بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/07

بسم الله الرحمن الرحیم

لا يزال الكلام في بيان مفهوم الموافقة، وانتهينا في البحث إلى أنّ الانتقال من المساوي إلى المساوي يكون في موارد التنصيص على العلّة، كما يكون أيضاً في موارد إلغاء الخصوصيّة عرفاً.
والمقصود بهذه الصورة هو أن يصبّ الشارع حكمه على موضوع، ثمّ يعلّل صبّ الحكم على الموضوع بعلّةٍ، كما في الحديث المعمول به عند الفقهاء: لم يحرّم الله الخمر لاسمه، وإنّما حرّمه لإسكاره.
فهنا كلام مدرسيّ للمحقّقين واضح في أنّ الموضوع الملفوظ في القضيّة التشريعيّة ليس أكثر من مصداق للموضوع الحقيقيّ للحكم؛ إذ يصبح موضوع الحكم حرمة كلّ مسكر، والخمر ليس سوى مصداق من مصاديق هذا العنوان.
لكن لا طريق لنا إلى عالم ثبوت الحكم سوى عالم إثباته، فيتوقّف اكتشاف الموضوع الحقيقيّ للحكم غالباً على تنصيص الشارع بعبارةٍ دالّةٍ قطعاً أو ظهوراً عليه، فإذا نصّص الشارع على العلّة، وكانت العبارة ظاهرة في أنّ المقام هو مقام العلّيّة، لا مقام جزء العلّة، ولا مقام الحكمة التي قد تتخلّف في بعض الفروض، فحينئذٍ: يُقتنص موضوع الحكم ويُنتقل حينئذٍ ـ كما يقول المحقّقون في العادة ـ من المساوي إلى المساوي.
لكنّ حقيقة الانتقال ليست من المساوي إلى المساوي، ولا من المصداق إلى الكلّيّ، بل الحقيقة هي أنّ الكلّيّ قد نُصّص عليه في الدليل في المورد؛ إذ عندما يرد الدليل الشرعيّ بأنّ الخمر لم يُحرّم إلّا لإسكاره، فقد نُصّص في الدليل على أنّ موضوع الحكم الكبرويّ هو المسكر، وأنّ الاسم لا علاقة له بالتحريم. ففي الحقيقة، مثل هذه القضيّة تضمّنت ذكر حكمين، أحدهما: الحكم في الكبرى، والآخر: الحكم في الصغرى، وهي الخمر.
فحينئذٍ: في منصوص العلّة نستطيع الجزم بأنّ موضوع الحكم في الكبرى هو جزء من المنطوق، فإثبات الحكم لمسكرٍ غير الخمر ليس انتقالاً من موضوع إلى موضوع، بل هو في الحقيقة مصداق للموضوع المذكور في القضيّة الملفوظة. وحينئذٍ: لا يكون الانتقال ـ بالدقّة ـ انتقالاً من المساوي إلى المساوي، بل يكون من الكلّيّ إلى مصاديقه؛ إذ نحن من نفس المنطوق فهمْنا أنّ موضوع الحكم هو الإسكار، وأنّ الخمر إنّما ذُكر مصداقاً لهذا الموضوع الكلّيّ، وهذا معنى التنصيص على العلّة، وليس له معنىً آخر.
ولذا وجدنا المحقّق النائيني رحمه‌الله يذكر في المقام ضابطةً (لم تخفَ هذه الضابطة على غيره من المحقّقين، لكنّه رحمه‌الله هو من نصّ عليها) الانتقال من مورد الدليل، أي: الموضوع الجزئيّ، إلى نظيره في العلّيّة، إنّما يكون حيث يُستفاد من الدليل كبرىً كلّيّة، وهذه الكبرى الكلّيّة، موضوعها ما عُلّل به الموضوع المذكور في القضيّة الملفوظة، فمن قولك: حرّمت الخمرة فإنّها مسكرة، يتشكّل قياس من الشكل الأوّل، وهو: الخمر مسكر، وكلّ مسكر حرام، فالخمر حرام. فإذا كانت الكبرى قد استفيدت من نفس القضيّة المنطوقة فيمكن تطبيقها في مورد النبيذ المسكر؛ فحرمة النبيذ المسكر لم نستفدها من نتيجة القياس الذي تشكّل في تحريم الخمر، بل إنّما استُفيدت من القضيّة التي وقعت كبرىً في هذا القياس المستفاد من المنطوق في القضيّة الشرعيّة، وحينئذٍ: فيبقى تحقيق الصغرى، وهو أنّ النبيذ هل هو مسكر أم لا؟ والشارع لا دخالة له أصلاً في الصغريات، حتّى في مورد النصّ، غاية الأمر: أنّه يختلف الموضوع، ففي مورد النصّ يقع على العنوان، فإذا لم يكن هناك شبهة مفهوميّة، فقد تحصل شبهة مصداقيّة، وقد لا تكون هناك شبهة، لا مفهوميّة ولا مصداقيّة. كما لو كان هنالك شبهة مفهوميّة في الخمر، في أنّه هل يشمل المخمرّ من غير العنب ـ مثلاً ـ  أم لا؟ وقد تكون هناك شبهة مصداقيّة، كما لو شكّ في أنّ هذا هل لا يزال في مرحلة الخلّيّة أم بلغ مرحلة الخمريّة.
