بيّناً في نفسه. وأمّا ما كان مجملاً في نفسه، فلا يصلح للحكم على غيره الذي له ـ بحسب الفرض ـ في حدّ نفسه اقتضاء البيان. ولذا، فإنّ موارد الترديد في المخصّص المنفصل بين الأقلّ والأكثر لم تكن لتؤثّر على التمسّك بأصالة العموم في العامّ.
وخلاصة كلامه رحمه‌الله ترجع في الحقيقة إلى نقطتين:
الأُولى: مبنائيّة، وهي قصر مورد الصلاحية للقرينيّة بما لو كان السبب هو جهلنا بدلالة ما جاء به المتكلّم الشارع في مقام الإفادة. ولا يشمل ما لو كان هنالك للشكّ في القرينيّة سبب آخر، كاعتماده أسلوباً غير متعارف، أو اعتماده كلاماً مجملاً في حدّ نفسه.
والثانية: النقض على القائلين بالصلاحية للقرينيّة وإيجادها الإجمال في المقام بالمخصّص المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر؛ إذ لا أحد يقول هنالك بإجمال العامّ.
ثمّ صار بعد ذلك إلى تطبيق ما أفاده على المقام، واستنتج منه أنّ جملة الاستثناء حيث إنّها في حدّ نفسها لا صلاحية لها للدلالة على كون مرجعها غير الجملة الأخيرة، التي هي بدورها القدر المتيقّن، فلا يمكن أن تحكم على غيرها لتكون قرينةً على الخلاف، فلا يمكن أن تكون صغرى لما يصلح للقرينيّة.
هذا تمام ما أفاده رحمه‌الله.
وهذا الكلام من الواضح أنّه لا يتمّ؛ إذ صحيح أنّ باب القرينيّة يحتاج إلى قرينة، وليس هذا محلّاً لكلامنا هنا؛ إذ ليس الكلام فيما هو قرينة قطعاً؛ إذ من الواضح أنّ القرينة لا تكون قرينةً إلّا في حال إحراز صغراها، وهو يتوقّف على إحراز دلالتها وارتباطها بالكلام الذي تقترن به أو تنظر إليه، متّصلاً كان أو منفصلاً. والشكّ في القرينيّة لا ينطبق عليه كبرى التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ إذ باب القرينيّة وحكم القرينة فيه على ذي القرينة ليس صغرىً لدليل لفظيّ، بل هو يرتبط بالارتكاز العرفيّ لأبناء المحاورة في باب الظهورات والعمل بها. ومن الواضح: أنّ العمل بالظهورات في منهاج العرف لا يكفي فيه الظهور الذاتيّ الاقتضائيّ الناشئ من الوضع والعلم به، بل يتوقّف ذلك على الظهور الفعليّ للكلام بحسب ما يكتنف به من ملابسات وقرائن لفظيّة أو غير لفظيّة. وهذا واضح عند العرف.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ وأن نبحث فيما هو الميزان للقرينيّة، وفيما هو الميزان للصلاحية على بعض التقادير، الذي يمنع من انعقاد الظهور الفعليّ إن كان متّصلاً ويُسقطه إن كان منفصلاً؛ فإنّ لكلٍّ ضوابطه عند أبناء المحاورة.
ولسنا بحاجة للإطالة في القسم الأوّل، وهو أنّ القرينيّة تتوقّف على صدق القرينة عندهم، وهو يتوقّف على الإتيان بالقرينة وإعدادها إعداداً نوعيّاً، إذا كانت تعتمد الأساليب المتعارفة، أو شخصيّاً، كما هو باب الحكومة ـ مثلاً ـ ؛ فإنّ أبناء المحاورة إذا أعدّ المتكلّم كلاماً على طراز قانونهم العامّ، أو على طرازٍ شخصيّ يلحظه قانونهم العامّ، وكان دلالةً ومدلولاً واضحاً بات قرينةً، فيمنع من انعقاد الظهور على تقدير الاتّصال ويسقطه عن الحجّيّة على تقدير الانفصال.
وأمّا مورد الصلاحية للقرينة، فإنّه رحمه‌الله قصره على ما لو جاء المتكلّم بخطابٍ وكنّا نشكّ في أنّه على مستوى الوضع والظهور اللّفظيّ يصلح للقرينيّة أو لا، فسلَّم في هذا المورد بالإجمال.
