بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

البحث في الموقف التاسع.
وهو أنّ الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة هل تختصّ بالمشافَهين بها، أم تشمل الغائبين والمعدومين أيضاً؟
وهذا العنوان قد يلتبس بعنوان آخر يُبحث عادةً في مباحث حجّيّة الظهور، وهو أنّ الظهورات هل تختصّ حجّيّتها بمن قُصد إفهامه بالخطاب أم تشمل من لم يُقصد إفهامه بمجرّد وصول الخطاب مع كونه يشمله؟
ولكن لا يخفى الفرق بين المسألتين، مع تأثّر الثمرة لهذا البحث بذاك، كما سوف يأتي إن شاء الله.
وخلاصة ما ينبغي أن يُقال في المقام: أنّ البحث هنا في أنّ الخطابات الصادرة من الشارع كتاباً وسنّةً، هل تختصّ بمن حضر مجلس التخاطب، وخُوطب بها، أم لا تختصّ به؟
إذ على الأوّل: نحتاج في تعميمها إلى الغائبين، فضلاً عن المعدومين، إلى التشبّث بقواعد أُخرى، من قبيل: قاعدة الاشتراك، أو بإلغاء الخصوصيّة، أو دعوى الإجماع، أو غير ذلك.
وأمّا على الثاني: فإنّ الخطاب وإن كان ـ صورةً ـ للحاضرين المشافَهين، ولكنّه ـ لبّاً ـ هو خطاب شأنيّ، أو فعليّ (على وجهين) لكلّ من شُرع له الشرع الحنيف، وبطبيعة الحال، فإنّ الكلام في التشريعات الكلّيّة الإلهيّة، وليس في الأحكام الولائيّة، ولا القضائيّة (وهي شعبة من الولائيّة)، كما هو واضح.
وقد يكون غير المقصود بالإفهام حاضراً في مجلس التخاطب، فيصدق عليه أنّه مشافَه.
وأمّا البحث الآخر، المربوط بحجّيّة الظهور، فهو يخضع لملابساتٍ أُخرى ستأتي في محلّها.
وهذا البحث بحث قديم في علم الأصول، ومعنون عند العامّة والخاصّة.
أمّا بحث من قُصد إفهامه ومن لم يُقصد، فلم يُبحث بشكلٍ جدّيّ في علم الأصول عندنا (ولعلّه لم يُبحث أصلاً عند غيرنا) إلى زمن صاحب القوانين رحمه‌الله. فلا ينبغي أن تختلط المسألتان ببعضهما، فتُجعلا في حكم المسألة الواحدة من وجهين.
ولا بدّ من تحرير محلّ البحث في المقام.
فهل البحث شامل لكلّ قضيّة تشريعيّة، أم هو مختصّ بخصوص القضايا التشريعيّة المشتملة على أداة الخطاب، نداءاً أو إضماراً، أو غير ذلك من الأساليب؛ إذ يظهر من معظم من عنون المسألة، وتصريح جملةٍ منهم، أنّ البحث خاصّ بخصوص ما صُدّر بأداةٍ تقتضي الخطاب، مثل: يا أيّها الذين آمنوا، أو ما اشتمل على كاف الخطاب، أو ما ناظر ذلك، ممّا هو ظاهر بدواً في القضيّة الخارجيّة، دون ما كان من قبيل قوله تعالى: ﴿ولله على الناس حجّ البيت﴾، وما جرى مجراه، ممّا لا يتضمّن خطاباً كذلك.
ولكن يظهر من طرح المسألة في الكفاية وما بعدها أنّ للبحث أكثر من جهة يمكن أن يُطرح على أساسها.
والمستخلص من كلمات صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّ هذا البحث له ثلاثة أوجه: وجهان عقليّان، وثالث لفظيّ.
الوجه الأوّل: أنّ التكليف هل يمكن أن يشمل المعدومين أم لا؟
والوجه الثاني: أنّ الخطاب التكليفيّ هل يمكن أن يشمل المعدوم أم لا يمكن؟
والوجه الثالث: أنّ الخطاب هل هو ظاهر في الشمول للغائب والمعدوم أم لا؟
وذكر أنّه على الوجهين الأوّلين يكون البحث عقليّاً، وعلى الوجه الثالث يكون لفظيّاً.
وخلاصة ما أفاده رحمه‌الله في المقام: أنّ التكليف تارةً يُراد من شموله الشمول بما هو تكليف فعليّ مجعول فعلاً على ذمّة المكلّف، وأُخرى يُراد منه: الجعل الإنشائيّ الذي يُصبح فعليّاً انحلالاً بفعليّة فردٍ من أفراد موضوعه، فكلّما وُجد مكلَّف وتحقّق موضوع التكليف بات فعليّاً بالنسبة له، وهو على كلّيّته وإنشائيّته بالنسبة لغيره.
فلا شكّ في أنّه إن أُريد الأوّل، فإنّه يستحيل كون التكليف فعليّاً في حقّ المعدوم، وإن أمكن كونه فعليّاً غير منجَّز في حقّ الموجود الذي لم يصل إليه الخطاب بالتكليف. وله ثمرات في محلّه. (وقيّدناه بغير المنجَّز؛ لأنّ الفعليّة في بعض الكلمات تساوق التنجّز عندهم، ومن هنا التجأ صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى جعل التنجّز مرتبة من مراتب الحكم وراء مرتبة الفعليّة، مع أنّ التنجّز انفعال مع الحكم الفعليّ بالوصول، وليس مرتبة من مراتب الحكم في الحقيقة؛ إذ هو ليس من عمل الجاعل والمشرّع، وهو واقع في سلسلة معلولات الحكم؛ إذ لا يُقصد من التنجّز غير لزوم الانبعاث والانزجار).