المهمّ أنّنا إنّما استطعنا أن نقول بأنّ النبيذ حرام؛ لأنّنا حصلنا من القضيّة المنطوقة على كبرى وهي: كلّ مسكر حرام.
ولذلك، فإنّ الشيخ النائيني رحمه‌الله يذكر كلاماً في رسالته الشهيرة: الصلاة في المشكوك، أنّ هناك فرقاً بين مثل: الخمر حرام فإنّه مسكر، وبين مثل: حُرّمت الخمرة لإسكارها.
ففي الأوّل: من الواضح جدّاً عدم دخالة الموضوع الملفوظ في القضيّة الشرعيّة الملفوظة، وأنّ هذا التعبير صريح في أنّ العلّة التامّة للحكم هي الإسكار.
بينما في الثاني: يمكن أن يكون الموضوع المذكور في القضيّة الملفوظة جزء العلّة للتحريم، والإسكار هو جزء العلّة الأُخرى، وأنّ الخمرة إذا سُمّيت خمرة ولم تكن مسكراً لم تكن حراماً، كما أنّ المسكر إذا لم يكن خمراً فلا دليل على حرمته.
هذا ما أفاده رحمه‌الله.
وهو كما ترى انتقال من عالم الثبوت والبحث الكبرويّ إلى عالم الإثبات والاستظهار من الأدلّة.
وهذا في الحقيقة يحتاج إلى تنقيح أنّه متى يكون التعليل ـ على مستوى اللّسان الإثباتيّ ـ ظاهراً في العلّيّة التامّة؛ إذ ربما ذُكر التعليل ولم يكن المراد منه العلّة، أي: أنّه يكون حيثيّة تعليليّة، لا حيثيّة تقييديّة، أي: فلا يلازمه الحكم ثبوتاً وبقاءاً، وهذا كما في تحريم الزنا ـ مثلاً ـ، حيث قيل: إنّ تحريم الزنا كان لبطلان الأنساب، فالزنا بالمرأة اليائس، أو العقيم ـ مثلاً ـ، ليس فيه بطلان للأنساب، ومع ذلك يحرم، فقيل: إنّ هذه هي حكمة لتحريمه، والحكمة هنا لا بدّ وأن يُراد منها أحد مكوّنات العلّم في الحقيقة. وإنّما الفرق بين الحكمة وبين العلّة في أنّ الحكمة قد يتخلّف عنها بعض مصاديق موضوع الحكم مطلقاً، وأمّا جزء العلّة فلا بدّ وأن يكون موجوداً دائماً في المورد، وإلّا، لم تتمّ العلّة. فالحكمة في الغالب تكون في الغالب متواجدةً في موضوع الحكم، وقد لا تتواجد أصلاً، وأمّا جزء العلّة، فإن لم يكن موجوداً، فلا تتمّ العلّة، وإذا لم تتمّ العلّة، لم يكتمل الموضوع، وإذا لم يكتمل الموضوع فلا ينصبّ عليه الحكم، فلا يصير فعليّاً، ولو بقي جزء يسير من العلّة لم يتحقّق. فالحيثيّة التعليليّة لا يدور الحكم مدارها دائماً، بخلاف الحيثيّة التقييديّة.
إذاً، أوّلاً: إثباتاً لا بدّ أن يكون ظاهر الكلام هو العلّيّة، لا أمر آخر.
