بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف العاشر.
وهو معقود للحديث عن أنّ العامّ إذا حُكم بحكمٍ، ثمّ تُعقّب بضميرٍ يتضمّن حكماً آخر، وكان هذا الحكم الثاني مختصّاً ببعض أفراد العامّ، فهل يُوجب ذلك اختصاص الحكم الأوّل بهذا البعض أم لا؟
هذا هو المراد من العنوان الأصوليّ المعروف، المعبّر عنه بـ تعقّب العامّ بضميرٍ يرجع إلى بعض أفراده.
والمثال المدرسيّ لهذه المسألة الأصوليّة هو الآية 228 من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ﴾.[1]
توضيح محلّ البحث في هذه الآية أن يُقال: (المطلّقات) جمع محلّى بأل، فهو عموم، بناءاً على أنّ الجمع المحلّى من أدوات العموم. وأمّا لو بنينا على أنّه ليس من أدوات العموم فإنّه ينبغي أن يُقال: إنّ البحث هنا ليس مختصّاً بالعموم الاصطلاحيّ، فيشمل مثل هذه الصيغ ولو كانت من قبيل المطلقات.
وقد حُكم هذا العامّ بحكمين (هناك حكم ثالث: وهو لا يحلّ لهنّ أن يكتمْن... لكنّ هذا الحكم ليس محلّاً للبحث هنا):
أوّلهما: أن يتربّصْنَ بأنفسهنّ ثلاثة قروء. وقد تضمّن هذا الحكم تشريع العدّة للمرأة. ومقتضى الإطلاق في طرف الحكم أنّ لزوم التربّص والاعتداد ثلاثة قروء شامل لكلّ مطلّقة، لكنّه لا يأبى عن تخصيص أو تقييد بقرينة منفصلة. لكنّ الكلام فعلاً ليس في القرائن المنفصلة، بل الكلام في نفس الخطاب.
والثاني: وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ إن أرادوا إصلاحاً. وهذا حكم يشرّع حقّ الرجعة للزوج في ضمن الثلاثة قروء. ومن الواضح: أنّ حقّ الرجعة له في ضمن الثلاثة قروء إنّما هو في خصوص الطلاق الرجعيّ، لا في كلّ طلاقٍ فيه تربّص ثلاثة قروء. فالضمير في (بعولتهنّ) مرجعه إلى المطلّقات، ونحن نعلم أنّ الشارع لا يريد كلّ مطلَّقةٍ، بل بعض المطلَّقات، كالمطلَّقة بعد الدخول، والمطلَّقة في غير الطلقة الثالثة، وغير اليائس، وإلى ما هنالك، فنعلم بأنّ هذا الضمير لا يعود إلى العموم المصدَّر به الكلام، بل إلى بعض أفراده.
فالسؤال الذي يُطرح هنا: هل هذا يستوجب اختصاص الحكم الأوّل بهذا البعض من الأفراد، فتصبح خصوص الرجعيّة هي التي تتلبّث ثلاثة قروء؟ أم لا، بل يبقى موضوع الحكم الأوّل هو العامّ بعمومه؟
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكلام في هذا المبحث إنّما ينبغي أن يكون فيما لو علمْنا من نفس الخطاب أنّ الضمير يرجع إلى بعض أفراد العامّ المحكوم بالحكم الأوّل. وأمّا لو علمْنا بذلك بقرينةٍ من خارج الكلام، فإنّ البحث اللّفظيّ اللّغويّ الآتي لا يتأتّى؛ إذ عليه: من الواضح أنّه لا يلزم تصرّف لفظيّ، لا في العموم، ولا في مرجع الضمير. كلّ ما يحصل حينئذٍ هو التصرّف على مستوى المراد الجدّيّ.
