بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/18

بسم الله الرحمن الرحیم

لا يزال الكلام في المقام الثاني المعقود لاستعراض ما استُدلّ به على لزوم الفحص كي يكون العامّ حجّةً، وقد انتهينا من استعراض الدليل الثاني، وهو الذي استدلّ به المحقّق العراقيّ رحمه‌الله والسيّد البروجرديّ رحمه‌الله والسيّد الخوئيّ!، وهو الاستدلال بروايات لزوم التفقّه في الدين، بتقريب: أنّه لا يصدق التفقّه في الدين، والعلم بالحكم الشرعيّ إلّا بعد مراجعة الخاصّ.
وعمدة الجواب على هذا الكلام بما يناسب المقام، (لأنّ هذا البحث يُبحث بشكلٍ مفصّل أكثر في شرائط إجراء الأصول العمليّة)، أن يُقال: تارةً يُذكر هذا الوجه مع وجود العلم الإجماليّ بالمخصّصات، وهو ما لم يربطه به المستدلّون. وأُخرى بمعزلٍ عن وجود العلم الإجماليّ.
فعلى الأوّل، لا شكّ في صحّة هذا الاستدلال؛ إذ العالم علماً إجماليّاً بالمخصّصات، خصوصاً المخصّصات المُثبتة للإلزام، لا يصدق عليه أنّه متفقّه في الدين ما لم يحلّ هذا العلم الإجماليّ؛ إذ مع وجوده لا يسعه الاكتفاء بالمراجعة لبعض الأدلّة ـ أيّاً كان ذلك البعض ـ لكي يخرج من الجهل بالحكم الشرعيّ إلى العلم بالحكم الشرعيّ، ولو الأعمّ من الواقعيّ والناشئ من الدليل.
لكن إذا ضممنا العلم الإجماليّ فإنّه بنفسه كافٍ (حيث يكون تامّاً ومنعقداً ومنجّزاً) لإثبات لزوم الفحص فيما يحلّ هذا العلم. ولا نحتاج معه إلى ضمّ هذه الأدلّة وهذه الروايات التي حُملت على الإرشاد في محلّه، وهو الصحيح.
وخلاصة الجواب على هذا الشقّ: أنّ هذا الاستدلال يتمّ مع ضمّ العلم الإجماليّ، فإذا انضمّ إليه العلم الإجماليّ فنحن في غنىً عنه؛ لأنّ العلم الإجماليّ حيث يكون منعقداً فهو لوحده يكفي لإثبات لزوم الفحص.
على أنّه حينئذٍ لا يُنتج لزوم الفحص مطلقاً حيث يكون العامّ معرَّضاً للتخصيص، بل لا يُثبت لزومه إلّا حيث يتشكّل العلم الإجماليّ، وإلّا، فإنّ مجرّد احتمال التخصيص مهما كان قويّاً، فهو لا يُنتج لزوم الفحص على هذا التقدير.
وأمّا الشقّ الثاني، وهو ظاهر كلمات المستدلّ، وهو أن يُقال: إنّ الاستدلال بهذه الروايات الآمرة بالتفقّه في الدين، أو المُثبتة للعقوبة على من ترك التعلّم والتفقّه والسؤال، والاستدلال بها مستقلّةً عن ضميمةٍ أُخرى، فإنّها تتوقّف ـ كما ألمحنا بالأمس في تقرير الاستدلال ـ على دعوى عدم صدق التفقّه في الدين والعلم بالحكم الشرعيّ، الأعمّ من الواقعيّ والوظيفة، من دون الفحص عن المخصّصات أو المخالفات للظهور في الدليل.
وهذا أوّل الكلام؛ إذ لو أثبتنا بدليلٍ أنّ العامّ حجّة بمجرّد عمومه في نفسه، فإنّه بنفسه يكون دليلاً ويكون تعلّماً للحكم الشرعيّ ويكون علماً به، وإن لم يكن المعلوم هذه المرّة هو الحكم الواقعيّ، وكان أمارةً لا أكثر؛ فإنّ الأمارة حيث تَثبت بدليل وتخرج من الظنّ العامّ إلى الظنّ الخاصّ الذي قام عليه دليل تكون حجّة. وإذا كانت حجّةً، فهي علم بالحكم الشرعيّ، أعمّ من الواقعيّ والوظيفة العمليّة.