وثانياً: لا بدّ وأن يكون ظاهراً في العلّة التامّة، حتّى نستفيد منه في الإثبات لما هو موضوعه، وأمّا في النفي فلا نحتاج إلى العلّيّة التامّة، بل يكفي أن تنتفي العلّيّة الناقصة، كما هو واضح، فيكفي في طرف الإثبات، حتّى نحرّم النبيذ، لا بدّ وأن يكون ظاهر التعليل هو العلّيّة التامّة.
وحينئذٍ: وجدنا أنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله أشكل على المحقّق النائيني رحمه‌الله، قال: لا نوافقه على ما أفاد؛ فإنّنا لا نرى فرقاً بين القسمين المذكورين؛ إذ كلا الدليلين ظاهر العبارة فيهما التعليل، والعلّيّة ظاهرة في العلّيّة التامّة، خصوصاً وأنّ الشارع في مقام البيان، وقد ترك الاستفصال، وما دام قد ترك الاستفصال، فإنّه حينئذٍ يُستظهر أنّ العلّيّة تامّة، ولو كانت جزء العلّة، أو كانت هنالك علّة رديفة، لذكر.
وحينئذٍ: فلا ندرك فرقاً بين القسمين.
وعموماً، فإنّ هذا بحث إثباتيّ ليس من شأن الأصوليّ الدخول فيه، وهو يُستظهر في كلّ موردٍ بحسبه.
وأفاد في بعض تقريراته ـ انتصاراً للمحقّق النائينيّ رحمه‌الله ـ: أنّه قد يُقال: إنّ (حُرّمت الخمرة لإسكارها) يوجد فيه احتمال أن لا تكون الحرمة لمجرّد الإسكار، بل للمركّب من الخمريّة والإسكار معاً، فيكون التعليل بجزء العلّة، لا بتمام العلّة.
وحينئذٍ: فيمكن الجواب: بأنّ التعليل في المورد الأوّل الذي قبل فيه باقتناص الكبرى الكلّيّة وإثبات حكم بحرمة كلّ مسكر، أيضاً ليس أكثر من ظهور، وأمّا احتمال الخلاف فموجود؛ فإنّ قوله: (فإنّه مسكر) ليست نصّاً في المطلوب بحيث لا يُحتمل الخلاف ولو بدرجة ضئيلة. وهذا جواب نقضيّ.
والجواب الحلّيّ: أنّ تطرّق الاحتمال لا يُبطل الاستدلال في باب الظهورات؛ إذ تطرّق الاحتمال ملازم دائماً لباب الظهورات؛ فإنّ معنى حجّيّة الظهور هي حجّيّة الاحتمال الراجح من دلالة الكلام، رجحاناً معتدّاً به، بما يجعله في العرف ظهوراً، ولذا لم نقل بحجّيّة الظهور بنفسه، بل بمقتضى جريان السيرة العقلائيّة على العمل به.
وهذا الجواب متين، لكنّ البحث بحث صغرويّ على كلّ حال، وهو في كلّ موردٍ بحسب ما يُستظهر منه. فقد يُستظهر منه العلّيّة التامّة، وقد لا يُستظهر منه العلّيّة أصلاً.
لكنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله أجاب بجوابٍ ثانٍ على كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله، فأفاد: أنّ ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ التعليل بلام التعليل لا يفيد، هو ـ اتّفاقاً ـ هو مورد استفادة الفقهاء حرمة كلّ مسكر من الحديث الشريف القائل: (لم يحرّم الله الخمر لاسمه، وإنّما حرّمه لإسكاره)، وقد عُلّل فيه بلام التعليل، فهل يخالف المحقّق النائيني رحمه‌الله كلّ الفقهاء في هذا؟
لكنّ العجيب هو نقل السيّد الخوئي رحمه‌الله لهذه الرواية، وليس كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله؛ إذ المحقّق النائيني رحمه‌الله إنّما شكّك في دلالة اللّام في قضيّة إثباتيّة غير مسوّرة بأداة الحصر، وغير مسبوقة بعقد النفي، أي: (حُرّمت الخمرة لإسكارها)، هذا ما كان كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله عنه في رسالة الصلاة في المشكوك، بينما في الحديث الذي نقض به السيّد الخوئي رحمه‌الله، وهو (لم يحرّم الله الخمر لاسمه، وإنّما حرّمه لإسكاره)، لو لم يكن إلّا أداة الحصر لكانت نفياً لدخالة عنوان الخمريّة، بل لو كانت الجملة الأُولى من دون أداة الحصر لصلحت لذلك أيضاً.
