بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف الحادي عشر.
في تخصيص العامّ بالمفهوم.
ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّه وقع الاتّفاق بين المحقّقين على تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة. وحصر إيقاع البحث بمفهوم المخالفة. ثمّ ذكر بعد ذلك كلاماً كلّيّاً عابه عليه جلّ المحقّقين، حيث أفاد رحمه‌الله ما خلاصته:
أنّ الجملة المشتملة على مفهوم المخالفة، إمّا أن تكون متّصلةً سياقاً مع العامّ، أو منفصلة عنه. وحينئذٍ: فإن كانت دلالتهما (العامّ والمفهوم) بالوضع أو الإطلاق، فلا عموم ولا مفهوم؛ إذ يصلح كلّ واحدٍ منهما لكي يكون قرينة على الآخر، فيجمل الخطاب. ولا بدّ لنا حينئذٍ من الانتهاء إلى العمومات الفوقانيّة، إن وُجدت، وإلّا، فإلى الأصول العمليّة، وما تقتضيه في كلّ مقامٍ بحسبه.
وأمّا إن كانت دلالة أحدهما ودلالة الآخر بالإطلاق، فإنّه يُقدَّم ما كانت دلالته بالوضع على ما دلالته بالإطلاق، من باب تقديم الأظهر على الظاهر؛ لأنّ ملاك التقديم عنده في مباحث الجمع العرفيّ هو الأظهريّة.
قال: وكذا إذا كانت الجملتان منفصلتين، غاية الأمر: أنّهما إذا كانتا متّصلتين، ففي حالات الإجمال، يكون الإجمال حقيقيّاً، وإذا كانتا منفصلتين، فالإجمال حكميّ، فلا تقديم لإحداهما على الأُخرى، والأقوى دلالةً هو الذي يُقدَّم.
هذا الكلام بهذا المقدار عابه عليه المحقّقون، قالوا: إنّ هذا الكلام الكبرويّ الذي يقضي بالإجمال في حالة تكافؤ الظهورين، حقيقةً في المتّصلين، وحكماً في المنفصلين، وتقديم الأقوى ظهوراً في حالات التعارض على الأضعف ظهوراً، كلام كبرويّ مسلَّم عند الكلّ، فما جعله تحقيقاً لمحلّ الكلام لم يفدنا فيه بشيء؛ إذ ما نحتاجه في المقام هو تطبيق هذه الكبريات على الصغريات، لنرى كيف نقايس الدلالة والظهور بين عمومٍ وبين مفهوم؛ إذ المفروض أنّنا نتحدّث عن مفهوم أخصّ، والمفروض أنّ الأخصّ تكون دلالته في مورده أظهر من الأعمّ، فما ذكره كلام كبرويّ غائم، لكنّه لا ينفع في تحقيق محلّ الكلام، وهو رحمه‌الله قد صدّر بحثه بأنّه في مقام تحقيق الحقّ في المقام، ولم يتّضح لنا هذا الحقّ.
والإشكال الثاني ـ المستخلص من كلمات بعض المحقّقين ـ: أنّه علاوة على كون الكلام كبرويّاً، فلم نكد نفهم هذه الترديدات في كلامه. أفليس الكلام في تخصيص العامّ في مفهوم المخالفة؟! فالنسبة لا بدّ وأن تكون نسبة العموم والخصوص المطلق، أو من وجه ـ على أحسن التقادير (كمورد التوفيق العرفيّ، كما يسمّيه المحقّق الخراسانيّ رحمه‌الله، مثل التعارض بين أدلّة الأحكام الأوّليّة وبين لا ضرر، حيث التزم بتقديم لا ضرر عليها، مع أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه) ـ؛ إذ هذا هو معنى التخصيص. وحينئذٍ: لا يكاد أحد يشكّ فقهيّاً في أنّ النسبة إذا كانت هي نسبة العموم والخصوص المطلق، في أنّ الأخصّ مطلقاً يُقدّم، وهو الأظهر، سواء كانت دلالته إطلاقيّة أم لفظيّة؛ إذ أخصّيّته تجعله أظهر من العامّ بما هو عامّ، وحينئذٍ: فالأخصّ مطلقاً لا يتردّد العرف في تقديمه، فلماذا وقع هذا البحث أساساً؟ لم يبيّن لنا نكتته.