ولذلك، فإنّ الآية التي هي المثال المدرسيّ ليست مصداقاً لمحلّ البحث؛ إذ لو كنّا وهذه الآية المباركة لأثبتنا كون مرجع الضمير كلّ أفراد العامّ، وأنّ كلّ مطلّقة تعتدّ ثلاثة قروء، وكلّ مطلّقة بعلها أحقّ بإرجاعها في القروء الثلاثة. ونحن إنّما علمْنا بأنّ الرجعة كحقٍّ ثابت للزوج مختصّة ببعض أفراد المطلَّقة، من خارج هذه الآية. والقرينة المنفصلة عن الكلام من الواضح جدّاً أنّها لا تتصرّف إلّا في الإرادة الجدّيّة، وهي تقتطع على مستوى المراد الجدّيّ. فلا تضرب الظهور اللّفظيّ على مستوى أصالة العموم، أو على مستوى مرجع الضمير.
وبعبارةٍ أوضح: مقتضى الصناعة في هذه الآية أن نقول: إنّ كلّ طلاق تتربّص فيه المرأة ثلاثة قروء. وكلّ طلاقٍ يحلّ للزوج أن يُرجع زوجته فيه ضمن المدّة المذكورة. ولا يلزم مجازيّة ولا ضرب أصالة العموم ولا استخدام ولا... كلّ ما يحصل حينئذٍ هو أنّنا بدليل منفصل قيَّدْنا الحكم المطلق في هذه الآية الكريمة بالروايات الصحيحة أو بالسنّة القطعيّة التي أخرجت بعض أنواع الطلاق من كون الزوج ذا حقٍّ بالمراجعة في المدّة المذكورة.
ولنُغْضِ عن ذلك في الآية حتّى يتأتّى لنا أن نصوّر البحث فيها.
ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى أنّه لو لم يكن لدينا من الأساس إلّا حكم واحد متعلّق بالعامّ، وكان مرجع الضمير بعض أفراد العامّ، فمن الواضح حينئذٍ أنّه تُضرب أصالة العموم، (طبعاً هذا لو افترضنا أيضاً أنّه من داخل اللّفظ عُلم رجوع الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات)؛ إذ حينئذٍ لا نواجه مشكلة؛ لأنّه من الأساس أُضمر الحكم الراجع إلى العامّ، وعلِمْنا أنّه يرجع إلى بعضه، لا إلى كلّه. فالإشكاليّة إنّما تتحقّق في مثال الآية المباركة.
ولا شكّ في أنّ الثمرة باتت واضحة في محلّ البحث، وهو أنّ الحكم الأوّل هل نخصّصه ببعض الأفراد أم لا؟
منشأ التخصيص هو أنّ كون مرجع الضمير في الحكم الثاني بعض أفراد العامّ المذكور موضوعاً للحكمين الأوّل والثاني، هل يلزم منه ضرب أصالة العموم على مستوى الإرادة الاستعماليّة، (باعتبار أنّه قرينة متّصلة في كلامٍ واحد)، أو على مستوى الإرادة الجدّيّة (فيما لو فرضنا الأمر في كلامين)؟ أم أنّه لا يلزم منه ذلك، بل تبقى أصالة العموم محكَّمة، فيلزم حينئذٍ الاستخدام بإرجاع الضمير المراد منه البعض من البداية إلى الكلّ، فيُتجوَّز حينئذٍ في الإسناد؟
هناك خلاف بين المحقّقين.
ويمكن استخلاص أقوالٍ ثلاثة عندهم:
1. قول بأنّ المحكَّم في المقام هو أصالة العموم مطلقاً، وهو رأي المحقّق النائيني رحمه‌الله.
2. وقول بأنّ المحكَّم في المقام هو أصالة عدم الاستخدام، وهو رأي السيّد الخوئي رحمه‌الله وربما جماعة قليلة.
