بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/08

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدّم الكلام في هذا التمهيد فيما يرتبط بمفهوم الموافقة.
وقد اتّضحت كيفيّة دلالة جملة المنطوق على مفهوم الموافقة، كما اتّضح أنّ الدلالة على مفهوم الموافقة بالمعنى الأعمّ، الشامل للتقسيمات المتقدّمة جميعاً، تارةً تكون دلالته دلالة لفظيّة، بل يقرب من النظر أن نعدّها دلالة منطوقيّة. كما في منصوص العلّة. وأُخرى تكون دلالة لفظيّة بواسطة المدلول، فهو من الانتقال من مدلول إلى مدلول، كما في الفحاوى العرفيّة. وثالثة نفس الحالة، لكنّها تكون بمقدّمات عقليّة. ورابعة في مفهوم الموافقة القائم على نكتة المساواة، يكون أيضاً استدلاليّاً برهانيّاً من باب استنباط العلّة.
ولا شكّ في أنّ الحديث عن تخصيص العامّ بالمفهوم يختلف في هذه الأنحاء، ولا يُساق مساقاً واحداً فيها جميعاً. ومن هنا، وجدنا معظم الكلمات تركّزت على مفهوم الأولويّة العرفيّ، بشهادة تمثيل أكثرهم له بما يُقال له: مفهوم الأفّيّة، (ولا تقل لهما أفّ)، من باب غلبة المثال على الكبرى.
هذا كلّه، قبل الحديث عن الأحكام في مفهوم الموافقة.
وأمّا مفهوم المخالفة، فتسميته مفهوم المخالفة إنّما كانت من باب مخالفة الحكم في المفهوم للحكم المذكور في المنطوق، ومخالفة الموضوع للموضوع، المعبّر عنه بـ الانتفاء عند الانتفاء. لكنّ دلالة المنطوق، لخصوصيّةٍ فيه، على وجود المفهوم، هي محلّ البحث، سواء كانت هذه الدلالة وضعيّة، كما هو المدّعى من بعضهم في بعض أدوات الشرط، أو كانت ببركة القيد، كما هو المدّعى عند بعضٍ آخر، وهي نظريّة السيّد البروجردي رحمه‌الله، كما تقدّم في بحث المفاهيم، أو كان مستفاداً من الإطلاق، كما هو رأي جماعة من المحقّقين في القرن الأخير، وربما قبله، أو كانت دلالة عقليّة، كما ذهب إليه بعضهم.
فعلى كلّ حال، فإنّ الدلالة حينئذٍ سوف تكون دلالة لفظيّة، إمّا تضمّنيّة على بعضها، وإمّا التزاميّة على أكثرها، وهو الأصحّ، لكن ليس كلّ مدلول التزاميّ، بل مدلول التزاميّ خاصّ.
وعلى هذا الأساس، فلا يوجد بحث نطيل فيه، وخصوصاً أنّ مفهوم المخالفة له موضع مستقلّ يُبحث عنه في علم الأصول. وقد تقدّم الكلام فيه.
فيقع الكلام بعد هذا التمهيد في جهتين:
1) تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة.
2) تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة.
وقبل الدخول في البحث، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المكان الذي يناسب عقد هذا البحث هو مباحث الجمع العرفيّ في باب التعادل والترجيح؛ لأنّ التنافي هناك إمّا تنافٍ مستحكم مستقرّ، وإمّا تنافٍ غير مستقرّ، بل يوجد فيه جمع عرفيّ. فالتخصيص في الحقيقة هو ضرب من ضروب الجمع العرفيّ، وهناك يُبحث في ضوابط التخصيص، وأنّه متى نخصّص ومتى لا نخصّص، فالمحلّ الطبيعيّ لهذا البحث هو هناك؛ ذلك أنّ هنالك مباني ضوابط مهمّة تُذكر للجمع العرفيّ، ولا بدّ من أخذ موقف منها؛ إذ تختلف النتيجة بحسب اختلاف المباني.