إلّا أنّ الصحيح أنّ هذا الأمر لا ينحصر بما أفاده رحمه‌الله؛ إذ من الواضح جدّاً أنّ هنالك فرقاً جوهريّاً في موارد الشكّ في القرينيّة بين موارد الاتّصال وموارد الانفصال، بين موارد تمّ فيها شخص الكلام من دون القرينة أو المحتمل القرينيّة، وبين موارد لم يتمّ فيها شخص الكلام، بل جيء بمحتمل القرينيّة متّصلاً بالكلام؛ إذ على الأوّل، فمن الواضح أنّ قانون العرف وأبناء المحاورة قائم في العادة على أنّ من لديه مطلوباً مضافاً إلى أصل الكلام فهو يبديه في شخص كلامه، وفي سياق كلامه، فإذا تمّ شخص الكلام تمّ الظهور، وبات موضوعاً فعليّاً للحجّيّة.
ولذلك، أُشكل على المحقّق النائيني رحمه‌الله عندما فُهم من كلامه أنّ حجّيّة الظهور تتوقّف على عدم وجود القرينة المتّصلة والقرينة المنفصلة، فأفاد المحقّقون بأنّ الحجّيّة تتوقّف على القرينة المتّصلة، ولا تتوقّف على المنفصلة، بل تُهدم على تقدير وجودها، ونحن فسّرنا كلامه بما لا يتنافى مع ذلك، وإن حُمل كلامه عليه. وقلنا إنّ أصل هذا الكلام من مطارح الأنظار.
من هنا، ففي القرينة المنفصلة، حيث نشكّ في القرينيّة نشكّ في المعاند والمعارض للظهور الذي هو تامّ الفعليّة، فنشكّ في مُسقطه بعد أن بات موضوعاً تامّاً للحجّيّة على مستوى الظهور، ومن الواضح أنّه لا يُرفع اليد عن الاقتضاء التامّ بمشكوك الاقتضاء، كما هو واضح. ولذلك فرّقنا في التمسّك بالعامّ في الشبهات بين المخصّص المتّصل والمنفصل. نعم، الدائر بين المتباينين كان في حكم المجمل، وإلّا، فلا يوجد إجمال حقيقيّ أصلاً في المخصّصات المنفصلة؛ لأنّ شخص الكلام تامّ، والظهور بات فعليّاً، والاقتضاء تامّ.
وأمّا حيث يكون الكلام متّصلاً، وهو مشكوكٌ على مستوى القرينيّة، فمعنى الشكّ: أنّه لا يوجد لدينا أصل عقلائيّ في باب المحاورة، ولا تعبّد من الشارع صاحب الكلام ينفي القرينيّة في هذه الحالة. وأمّا لو وُجد ما ينفي لما كان المقام من صغريات الصلاحية للقرينيّة، كما هو واضح. فنحن نتردّد في الحقيقة لأنّنا لا ندري على مستوى اللّغة أو على مستوى السياق أو على مستوى القواعد النحويّة أو اختلفت كلمات أرباب النحو أو لأيّ سبب آخر في أنّ هذه القرينة أرادها للجميع أو أرادها لخصوص الأخيرة، وإلّا، فلو كانت اللّغة لا تسمح إلّا برجوعها للأخيرة، فلماذا نشكّ؟!
فكلّ شكٍّ هو في حقيقته يرجع إلى جهلنا وعدم معرفتنا بما يقتضيه قانون المحاورة في هذا المجال. نعم، قد يكون قانون المحاورة واضحاً لدينا، لكنّنا نشكّ في كونه جرى على خلاف قانون المحاورة، ففي مثل هذه الحالة لا شكّ في أنّ الأصول العقلائيّة تجري، فالصحيح أنّ ما يوجب الإجمال هو الصلاحية للقرينة بمعنى إمكانيّة أن تكون قرينة على مستوى القواعد اللّغويّة. شكّنا في الغالب يرجع إلى جهلنا فيما تقتضيه القوانين في هذا المجال.
وأمّا لو اقتصر شكّنا على إرادته هو من كلامه، فإنّ هذا لا يمنع، فإذا كان القانون يقضي بشيء فإنّنا نتمسّك بمقتضى أصالة التطابق بين القانون وبين جريه على طبق المتعارف، وننفي الاحتمال الآخر، وهو أن يكون يريد خلاف ما تقتضيه قوانين المحاورة.
وما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله هنا من أنّ شخصاً لو همس بأذن من بجانبه فلا يمكننا أن نطبّق عليه قانون الصلاحية للقرينيّة، إنّما هو مصداق لهذا الذي ذكرناه الآن، من أنّه طبقاً لعرف أبناء المحاورة لا يُعتمد هذا الأسلوب في إبداء القرينة للجميع، فيكون إبداءاً لخصوص من أفاد له لو أفاده قرينة، وأمّا الآخرون فيبقون على قانون المحاورة.