فما أراده المحقّق النائيني رحمه‌الله هو أنّه لو ورد مثل: حرّمت الخمرة لإسكارها، ولو في غير مورد الخمرة، كما لو قيل ـ مثلاً ـ : حُرّمت السيجارة لأنّها مظنّة السرطان، فيُقال حينئذٍ: لا نجزم من ظهور هذا اللّفظ أنّ كلّ ما كان مظنّة السرطان يكون محرّماً، بل يمكن أن يكون عنوان كون الشيء سيجارة دخيلاً في الأمر أيضاً، لكنّ الشارع لم يبيّن، واللّقب لا مفهوم له. فالمحقّق النائيني رحمه‌الله يريد أن يقول: بحسب الظهور اللّفظيّ نحن لا نجزم في القضيّة الإثباتيّة بأنّ اللّام هي للتعليل، ولا نستفيد منها الجزم بالعلّيّة التامّة، بل قد لا نستفيد منها العلّيّة أيضاً. ويدّعي المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ في كلماتٍ أُخرى له في غير بحثه في الصلاة في المشكوك ـ وجود موارد عديدة في الفقه عُلّلت بلام التعليل ونجزم بأنّها ليست علّة، فضلاً عن أن تكون علّة تامّة، وأنّها من قبيل الحِكَم.
وللإنصاف فإنّنا إذا تتبّعنا الموارد التي فيها لام التعليل، لوجدنا أنّ أكثرها لم يتعامل معه الفقهاء على أنّها علل، بل على أنّها حِكَم.
السيّد الخوئي رحمه‌الله يزعم كبرويّاً أنّ القضيّة الإثباتيّة المعلّلة بلام التعليل يُستفاد منها العلّيّة. وهو بحث إثباتيّ، كما أشرنا.
نعم، يُذعن السيّد الخوئي رحمه‌الله في مورد، يقول: لو كان التعليل بأمرٍ قريب، بحيث لا نجزم أنّ التعليل ناظر إلى كبرى كلّيّة، بل ناظر إلى كبرىً في مورد المصداق (وهذا التعبير منّا)، كما لو
قال: أعطني هذه الرمّانة لكبرها، كما لو كان عناك وعاء أمامه فيه رمّان كثير، فأشار إلى واحدة منها وقال: أعطني هذه الرمّانة لكبرها، فقال: هنا، جزماً لا يُستفاد التعليل بكبرىً كلّيّة؛ إذ ليس كلّ كبير مطلوب، بل الكبير بين هذا الرمّان هو المطلوب، فكونه رمّاناً دخيل، وتفضيله على غيره من أفراد الرمّان الموجود الموجودة هو بالكبر، فالكبر جزء العلّة، بل قد لا يكون علّة أصلاً، قد يكون مجرّد حكمةٍ لتفضيله على غيره.
لكن في تقديرنا أنّ المورد الذي ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله خارج تخصّصاً عن هذا البحث؛ إذ بحثنا في القضايا التشريعيّة الكبرويّة الكلّيّة، وهو مثّل بمثالٍ لا يختلف فيه اثنان؛ إذ لا نرى إمكانيّة استفادة أنّ كلّ كبير مطلوب في هذا المجال، كما هو واضح، بل حتّى الموجبة الجزئيّة لا تُستفاد، بل حتّى لا نستفيد ذلك في كلّ رمّان، كما لو كان هناك وعاءان أحدهما فيه رمّان حلو والآخر فيه رمّان حامض، فلا يمكن التعميم بإعطائه الكبير من الرمّان الحامض، ومن هنا، لا بدّ من اتّباع ظهور الكلام، والمهمّ أن يكون ظهور الكلام هو العلّيّة.
وهذا البحث صغرويّ إثباتيّ وليس من شأن الأصوليّ أن يبحث عنه.
لكنّه مع ذلك بحث مهمّ؛ إذ وجدنا في بعض المدارس الإسلاميّة أنّ كلّ تعليل فهو يُحمل على العلّة، وحينئذٍ: فيُنتقل بمجرّد ذكر أداةٍ من الأدوات التي تذكر حكمةً.
وأمّا عندنا فلا شكّ في أنّ الفقه الإماميّ مبنيّ على الحذر الشديد في هذه الموارد من الوقوع في فخّ القياس الفقهيّ الذي هو التمثيل المنطقيّ.