فنقول: التخصيص والتقييد إنّما يكون في باب الدليلين اللّفظيّين، ودلالتين لفظيّتين، ولا يمكن إهمال هذا الجانب بوجهٍ. وتحقيق هذا وتنقيحه في محلّه؛ إذ غير الدليل اللّفظيّ لا لسان له ليُتصرّف فيه، بل مقام إثباته ومقام ثبوته يكون واحداً، وإنّما نتصوّر التخصيص حيث يكون مقام الإثبات قابلاً لأن يكون مغايراً لمقام الثبوت (الكلام ليس في النسخ وتغيير حكم، بل عن التخصيص بمعنى أنّ هذا الفرد الذي ورد في المخصّص غير مشمولٍ من الأوّل للدليل العامّ على مستوى الإرادة الجدّيّة). وعلى هذا الأساس، فندخل إلى محلّ البحث.
والكلام في الجهة الأُولى: في التخصيص بمفهوم الموافقة.
وهنا ضوابط ناشئاً من البحث المتقدّم في التمهيد. وهي مذكورة في كلمات المحقّقين بشكل شذرات متفرّقة. والوحيد الذي نصّص على هذه الضوابط ونقّحها ورتبّها بعنوان أنّها ضوابط ـ في حدود ما رأينا ـ هو الشهيد الصدر رحمه‌الله، الذي ذكر ضوابط ثلاث.
الضابطة الأُولى: خلاصتها: أنّ التعارض بين العامّ ومفهوم الموافقة يسري دائماً من العامّ والمفهوم إلى العامّ والمنطوق، ولا تقتصر المخالفة بين الدليلين على خصوص المفهوم.
والوجه في ذلك تقدّم، وهو أنّه قد اتّضح أنّ الدليل لا يدلّ على المفهوم بخصوصيّةٍ مفهومةٍ من نفس الكلام، بل إنّما يدلّ على المفهوم دلالة المدلول على المدلول، فمثلاً: (ولا تقل لهما أفٍّ) دلّت كلفظ على حرمة الأفؤفيّة، لكنّنا انتقلنا من اللّفظ إلى المعنى، فاستفدنا بارتكازنا من خارج الكلام أنّ الأفؤفيّة محرّمة من باب الإيذاء أو الهتك، فاستفدنا من ذلك أنّ كلّ هتكٍ مساوٍ لها، فضلاً عمّا كان أشدّ منها في المصداقيّة، كالضرب أو التغليظ في الكلام، فإنّه حينئذٍ سوف يكون محرّماً بدرجة مساوية في الأوّل، وأشدّ في الثانية.
وعلى هذا: فالدلالة على المفهوم هنا، والذي هو بحسب الفرض الأخصّ من العامّ، باتت من باب دلالة المدلول على المدلول، وهذا ليس له لسان لفظيّ، ولا علاقة له بعالم الألفاظ، كما شرحناه مفصّلاً. وحينئذٍ: سوف يكون الانتقال من المدلول إلى المدلول بواسطة كبرىً كلّيّة، فنحن لسنا أمام دلالة لفظيّة، بل أمام دلالة ارتكازيّة بمعونة دلالة لفظيّة على المساوي أو الأقلّ. ومن الواضح: أنّنا ما كنّا لنستفيد حرمة الضرب، أو التغليظ في الكلام، لولا هذا الدليل، (نعم، قد يكون هناك حكم عقليّ يقتضي ذلك، لكنّه خروج عن محلّ الكلام).
فإذا افترضنا أنّ الأمر منحصر بالدليل اللّفظيّ مع ضميمة هذا الارتكاز، فصار انتقالنا إلى المصاديق الأُخرى بعد تنقيح الكبرى، كان بتوسيط الصغرى المنصوص عليها. والكبرى لم تُستفد من دلالة لفظيّة، بل الدلالة اللّفظيّة لم تكن إلّا دلالة على الصغرى، وهي لم تكن دلالة التزاميّة لنفس اللّفظ والكلام، بل بمعونة أمرٍ خارجيّ، وإذا كان الأمر كذلك، فلا شكّ حينئذٍ في أنّ الدلالة فيما يرتبط بالمفهوم ليست دلالة لفظيّة؛ لأنّها بضميمة أمرٍ غير لفظيّ، فلا تكون دلالة لفظيّة، وإن كان رأس الخيط فيها لفظيّاً، وإذا لم تكن دلالة لفظيّة، فلا تكون مشمولةً لقانون التخصيص؛ لأنّ التخصيص تصرّف في الدليل اللّفظيّ، كما هو واضح.