وأمّا على الثاني، فمن الواضح: أنّه لا مانع عقليّ من شمول الخطاب إنشاءاً لكلّ فردٍ في ظرف تحقّقه في الخارج، بمعنى: صلاحيّته للانطلاق على كلّ مكلّف وُجد وتحقّق موضوع التكليف بالنسبة له.
وأمّا على مستوى إمكان شمول الخطاب، وهو الوجه الثاني، فقد أفاد رحمه‌الله ما خلاصته:
أنّ الخطاب بالمعنى الحقيقيّ يحتاج إلى مخاطَب بالمعنى الحقيقيّ، ولا معنى لمخاطبة الغائب حقيقةً بالفعل، فضلاً عن المعدوم؛ إذ لا يمكن أن يكون المخاطَب بالفعل مخاطَباً ما لم يكن الخطاب واصلاً إليه، وإن صحّ القول تجوّزاً بخطاب الغائبين، فضلاً عن المعدومين، لكنّه تجوّز.
وعلى هذا الأساس، فلا يمكن على وجه الحقيقة الخطاب الفعليّ للغائب، فضلاً عن المعدوم، لكنّ قضيّة شمول الخطاب له لها شأن آخر، وهو جَعْل متضمَّن الخطاب على ذمّته في ظرفٍ يكون قابلاً فيه، ولو بحسن الاختيار، ليكون مخاطَباً حقيقيّاً واقعيّاً وفعليّاً.
وأمّا على الوجه الثالث، فإنّه رحمه‌الله ربط شمول أداة الخطاب للغائب والمعدوم بما نختاره في باب الوضع والإنشاء الخطابيّ، وأنّ هذه الأدوات والصيغ هل هي موضوعة للحقيقيّ منه، أم للإنشائيّ الإيقاعيّ؟ وهو رحمه‌الله اختار في مقدّمات البحث الأصوليّ في الكفاية أنّ هذه الأدوات والصيغ موضوعة للخطاب الإنشائيّ الإيقاعيّ، وعليه: فلا مانع من مخاطبة المعدوم، فضلاً عن الغائب، بل الجماد أيضاً، وما لا يعقل، وهذا كثير وشائع في اللّغة العربيّة. وإن كنّا ـ يقول ـ لا ننكر بأنّ ظاهر الخطاب ينصرف إلى الخطاب الحقيقيّ، ما لم تذد عن ذلك قرينة من القرائن، فأداة الخطاب لفظاً وصيغته لا تمنعان من أن يُخاطَب بهما المعدوم، فضلاً عن الغائب.
هذا كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله في الكفاية.
ويظهر من هذا الكلام أنّه لا ينبغي عقد البحث على الوجهين الأوّلين؛ إذ المسألة واضحة عليهما، ولا تحتاج إلى إقامة برهان؛ إذ من يمكن شمول التكليف له أو خطابه بالفعل هو من له أهليّة ذلك، والمعدوم لا أهليّة له؛ لأنّه لا وجود له، وليس شيئاً. وعلى هذا، فما يليق بالبحث اللّفظيّ هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة، والذي لا تلازم بينه وبين الوجهين الأوّلين.
نعم، الامتناع العقليّ في الوجهين الأوّلين يكون قرينةً على أنّ المراد من الخطاب هو الخطاب الإنشائيّ الإيقاعيّ بالنسبة للغائبين، فضلاً عن المعدومين.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله، وبعد أن جعل الثلاثة وجهين (وهذا ليس مهمّاً)، عقليّ ولفظيّ، ذهب إلى أنّ ما يحلّ الإشكاليّة في المقام هو التفصيل بين القضيّة الخارجيّة والحقيقيّة؛ إذ القضيّة الخارجيّة تستدعي موجوداً خارجيّاً يُخاطَب ويُكلَّف، بينما القضيّة الحقيقيّة لا تستدعي شيئاً من ذلك؛ إذ يُجعل فيها الحكم على الموضوع الكلّيّ، فما كان من قبيل القضيّة الخارجيّة، فظاهر الخطاب عدم الشمول لغير المخاطَبين بالفعل والمشافَهين، وما كان من قبيل القضيّة الحقيقيّة، فهو يشمل كلّ فردٍ من أفراد الموضوع وُجد أو سيوجد أو كان موجوداً؛ إذ لا يُلحظ في القضيّة الحقيقيّة أحد الأزمنة الثلاثة، فهل يصحّ هذا التفصيل أم أنّه تفصيل خارج أساساً عن معقد البحث في هذه المسألة؛ إذ البحث فيها مختصّ بما كان من قبيل المصدّر بأدوات الخطاب أو صيغه، كالنداء والكاف ونحو ذلك؟
فلا بدّ أن نكمل البحث فيما يرتبط بهذا البحث الكبرويّ؛ لأنّ أساس هذا البحث لم يكن له داعٍ ـ في تقديرنا ـ في أفق التشريع الإسلاميّ، الواضح في أنّ مقاصد الشارع تتجاوز الأفراد ما لم ينسخ هو حكمه في زمنٍ خاصّ.
ثمّ بعد الفراغ من هذا البحث، وتقييم كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله (ونقتصر عليه من بين كلمات المحقّقين؛ لعدم الجدوى في الإطالة)، لا بدّ لنا من أن ننبّه إلى ما نبّه عليه أيضاً بعض المحقّقين على واقع الكتاب والسنّة، وأنّ هذا البحث هل يجري في تشريعاتٍ من قبيل الكتاب والسنّة، أم أنّه أساساً لا صورة متقبّلة له ليُطرح إلّا في مثل التشريعات العقلائيّة المتعارفة للمقنّنين والمشرّعين الوضعيّين، وأمّا الكتاب والسنّة فلا يشملهما هذا البحث رأساً، كما قد يُقال؟