وبعبارةٍ أوضح: المقصود من التفقّه في الدين في باب الشرعيّات (التفقّه الوارد في الروايات أعمّ من باب الشرعيّات) ليس أكثر من تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ، سواء كانت الحجّة قطعيّةً، تكشف عن حكم شرعيّ واقعيّ، أم تُثبت حكماً ظاهريّاً، من سنخ الأمارة أو الأصل، فيصدق حينئذٍ أنّه علم بالحكم الشرعيّ، أي: علم بوظيفته الشرعيّة. والعالم بوظيفته الشرعيّة لا يُقال له: إنّه جاهل بالحكم الشرعيّ.
وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: لا بدّ في رتبةٍ سابقة من أن يُدّعى عدم وجود دليل على العموم إلّا بعد الفحص، أو وجود دليلٍ يُلزم بالفحص. أمّا إذا انعدم الأمران، وكان دليل الأمارة غير قاصر، ولم يوجد دليل يُلزم بالفحص، بحيث يُعدّ مقيِّداً لدليل الأمارة بما بعد الفحص، فحينئذٍ: مقتضى دليل الأمارة، سواء في باب الدلالة أم في باب السند، أنّها تكون حجّةً بالفعل. وإذا كانت حجّةً بالفعل، أي: فقد تشخّصت الوظيفة الشرعيّة، وبتشخّصها يتحقّق عنوان التفقّه في الدين؛ إذ عنوان التفقّه في الدين لا يُقصد منه خصوص الحكم الواقعيّ.
وبعبارةٍ أُخرى: يصبح الاستدلال بهذا الدليل دوريّاً؛ إذ يتوقّف الاستدلال بروايات التفقّه في الدين على أن لا يكون العمل بالعامّ وكشف الحكم الشرعيّ من العامّ تفقّهاً في الدين، فكيف نُثبت أنّه ليس تفقّهاً في الدين به؟! فنعود من جديد نحتاج إلى ضمّ ضميمة (إذ ليس لدينا دليل يمنع، إلّا العلم الإجماليّ، وحينئذٍ: فيعود هذا خلطاً بين الشقّين)، والضميمة هي ما يدّعيه صاحب الكفاية رحمه‌الله في الوجه الأوّل، وهو قصور السيرة العقلائيّة التي هي دليل حجّيّة العامّ عن إثبات حجّيّته لما قبل الفحص عن المخصّص.
وإذا ضممنا هذا الدليل الذي تمّمناه وفاقاً له ولمجموعة كبيرة من المحقّقين المعاصرين ومن قارب العصر، فلا نحتاج حينئذٍ إلى الاستدلال بروايات التفقّه في الدين؛ إذ من الوضوح بمكان أنّ الأمارات لا تكون حجّةً إلّا إذا تمّت بدليل، وحيث لا يكون هناك دليل على حجّيّتها فإنّها تدخل تحت الظنون العامّة، وتحت أصالة عدم حجّيّة الظنّ، ولا تكون دليلاً.
فإذاً، لا يوجد وجه صحيح وسليم للاستدلال بروايات التفقّه في الدين لتكون دليلاً مستقلّاً على لزوم الفحص في المقام. ولذلك وجدنا جملةً كبيرة من المحقّقين لا يزجّون بها في مقام الاستدلال ها هنا.
الوجه الثالث: ما يظهر من السيّد الخوئي رحمه‌الله ارتضاؤه، وهو أنّ العمل بالعمومات من دون الفحص عن المخصّصات يلزم منه اندراس كثيرٍ من الأحكام الشرعيّة وخروج العامل عن رسمها ورسم العموميّة المرتبط بها، وهذا أمر من الواضح جدّاً (ولا يحتاج إلى دليل خاصّ) أنّه غير مرضيّ للشارع الأقدس، فيستقلّ العقل بلزوم الفحص، حتّى لا يلزم ذلك، أي: تعطيل الأحكام الشرعيّة.