ومعه: فنكون بين أمرين، إمّا أن لا نقول بالتخصيص، كما هو موجود في كلمات بعض المحقّقين، وحينئذٍ: فإمّا أن نقدّم العامّ؛ لأنّه لا منافي له من سنخه، وإمّا أن نقدّم الخاصّ؛ لأنّه بإلغائه يلزم إلغاء أصله كما يُقال، وهو (لا تقل لهما أفٍّ)، وحينئذٍ: نقول: هنا يوجد مجال واحد للتخصيص، وهو القول بسريان النسبة بين الدليلين أو المعارضة والمنافاة البدويّة بين الدليلين من المفهوم إلى المنطوق، فتكون المعارضة في الحقيقة بين العموم وبين المنطوق بلحاظ هذه الخصوصيّة، لا بين المنطوق كلّه وبين المفهوم، وإلّا، كانت أساس المعارضة بين المنطوق وبين العموم، لا بين المنطوق والعموم؛ فإنّ الكلام هنا ليس في موردٍ يكون المنطوق بما هو منطوق داخلاً في المعارضة، وإلّا كانت من المعارضة بين منطوقين، بل رأس الخيط في المعارضة يُفترض فيه أنّنا لو كنّا والمنطوق هنا والعامّ هناك لما كانت هناك معارضة. وإنّما وُجدت المعارضة بسبب دلالة هذا المنطوق على مفهوم الموافقة، إمّا بكامله، وإمّا في بعض مصاديقه، كما لو كان العامّ يقول: يجوز ضرب كلّ قريب، وقوله: (لا تقل لهما أفّ)، لا علاقة لها به بمنطوقها؛ لأنّ هذه موردها الأفّيّة وتلك موردها الضرب، انتقلنا من (أفّ) إلى مطلق الإيذاء، ومطلق الإيذاء من مصاديقه الضرب، فبلحاظ هذا المدلول باتت هناك معارضة، والنسبة هي عموم وخصوص مطلق: يجوز ضرب كلّ قريب، ولا يجوز ضرب الأبوين، فبلحاظ المورد الوارد في العامّ النسبة بينهما بلحاظ الموضوع عموم وخصوص مطلق؛ لأنّ ذاك موضوعه كلّ قريب، وهذا موضوعه الأبوان خاصّةً.
من هنا، لا بدّ أن نفترض دائماً أنّه لا توجد بين المنطوق بما هو هو وبين العموم معارضة، وإذا كانت هناك معارضة بينهما، فهي أصلاً ليست داخلة في محلّ بحثنا، بل نعتبرها فعلاً غير موجودة، الكلام كلّ الكلام في التعارض مع المفهوم. والمقصود ليس هو المفهوم بتمامه؛ لأنّه إذا افترضنا أنّ المعارضة كانت مع المفهوم بتمامه في باب الأولويّة الارتكازيّة، والتي هي محلّ الكلام أصلاً، فحينئذٍ: لا يمكن أن نتصوّر أن لا تكون هناك معارضة بين العموم وبين المنطوق؛ لأنّ الانتقال من المنطوق إلى المفهوم، وهو الضرب، لم يكن مباشريّاً، بل كان بواسطة قاعدة كلّيّة المنطوق من مصاديقها. فلا بدّ أن نفترض أنّ النسبة بين العموم وبين مفهوم الموافقة في هذا القسم هي بلحاظ بعض مدلوله، أي: بلحاظ بعض المفاهيم الداخلة تحت كبرى كلّيّة، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: تصبح النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق، وإذا كانت النسبة كذلك، فهذه ليست إفادة اللّسان بنفسه، فنرجع إلى كبراها، وهذه أيضاً ليست من إفادة اللّسان بنفسه، فنرجع إلى الصغرى التي انتقلنا منها، والتي هي مفاد الدليل، وهي (أفّ)، وحينئذٍ: لا تكون (أفّ) دخيلة في المعارضة بنفسها.