نعم، هو ذكر بعض النكات التي تختصّ بمحلّ الكلام، كنكتة تقديم كلّ منطوق على مفهوم، ـ مثلاً ـ، ولكن نقول: أيضاً إذا صرنا إلى هذا، فلا معنى لما ذكره؛ إذ على ما ذكره يُقدَّم المفهوم على المنطوق في بعض الحالات، مع أنّه بناءاً على القاعدة من أنّ كلّ منطوق يتقدّم على كلّ مفهوم لا يأتي التفصيل الذي ذكره، بل لا بدّ من تقديم العامّ دائماً وعدم تخصيصه بالمفهوم، مع أنّه لم يتردّد أحد في تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة إذا كان أخصّ منه مطلقاً.
ثمّ أُشكل في بعض الكلمات بإشكال ثالث لا قيمة له، وهو أنّه ما دام الإجمال إجمالاً، في المنفصل كما في المتّصل، فلماذا شقّق إلى المنفصل والمتّصل ما دامت النتائج واحدة؟
لكنّ الجواب واضح؛ فإنّ الإجمال في المنفصل حكميّ، على أساس التحقيق، بينما هو في المتّصل حقيقيّ، وهذا يقتضي هذا التفصيل الذي صنعه رحمه‌الله؛ لأنّ الإجمال الحكميّ ليس إجمالاً حقيقيّاً، وإنّما هو من باب عدم ترجيح أحدهما على الآخر على مستوى الدلالة، وإلّا، فكلّ واحد دلالته منعقدة وكاملة، بينما في المتّصلين لا يكتمل موضوع حجّيّة الظهور حينئذٍ في أيٍّ منهما.
من هنا، أعرض المحقّقون عمّا ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله، من باب أنّه لم يأتِ بجديدٍ في هذا البحث، وإن زعم التحقيق فيه. وعقدوا البحث في كبراه؛ إذ الأصوليّ لا معنى عنده لشيءٍ اسمه إجماع أو شهرة في باب الأصول؛ لأنّه ليس الكلام في اتّفاقٍ على حكمٍ فرعيّ حتّى نُلغي البحث في مفهوم الموافقة ـ مثلاً ـ  بحجّة أنّه ممّا اتُّفق على التخصيص به؛ ذلك أنّ أصل وجود الإجماع هنا ممّا لا ينبغي قوله إذا أُريد الإجماع الاصطلاحيّ؛ إذ أكثر المتقدّمين ليس لدينا مبانٍ أصوليّة لهم، وكثير من الذين دوّنوا مختصرات في الأصول، لم يتعرّضوا لمثل هذه المباحث التفصيليّة.
وعلى هذا الأساس، فالاتّفاق لا يُلغي بحثاً ولا يؤثّر شيئاً؛ لأنّ العبرة هنا بميدان التحقيق، لا بدعاوى الإجماعات والاتّفاقات.
وإذا كان الأمر كذلك، فحقّ البحث في المقام أن يُعقد في هذا الموقف في مقامين: أوّلهما: لمفهوم الموافقة. والآخر: لمفهوم المخالفة.
لكن قبل الدخول في هذين المقامين، لا بدّ من تحقيقٍ مختصر للمصطلحات والتقسيمات الأساسيّة للمفهومين. من هنا، وجدنا المحقّق النائيني رحمه‌الله وبعض المحقّقين تعرّضوا لبيان للمصطلحات والتقسيمات الأساسيّة المؤثّرة في البحث في المقام.
فقد ذكروا أنّ المراد من مفهوم الموافقة هو حكم غير مذكور بصراحة في المنطوق، لكنّه موافق في الإيجاب والسلب للحكم الموجود في المنطوق.
وهنا تساؤل: فهل هو حكم لنفس الموضوع أم لغير الموضوع؟ وهل المقصود سنخ حكم غير سنخ المذكور، أم هو نفس سنخ المذكور؟ من هنا، نحتاج إلى التحديد، فنقول:
لا شكّ في أنّ المقصود من الحكم هو نفس الحكم، أي: إذا كان الحكم هو إيجاب الإكرام، ففي مفهوم الموافقة أيضاً الحكم لا بدّ أن يكون هو إيجاب الإكرام، وإذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح: أنّ الموضوع هو الذي يختلف، وإلّا، فإذا لم يختلف الموضوع ولا المحمول، فهو نفس الحكم، لا حكم ثانٍ، فلا يكون حكماً بالأولويّة، أو مفهوم الموافقة. فلا بدّ من القول بأنّ الموضوع هو الذي اختلف عن الموضوع الأوّل، فيكون الموضوع موضوعاً ثانياً.