وهذا الوجه لا يردّ عليه السيّد الخوئي رحمه‌الله، ما يظهر منه ارتضاؤه له. وهو يبتني على الأصل الموضوعيّ المتقدّم في بداية البحث، وهو أنّ الكلام ليس في شارعٍ جرى في حواره كما يُجرى في الحوارات العاديّة العرفيّة، في غير باب التشريع والتقنين، بل جرى على اعتماد المخصّصات والمقيِّدات المنفصلة، وقد زعمنا أنّ هذا ليس من مختصّات شارعنا، بل ظرف التشريع في هكذا شريعة شاملة وعامّة وخاتمة هو الذي يقتضي ذلك. فحينئذٍ: العامل بالعامّ غير الناظر إلى المخصّصات، كما لو افترضنا فقيهاً يستنبط الحكم الشرعيّ يأتي مباشرةً إلى الروايات العامّة ولا ينظر أصلاً إلى الروايات الخاصّة، فإنّه يلزم ذلك. هذا يتوقّف على القول بثبوت كثرة التخصيص. هذا أوّلاً.
وثانياً: يتوقّف على كون التخصيص الكثير نسبيّاً تخصيصاً إلزاميّاً، لا إخراجاً من الإلزام، أي: أن تنعكس القضيّة، بأن يكون العامّ غير إلزاميّ، والخاصّ إلزاميّاً، وإلّا، فإذا افترضنا عدم كثرة التخصيص، بأن كان قليلاً لا يُعلم معه اندراس عدد معتدّ به من الأحكام الشرعيّة، أو افترضنا أنّ التخصيصات كثيرة، لكن في معظمها ترخيصيّة من أحكام إلزاميّة، أيضاً لا يلزم هذا المحذور؛ فإنّ أقصى ما يُنتجه عدم المراجعة في غالب الحالات هو الاحتياط في الحكم الإلزاميّ.
ثمّ نقول: إنّما يتمّ الذي يذكره لو كانت العمومات المذكورة منعزلة عن المخصّصات في كتب الحديث، بأن كان لدينا عمومات قرآنيّة مشخَّصة، ولدينا عمومات مشخَّصة في باب الروايات، ولدينا في المقابل روايات خاصّة تخصّص هذه العمومات، فحينئذٍ: يأتي ما ذُكر، وأمّا بالنسبة للإنسان الذي يفحص عن الدليل عن الحكم الشرعيّ في دائرة الآيات والروايات فهو أساساً كثيراً ما يصادف الخاصّ قبل العامّ أثناء تتبّعه واستنباطه للحكم الشرعيّ، خصوصاً (وهذا كلام واقعيّ فعليّ وليس مجرّد فرض مثاليّ) في دائرة الكتب الروائيّة المصنّفة لهذا الغرض، بدءاً بالكتب الأربعة، وانتهاءاً بالوسائل ومستدرك الوسائل وجامع أحاديث الشيعة.
فهنا، لا شكّ ولا ريب في أنّ الباحث عن الحجّة والحكم الشرعيّ كثيراً ما يلتقي بالمخصّصات قبل العمومات، ممّا لا يسعه بعد ذلك تجاهلها، ولا يحتاج إلى فحص خاصّ عنها بعد العثور على العامّ. لكن، فلنفترض تنزّلاً أنّ هناك تصنيفاً عزل العمومات عن المخصّصات والمقيّدات، فحينئذٍ: هل يلزم هذا اللّازم المذكور؟ نقول: يتوقّف لزومه على أن نعلم بكثرة التخصيص نسبيّاً، وعلْمنا بكثرة التخصيص كذلك لا يكفي فيه المسموعات الشكليّة؛ فإنّها ليست حجّة، بل يتوقّف على التفحّص في هذه الأدلّة لنعرف أنّ كثيراً من العمومات قد خُصّصت.