هنا، يقول الشهيد الصدر والمحقّق النائيني والسيّد الخوئي+ وغيرهم: إنّ التعارض في الحقيقة ينتقل من المفهوم إلى المنطوق، والسبب: أنّ المفهوم ليس لساناً لفظيّاً، وقواعد الجمع العرفيّ إنّما هي بين الأدلّة اللّفظيّة. وإنّما ينتقل على أساس أنّ اللّفظ هو جزء الدالّ على هذا المفهوم، فلا بدّ وأن يُنتقل إليه بلحاظ دلالته تلك.
وقد ذكر المحقّقون في مقام التتمّة، أنّ هذا يخالف مجرى البحث في مفهوم المخالفة؛ لأنّ مفهوم المخالفة ابتداءاً هو ينشعب من دلالة لفظيّة، باعتبار أنّ مفهوم المخالفة مستفاد من اللّفظ، إمّا بدلالة وضعيّة، أو إطلاقيّة حكميّة، وهي من شؤون الدلالة اللّفظيّة وتوابعها أيضاً، (اللّهمّ إلّا على تقدير القول بأنّها بدلالة عقليّة)، فالتنافي بين العامّ وبين مفهوم المخالفة، يرتكز على مفهوم المخالفة ولا ينتقل إلى المنطوق.
وإذا أردنا أن ندقّق: فهو ـ في الحقيقة ـ تنافٍ بين العامّ وبين هذه الخصوصيّة الموجودة في المنطوق، ولكن لا علاقة لها بعقد الوضع والحمل المنطوقين، بل بعقد الوضع والحمل غير المنطوقين، وهما: الانتفاء عند الانتفاء، لكن الدلالة لخصوصيّة بناءاً على الوضع أو الإطلاق دلالة لفظيّة.
وبعبارةٍ أوضح: مرادهم في الحقيقة أنّ مفهوم المخالفة حيث ينشعب من دلالة لفظيّة مستقلّة في الكلام، وإن اندمجت في التلفّظ، فهي لا تؤثّر على المدلول المطابقيّ، والتنافي بين العامّ والمدلول الالتزاميّ اللّفظيّ لا يؤثّر على المدلول المطابقيّ لذلك المدلول الالتزاميّ، وإذا سقطت الدلالة الالتزاميّة عن الحجّيّة لا يعني سقوط الدلالة المطابقيّة، وإنّما يُبحث عن سقوط الدلالة الالتزاميّة بتبع سقوط المطابقيّة أو عدم سقوطها، لا عن العكس، كما هو واضح. بينما في محلّ كلامنا لا يمكن أن يُقال بالمعارضة، إلّا بالانتقال إلى الدلالة اللّفظيّة. والسبب أنّه لا يوجد دالّ لفظيّ مستقلّ في باب مفهوم الموافقة، لا بنحو التضمّن ولا بنحو الالتزام، فضلاً عن المطابقة، على مفهوم الموافقة، بل استُفيد من خلال ضمّ ارتكازٍ بين مدلوله والمدلول المنتقل إليه بواسطة هذه القاعدة الكلّيّة. فحقيقة التنافي حينئذٍ سوف تكون بين الدلالتين اللّفظيّتين.
نعم، هذا الكلام ذُكر بهذا الحدّ في الكلمات، وهي مجملة جدّاً.
لكنّ السؤال: أنّ هذا الكلام إن سلّمنا أنّه يتمّ في مثل مفهوم الموافقة الناشئ من ارتكاز، فالسؤال: هل هذا الكلام صحيح في بقيّة ما سُمّي بـ مفهوم الموافقة، مثل مفهوم الموافقة الذي يكون بضمّ مقدّمة عقليّة، أو مفهوم الموافقة الذي يكون الانتقال إليه بسبب أنّه منصوص العلّة، أم لا يتمّ هذا الكلام؟