فإذا كان نفس الحكم والمحكوم به، لكن المحكوم له أو عليه هو الذي تغيّر، فأوّل ما ربما يأتي إلى الذهن هو أنّ هذا هو القياس بعينه؛ إذ هو التعدّي من موضوع إلى موضوع آخر في الحكم، مثل: أنّ النصّ الشرعيّ جاء بإكرام العادل، فنتعدّى منه إلى إكرام العالم بلا دليل، أفليس هذا قياساً؟ وما الفرق بين مفهوم الموافقة وبين القياس؟
قالوا: إنّ مفهوم الموافقة هو الذي يُنتقل من الدليل إليه بالأولويّة العرفيّة. وهذا الكلام يتضمّن خصيصتين:
أولاهما: خصيصة الأولويّة، يعني: الحكم المنصبّ على الموضوع في المنطوق يَثبت لموضوعٍ آخر بنفسه، بالأولويّة المفهومة من نفس الدلالة المنطوقيّة.
والثانية: أن تكون هذه الأولويّة عرفيّةً. ولا شكّ في أنّ المقصود من الأولويّة العرفيّة هو ما يُفهم من ارتكازات وراء اللّفظ، لا من اللّفظ ونفسه؛ إذ لا شكّ في أنّنا لو كنّا نحن والألفاظ، فلا نكاد نفهم شيئاً من نفس اللّفظ؛ لأنّ كلّ لفظٍ فدلالته إمّا دلالة مطابقيّة على الشيء وإمّا التزاميّة وإمّا تضمّنيّة. ومن الواضح: أنّ الدلالة المطابقيّة في المقام لا تدلّ إلّا على ما نُطق به. فلا يُنتقل من موضوع إلى موضوع ولا من متعلَّق إلى متعلَّق. وواضح أيضاً أنّ الدلالة ليست تضمّنيّة.
إذاً، فإذا كانت الدلالة دلالة لفظيّة، فهي لا بدّ وأن تكون التزاميّة. لكنّ الدلالة الالتزاميّة حتّى تكون متمحّضة في اللّفظيّة، فلا بدّ وأن تكون هناك علاقة لفظيّة بين اللّفظين بحيث يُنتقل من الأوّل إلى الثاني بالالتزام اللّفظيّ. ومن الواضح جدّاً أنّ الدلالة في المقام غير متمحّضة في اللّفظ؛ إذ الانتقال من أحد الأمرين إلى الآخر إنّما يكون بتوسّط مقدّمة خارجيّة، وهي أنّ الشارع ـ مثلاً ـ  الذي يحرّم قول (أفّ) للوالدين إنّما يحرّم ذلك حفظاً لحرمتهما، فما يكون مساوياً لـ (أفّ) في هتك الحرمة، فضلاً عمّا يكون أكثر هتكاً، فبطريقٍ أَوْلى سوف يكون محرَّماً.
ومن هنا، ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله نكتة مهمّة في المقام، (وهو الوحيد الذي وجدناه يذكر ذلك)، فأفاد: أنّ مفهوم الموافقة هنا بمعنى الأولويّة في المقام إنّما يُستفاد بالانتقال من مورد الكلام الذي هو صغرى، إلى كبرىً غير مذكورة في المقام، تُفهم منه. ونضيف: بضميمة ذلك الارتكاز الذي ذكرناه. فيكون المقصود ﴿ولا تقل لهما أفٍّ﴾، يعني: ولا تهتك حرمتهما، وذُكر (أفّ) للتنبيه على فداحة وعِظَم ما هو أعظم منه من باب أنّه أقلّ وأبسط المصاديق المتصوَّرة في العادة والعرف. فيكون الشارع بقوله: ﴿ولا تقل لهما أفٍّ﴾، قد نبّه على المصداق الخفيّ للهتك، ليقول لنا: إنّ المصاديق غير الخفيّة مفروغ عن حرمتها. فيكون هذا التشريع يتضمّن ـ بأسلوب غير مباشر ـ تشريع كبرىً كلّيّة مفادها: لا تهتكهما بأيّ أنواع الهتك، ولو كان في مستوى قول كلمة (أفّ).