وإذا حصل لدينا علم كهذا، فهو إمّا أن يشكّل علماّ إجماليّاً أو لا. فإن ارتقى إلى مستوى تشكيل علم إجماليّ فيُبحث في منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ حينئذٍ. وإن لم يرتقِ إلى تنجيز علم إجماليّ، بل بقي مجرّد احتمال، فما صادفه من المخصّصات يخصّص به، وما لم يصادفه وهو مجرّد احتمال، لا يلزم منه اندراس أحكام شرعيّة ولا أيّ شيء آخر، غاية ما هنالك: احتمال تعطيل حكمٍ من الأحكام الشرعيّة، ولا يلزم حينئذٍ انهدام واندراس الشريعة المقدّسة.
نعم، حينئذٍ لقائلٍ أن يقول: ما دام توجد ظاهرة التخصيص فأين الدليل على حجّيّة العامّ قبل الفحص؟ لكنّ هذا رجوع إلى الدليل الأوّل، وهو قصور دليل حجّيّة العموم أو الإطلاق، وهو السيرة العقلائيّة؛ إذ لا يوجد لدينا دليل غيره. فلا يُعدّ هذا الوجه الذي ذكره رحمه‌الله وجهاً مستقلّاً.
هذا تمام الكلام في هذا الوجه.
الوجه الرابع: دعوى أنّ العامّ حجّة من باب إفادته الظنّ، ومع احتمال التخصيص المعتدّ أو العلم في الجملة بوجود التخصيص لا يحصل ظنّ من العموم.
لكنّ هذا الكلام جوابه واضح؛ فإنّه:
أوّلاً: لو سُلّم أنّ العامّ حجّة من باب الظنّ، فهذا لا يُعطي قاعدة عامّة؛ إذ كثير من العمومات بحسب المناسبات يحصل للإنسان معها ظنّ قويّ؛ لأنّه يستبعد تخصيصها، فيدور الأمر حينئذٍ مدار حصول الظنّ الفعليّ وعدم حصول الظنّ الفعليّ، وهو يتفاوت بتفاوت الأشخاص والأحكام؛ إذ كثير من الأوامر عندما يطالعها الإنسان يستبعد أن يكون الشارع قد خصّصها، ومجرّد الإمكان لا يدفع الظنّ كما هو واضح. بل لا بدّ حتّى يرتفع العامّ من أن يكون إمكاناً يشكّل احتمالاً بدرجةٍ قويّة ترقى إلى ما يقرب من درجة التوازي مع الكشف الذي يكشفه العامّ.
وثانياً: الكبرى في المقام غير مسلّمة؛ إذ من قال بأنّ حجّيّة العامّ هي من باب الظنّ الشخصيّ؛ إذ قد ثبت في محلّه أنّ الأمر يدور مدار الظنّ النوعيّ، لا الشخصيّ، وهو الذي انعقد الدليل على إثبات حجّيّة العامّ إن تحقّق.
الوجه الخامس: ما نقله السيّد الخوئي رحمه‌الله عن بعضهم، من أنّ الفحص شرط لحجّيّة العامّ بالنسبة إلى غير المشافَهين للأدلّة.
لكنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى كما هو واضح. وينبغي زجّ هذا الدليل بنحوٍ من الأنحاء في البحث القادم، حيث يُدّعى اختصاص العمومات بالمشافَهين، ويُجاب هناك بعدم اختصاصها بها. فهذا الاستدلال يبتني على القول بالتعميم لغير المشافَهين بشرط الفحص. فنقول:
أوّلاً: الكلام في أصل حجّيّة العامّ قبل الفحص عن المخصّص، وهذا لا يختصّ بغير المشافَهين، فهذا الدليل يكون أخصّ من الدعوى حينئذٍ، كما هو واضح.