هذا هو مفهوم الموافقة والانتقال من المساوي إلى المساوي.
وقد اتّضح أنّ الانتقال ليس من المساوي إلى المساوي، بل هو انتقال من الكبرى المنصوصة، إلى صغراها، وهذا لم يعد يُسمّى مفهوماً، بل هو مصداق المنطوق في الحقيقة؛ إذ الموضوع الحقيقيّ، وهو الكبرى، قد نُطق به، والنبيذ مصداق من مصاديقه كما هو واضح، والدلالة دلالة منطوقيّة، والاستفادة في النبيذ، وإن لم يُذكر بلفظه، من باب أنّه مصداق حقيقيّ للكبرى الكلّيّة، وهي حرمة كلّ مسكر.
بقي مورد، وهو مورد استنباط العلّة. وهذا كبرويّاً ليس فيه بحث، بل القانون الذي شرحناه الآن جارٍ عليه. غاية الأمر: أن يحرّم الشارع شيئاً ولم ينصّص على سبب التحريم، فنأتي نحن وننقّح المناط ونستنبط العلّة، فنوسّع ونضيّق بحسب العلّة التي استنبطناها.
والقانون الحاكم هنا، ما دام الشارع لم يعلّل في كلامه، هو أن يكون استنباط العلّة استنباطاً قطعيّاً، وهذا ما لا طريق له عادةً في الأحكام التعبّديّة. نعم، له طريق في موارد المستقلّات العقليّة، لكنّ المستقلّات العقليّة لا تتعرّض للمواضيع، بل تتعرّض لخطوط عريضة وكبريات كلّيّة، كما هو واضح. ثمّ إذا كان الحكم عقليّاً، فلا يأتي فيه كلّ هذا البحث أساساً.
إذاً، فالبحث في استنباط العلّة قد يحصل من تجميع قرائن وشواهد، أو باستفادتها من مجموع تعاليم الشارع. فإذا أمكن تجميع موارد صلحت لأن تكون حقيقة العلّة، فحينئذٍ: يكون استنباط العلّة قطعيّاً.
وأمّا الاستنباط الظنّيّ للعلّة، ثمّ القياس عليه، فهو القياس بعينه، وهو من أوضح فروض القياس؛ لأنّ العلّة حينئذٍ تكون مظنونة، لا مقطوعة، فكيف يُتعدّى من المورد إلى غيره؟!
نعم، في موارد استنباط العلّة قطعاً بالبراهين العقليّة أو بالقرائن الخارجيّة، أو ما إلى ذلك، لا يمكن أن يُقال: إنّ الدلالة دلالة منطوقيّة، وأنّ ما انتقلنا إليه هو مصداق الدلالة المنطوقيّة؛ إذ بالدقّة لم يُنتقل إلى هذا من اللّفظ، بل إنّما جمعناه من مجموع الأدلّة والبراهين.
فهناك فرق في كيفيّة التعاطي والتعامل بين منصوص العلّة وبين مستنبط العلّة؛ إذ الحكم المتعدّى إليه في الموضوع الثاني في مستنبط العلّة ليس مصداقاً للمنطوق، بل مصداق للمستنبط. بينما في منصوص العلّة هو مصداق للمنطوق؛ لأنّ العلّة قد نُطق بها في نفس الدليل الشرعيّ المعلَّل.
بعد هذا، نعود إلى محلّ الكلام:
قال صاحب الكفاية رحمه‌الله: اتّفق الفقهاء على تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة فيما لو كانت النسبة بين مفهوم الموافقة والعامّ هي نسبة العموم والخصوص المطلق. بينما اختلفوا في مفهوم المخالفة.
وقد قلنا: إنّ المحقّقين اعترضوا عليه بأنّه رحمه‌الله قد نقّح البحث بتعابير مختصرة لا تنفع بشيء.
فكيف تتمّ عمليّة التخصيص بين منطوق له لسان، ومفهوم ليس له لسان. وهنا، قال بعضهم: يُقدّم المنطوق مطلقاً؛ لأنّ المنطوق له لسان، وذاك ليس له لسان؛ أو لأقوائيّته؛ لأنّ المنطوق أقوى دلالةً من المفهوم. وبعضهم قال: بل نقدّم المفهوم؛ لأنّ المفهوم لا يقبل أن نتصرّف فيه؛ إذ لا لفظ له.
***