3. وقول بالتفصيل بين ما لو كان من قبيل القرينة المتّصلة، على مستوى المراد الاستعماليّ، وبين ما لو كان في كلام مستقلّ بنحو القرينة المنفصلة في جملة مستقلّة، فلا يتصرّف في المراد الاستعماليّ، بل في المراد الجدّيّ. وهو ما يمكن تنزيل كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله عليه (إذ قد نجد في الكلمات أنّه نُسب إلى صاحب الكفاية رحمه‌الله القول الأوّل، وقد يُنسب إليه القول بالتوقّف مطلقاً، كما نسب إليه ذلك بالفعل السيّد الخوئي رحمه‌الله، لكنّ الذي يظهر من الكفاية أنّه قائل بالتفصيل)؛ إذ أفاد في سطورٍ قليلة أنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما أُريد من الضمير منه، والذي ينجم عنه تخصيص الحكم الأوّل بخصوص هذا البعض، أو التصرّف في ناحية الضمير الذي ظاهره اللّفظيّ أنّه يرجع إلى تمام أفراد العامّ، فنقول: إنّ الضمير أُريد منه البعض ونُسب إلى الكلّ، حيث إنّنا نعلم بإرادة البعض منه، إمّا بالقول بأنّ مرجعه ليس مطلق العموم، بل خصوص ما أُريد في الحكم الثاني من أفراد العموم، فيكون التصرّف حينئذٍ على مستوى المراد الجدّيّ، فهو نحو من أنحاء الاستخدام. أو يكون من قبيل التجوّز في الإسناد؛ إذ مرجع الضمير في ظاهر الخطاب هو الكلّ، فيكون قد استُخدم في موقعٍ للكلّ وأُريد منه على مستوى الإرادة الاستعماليّة البعض إسناداً، وحينئذٍ: يلزم التجوّز في الإسناد.
يقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: في مثل هذه الحالة أفصّل بين حالتين:
أُولاهما: ما لو عُدّ ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف بالكلام عرفاً، وهذا عادةً هو المحقَّق في مثل الآية الكريمة، في كلام واحد، في سياق متّصل، ففي مثله أتوقّف؛ لأنّني لا أستطيع أن أُجري أصالة العموم وقد اكتنفت بما يصلح للقرينيّة، ولا أجزم بهذه القرينيّة، فلا أستطيع أن أجزم أيضاً بأصالة عدم الاستخدام أو المجاز في الإسناد، فأتوقّف لذلك.
والثانية: ما لو كان ما اشتمل على الضمير لا يصدق عليه أنّه ممّا اكتنف بالكلام عرفاً، وهذا في العادة يكون إذا كان في جملة مستقلّة، فحينئذٍ: المحكَّم هو أصالة العموم؛ إذ أصالة العموم تعتمد على ظهور الكلام في العموم، ولا شكّ في أنّ الجمع المحلّى الذي هو ـ مبنائيّاً ـ من صيغ وأدوات العموم، ظاهره: استعماله فيما وُضع له، فنُجري حينئذٍ فيه أصالة العموم بمقتضى أصالة التطابق بين المستعمل فيه والمراد منه؛ ذلك أنّ الأصول اللّفظيّة تجري لكشف المراد من الكلام، ولا تجري في موردٍ عُلم المراد ولم يُعرف وجهه. وتحكيم الضمير على حساب أصالة العموم هو من جهة أنّنا علمْنا المراد من الضمير وأنّه البعض. ما يعني: أنّنا إن ضربْنا به أصالة العموم، فهو في الحقيقة يكون ترجيحاً لوجهٍ من وجوه تخريج المراد المعلوم على حساب أصالة العموم، ولا ينحصر التخريج به.