نعم، لو كان الظرف ظرفاً خاصّاً يجعل المتكلّم يعتمد أسلوب الإشارة والكناية البعيدة والتلبيس، كما لو كان المورد مورد تقيّة، فهل يشكّ أحد حينئذٍ في أنّ مثل هذه القرائن الإشاريّة تستوجب الإجمال؛ لأنّ هذا حينئذٍ يبيت جزءاً من قوانين المحاورة العقلائيّة في هذا الظرف بالخصوص.
فما نقض به السيّد الخوئي رحمه‌الله إذا كان مراده من نقضه الحالات العاديّة المتعارفة، غير الحالات الاستثنائيّة، فهو على حقّ، لكنّ هذا ليس خرقاً لقانون صلاحية القرينة، بل هو لا يصلح أن يكون قرينة طبقاً لقانون أبناء المحاورة.
وأمّا لو كان نقضه عامّاً حتّى لمثل هذه الحالات، مثل حال التقيّة أو حال إرادته إفادة أمرٍ مجمل ليجمل الخطاب؛ لأنّ الحكمة كما تتعلّق في الغالب بالبيان، قد تتعلّق في بعض الحالات بالإجمال.
وعليه: فإنّ مورد الهمس أيضاً في بعض الحالات يكون أيضاً مطابقاً لقانون المحاورة إذا كانت تقتضيه الحكمة، وإذا كان كذلك، فهو حتماً عند العرف من الموارد التي تصلح للقرينيّة، فلا يصحّ النفي على الإطلاق، كما هو ظاهر تقريره رحمه‌الله.
والأغرب ما نقض به في المخصّص المنفصل؛ فإنّ كلامنا هنا في الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة في سياق واحد، وفي كلام واحد، ومن الواضح: أنّ الظهور لم ينعقد بعد؛ لأنّ الظهور لا ينعقد موضوعاً للحجّيّة بمجرّد الدلالة الوضعيّة اللّفظيّة وبمجرّد الإرادة الاستعماليّة، بل إنّما يكون الظهور ظهوراً موضوعاً للحجّيّة إذا تمّ الظهور التصديقيّ والإرادة الجدّيّة المكتشفة، ومع الجملة المتّصلة لا شكّ في أنّ الترديد إذا كان لاحتمال كون المرجع ذلك عند أبناء المحاورة، فإنّه يجعل العرف يتوقّفون جزماً في التمسّك بأصالة الإطلاق أو العموم؛ إذ نقول: إنّ من جاء بالجمل الثلاث وذيَّل إحداها بالاستثناء، إنّما نشكّ في كون مرجع الاستثناء إلى الجملتين الأُولى والثانية، حيث نتردّد ولا يكون الظهور واضحاً بالنسبة لنا، ومعه، فهذا إجمال على مستوى المحاورة.
نعم، يرجع كلام السيّد الخوئي رحمه‌الله إلى نكتةٍ واحدة، وهي أنّه لا يحقّ للشارع أن يستعمل تعبيراً مجملاً بالنسبة للجملتين الأُولى والثانية، وهذا ما لم يُفده هو بكلامه، ولا يلتزم أيضاً به؛ إذ الشارع حرّ في إبداء كلامه، فقد تتعلّق إرادته بالبيان التامّ، وقد تتعلّق بالإجمال، كما قد تتعلّق في حالات نادرة بالإهمال أيضاً. وعليه: فجزماً ليس ينحصر باب الصلاحية للقرينة بما أفاد، بل السرّ فيه هو ما ذكرنا من كون لفظٍ لسببٍ من الأسباب، إمّا لجهلنا أو لغيره، يقضي بإجمال الخطاب.
هذه صفوة الكلام في هذه الكبرى الكلّيّة التي تنفع في مقامات مختلفة.
نعم، لو كان في مقام البيان من جميع الجهات، وأحرزنا هذا المعنى بشكلٍ تامّ، وأحرزنا أنّه هو الذي استعمل شيئاً فيه التباس، لو كان يريد غير الأخير، لا أنّنا نحن لا نعرف قواعد اللّغة، أو تردّد أقطاب اللّغة فسبّبوا لنا الشكّ، ففي مثل هذه الحالة، مقتضى الحكمة أن لا يستعمل ما يفيد الإجمال، لكن من أين سنحصل على مثل هذه المقدّمات في العادة؟
وعلى هذا الأساس، فقصره الصلاحية للقرينة بحال جهلنا فقط، ممّا لا ينبغي.
على أنّ غير واحدٍ من موارد محلّ الكلام ترجع إلى جهلنا في الحقيقة بمرجع جملة الاستثناء، فهو صغرىً من الصغريات، فلا يتمّ كلامه رحمه‌الله صغرويّاً ولا كبرويّاً.
وقد كان الأفضل أن يكون تنقيح هذا البحث في قواعد الجمع العرفيّ، لكنّه لم ينقّح هناك.