وإذا دقّقنا أكثر، فهذا الانتقال ليس انتقالاً لفظيّاً فحسب، بل هو انتقال من اللّفظ الدالّ إلى مدلوله، الذي هو معنى كلمة (أفّ)، والانتقال من مدلول إلى مدلول آخر أعظم، فالتلازم إنّما هو بين المدلولين، لا بين المدلول الثاني غير المذكور، كالضرب للأبوين، وبين لفظ (أفّ)؛ إذ لفظ (أفّ) لا يدلّ إلّا على معناه، فمنه انتقلنا إلى الضرب.
فالعلاقة بالدقّة بين مدلول كلمة (أفّ) وبين المدلول المنتقل إليه بالأولويّة، وهو: لا تضربهما، هي علاقة بين المعنيين، لا بين اللّفظيّين، وهو ليس انتقالاً لغويّاً، بل هو انتقال بواسطة عنوان جامعٍ للاثنين. فمن الواضح ارتكازاً أنّه لا علاقة أساساً بين شيء من مقولة اللّفظ، أعني: مدلول لفظ (أفّ)؛ لأنّ مدلول لفظة (أفّ) بالحمل الشايع هو أفّ، وبين شيء من مقولة الفعل، وهو الضرب، لا مادّةً ولا هيئةً ولا مدلولاً، ولولا توسيط المفهوم الارتكازيّ من ﴿ولا تقل لهما أفٍّ﴾، وهو: لا تهتكهما، ولا تؤذهما، لما أمكننا الانتقال المباشر من كلمة (أفّ) إلى كلمة (ضرب). فالانتقال ليس مباشرةً من مدلول إلى مدلول، ليس من مدلول اللّفظ إلى المدلول الذي شكّل مفهوم الأولويّة، بل الانتقال كان بتوسّط عنوان كلّيّ، ففهمْنا من الخطاب لحنه (وهو ما يسمّونه لحن الخطاب)، وهو أنّ (أفّ) مثال عاديّ أو خفيّ أو ضعيف لكبرى كلّيّة، هي هتك الوالدين، ما جعلنا ننتقل إلى كلّ مصاديق الهتك، التي تكون مساوية لـ (أفّ)، فضلاً عمّا هو أعلى منها؛ لأنّ قوّة الملاك للردع والنهي في الأعلى، كالضرب، أقوى.
ولذلك، فهذه الفحوى وإن كانت عرفيّة، لكنّها ما كانت لتحصل لولا الانتقال من المنطوق إلى كبرى كلّيّة تنطبق على المنتقل إليه بالتساوي أو بالأولويّة.
ومن هنا، فالمفهوم العرفيّ ليس عبارةً فقط عن الانتقال إلى الأولويّة. فالتعبير عنه بـ مفهوم الأولويّة خطأ؛ لأنّ مفهوم الموافقة قد يكون أَولى وقد يكون مساوياً على أساس هذا التحليل. والانتقال من المساوي إلى المساوي ليس قياساً، بل هذا بعد أن فهمْنا لحن الخطاب صار موضوع الحكم كبرىً كلّيّة، وصار المنصوص عليه، وهو كلمة (أفّ) مجرّد مصداق من مصاديق الموضوع، ولُفظ هذا الموضوع لنكتة أنّه أضعف المصاديق، فإذا كان هناك مصداق مثله يتّصف بأنّه أضعف المصاديق فيُنتقل إليه أيضاً، وليس هذا من القياس في شيء.
نعم، لو كان هناك مصداق أدنى منه، فحينئذٍ: لا نستطيع الانتقال إليه؛ إذ كلمة (أفّ) لا تصلح مثالاً للهتك الذي هو أضعف منها. بل لا بدّ من التماس دليلٍ آخر عليه حينئذٍ.
وهذا هو ما درج القوم على تسميته بـ مفهوم الموافقة.
لكن ذكر المحقّقون، ومنهم المحقّق النائيني رحمه‌الله، أنّ مفهوم الموافقة لا يقتصر على هذا، بل يوجد موارد أُخرى تسمّى بـ مفهوم الموافقة، في باب الأولويّة، وفي باب التساوي، ولا بدّ من التعرّض لها.