وهذا الكلام ـ بهذا المقدار ـ يبقى مجرّد ادّعاءات، فحتّى لا يبقى كذلك، يقول صاحب الكفاية رحمه‌الله: نحن لدينا سيرة عقلائيّة قائمة على العمل بالظهورات. فمن المقطوع به أنّ العقلاء في مقام التخاطب جرت سيرتهم على العمل بالظهور اللّفظيّ وإجراء أصالة التطابق بين ما وُضع له وما استُعمل فيه، وبين ما استُعمل فيه وما أُريد منه، وهذا المقدار لا دافع بالنسبة للحكم الأوّل. وأمّا بالنسبة للحكم الثاني، فقد علِمْنا بأنّنا لا نستطيع أن نُجري أصالة التطابق؛ لأنّنا علِمْنا أنّ الضمير الراجع بحسب ظاهر الخطاب إلى كلّ أفراد العموم لا يُراد منه ذلك. بل يُراد منه بعض أفراد العموم. فإذا علِمْنا المراد ولم نعرف وجهه، وأنّه بسبب حمل موضوع الحكم الأوّل الصريح في العموم على خلاف ظاهره، أو إجراء استخدامٍ في الكلام أو تجوّزٍ في الإسناد، فحينئذٍ: ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ الحكم الثاني من حيث المحصّلة النهائيّة يكون مقيَّداً، لكن يدور أمر تخريجه بين ضرب أصالةٍ تامّةٍ على مستوى الاقتضاء، وبين تخريجٍ آخر، فلا يمكننا أن نتحكّم في الجملة الأُولى (المطلّقات يتربّصْن) بسبب أمرٍ يصلح للمانعيّة على أحد الوجهين أو الوجوه في التخريج، فلم يَثبت بالفعل أنّه مانع، وما لم يَثبت بالفعل أنّه مانع، (والكلام هنا ليس في المتّصل، بل في المنفصل)، فالاقتضاء تامّ في طرف العموم، والمانع محتمل، فلمّا كان المانع محتملاً فلا يُبنى على المانعيّة.
لكن يبقى تصوّر المسألة يحتاج إلى بحث. وهو أنّنا كيف نتصوّر الضمير في جملة مستقلّة وفي سياق مستقلّ؟
في مثل الآية، من الواضح: أنّه في نفس السياق، وفي نفس مجلس التخاطب. جيء بضميرٍ يرجع في ظاهره إلى الكلّ ويُراد منه البعض. ولكن، إذا فرضنا جملةً مستقلّة تماماً، وفي مجلس تخاطبٍ آخر، ولا في نفس السياق المتّصل، فكيف نتصوّر وجود ضمير نُرجعه إلى كلامٍ مقطوع؟ هل يصحّ هذا بحسب قواعد اللّغة العربيّة التي نألفها ونعرفها؟! حيث نقول: إذا تكلّم الإنسان بمثل هذا الكلام، فيُقال: إنّه خارج عن متعارف التخاطب العربيّ. فضلاً عمّا لو أُريد من القرينة المنفصلة الزمان المتطاول. فلا يصحّ هذا عادةً في الكلام المتعارف. ولا يوجد لدينا كلام وارد من هذا القبيل أساساً.
وكيف كان، فإذا أمكن تصوّره في الخطابات بشكلٍ متعارف يتأتّى هذا الاحتمال الثاني، وإلّا، فلا.
فخلاصة ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله بعد تصوير محلّ البحث: أنّه يفصّل في المقام بين ما لو كان الضمير ممّا يكتنف بالخطاب عرفاً، كما في مورد الآية المباركة (بمعزلٍ عمّا ذكرناه من أنّ عود الضمير إلى البعض عُلم من خارج الآية، وبقرائن منفصلة)، وبين ما لو كان في كلام مستقلّ لا يكتنف بالكلام عرفاً، فحينئذٍ: المحكَّم هو أصالة العموم؛ إذ المقتضي تامّ، والمانع محتمل، والمانع المحتمل ليس مانعاً، بل المانع لا يمنع إلّا بإحراز المانعيّة؛ لأنّ الكلام هنا في المنع الإثباتيّ، لا الثبوتيّ. وعلى هذا الأساس، ذهب إلى هذا التفصيل.
وفي مقابل هذا التفصيل الواضح المأخذ كلامٌ للمحقّق النائيني رحمه‌الله جزم فيه بتحكيم أصالة العموم من دون تفصيل. وفي مقابله كلامٌ رائده تلميذه السيّد الخوئي رحمه‌الله جزم فيه بتحكيم أصالة عدم الاستخدام من دون تفصيل أيضاً.


[1] بقره/سوره2، آیه228.