وثانياً: ما الدليل على أنّ غير المشافَهين يُشترط أن يفحصوا عن المخصّصات؛ إذ لا فرق بين المشافَه وغير المشافَه حيث لا تكون القضيّة قضيّة خارجيّة، بل وحيث تكون القضيّة الخارجيّة فهي لا تكون حجّة في غير موردها إلّا بضمّ قاعدة الاشتراك. وهذا أمر أجنبيّ أصلاً عن بحث الفحص أو عدم الفحص.
إلّا أن يرجع هذا الكلام إلى الإثارة التي أطلْنا قليلاً في التعرّض لها بالأمس، بدعوى: أنّه مع مرور الزمان كثرت المخصّصات، فبات المتأخّرون من أصحاب الأئمّة(، فضلاً عمّن جاء بعدهم بحاجة إلى الفحص، بعد أن لم تكن هذه الظاهرة موجودة في زمن الأوّلين إلى زمن الإمام الصادق عليه‌السلام، كظاهرة. نعم، ذكرنا بالأمس، أنّ هذا ليس من باب تغيير الرويّة والطريقة عندهم، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوع في أغلب الموارد؛ إذ لم يكن البيان كثيراً بحدٍّ انكشف معه كثرة التخصيصات، كما هو واضح.
بقي وجه في هذه المرحلة من البحث، وهو مبنيّ على مباني المحقّق النائيني رحمه‌الله، وقد ناقشنا مبانيه في إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول. فلا داعي للتعرّض له هنا. فمن شاء فليراجع.
وبهذا نكون قد انتهينا من المرحلة الأُولى من البحث. وانتهينا إلى أنّ عمدة الدليل هو ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله. وهو رحمه‌الله لم يستدلّ هنا إلّا بالدليل المتين.
المرحلة الثانية من البحث: قضيّة العلم الإجماليّ.
وهذا البحث لن نخوض فيه هنا؛ لأنّ محلّه الطبيعيّ الذي يُبحث فيه عادةً هو إمّا بحث مقدّمات الانسداد والعلم الإجماليّ بصدور أحكام إلزاميّة كثيرة في الروايات، وإمّا في باب الاستدلال بالعقل على حجّيّة خبر الواحد. وهذا ما قد بحثناه مفصّلاً. ويُبحث أيضاً نفس البحث في شرطيّة العمل بالأصول، وبالبراءة على وجه الخصوص، وأنّه مع وجود العلم الإجماليّ فكيف تجري البراءة؟ وأُجيب هناك: بانحلال العلم الإجماليّ بوجود الروايات الحجّة بقدر المعلوم بالإجمال.
فهذا البحث هنا عرضيّ وطارئ؛ لأنّه يبتني على تشكّل علم إجماليّ، ولا معنى لجعل العلم الإجماليّ هنا خاصّاً بباب العمومات، بل نأخذ كلّ عموم عموم منفرداً، ويكون إلزاميّاً، ويكون المخصّص ترخيصيّاً، أو العكس، بأن يكون العموم ترخيصيّاً والمخصّص إلزاميّاً، لنرى أنّ هذا العلم الإجماليّ هل هو منجّز أم لا؟ وأمّا علم إجماليّ معلّق في الهواء، فهذا لا وجود له.
وبعد أن اتّضح بوضوح أنّ الدليل قاصر أساساً عن إثبات حجّيّة العموم فلا تصل النوبة إلى هذا البحث، وبعد أن كان محلّه الطبيعيّ ليس هنا، وبعد أن بحثناه سابقاً في مبحث حجّيّة خبر الواحد، فإنّ التعرّض له هنا ممّا لا ينبغي، وهو إطالة بلا طائل.
وهذا تمام الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث: في مقدار الفحص المطلوب.
وقد اتّضح أنّه إذا بنينا على العلم الإجماليّ فيجب الفحص حتّى ينحلّ هذا العلم الإجماليّ. وإذا بنينا على لزوم الفحص بدعوى: قصور دليل الحجّيّة، فلا شكّ في أنّ دعوى القصور ناشئ من معرضيّة التخصيص، فلا بدّ وأن نفحص إلى أن يحصل لدينا وثوق بعدم وجود المخصّص في المقام. شرط أن لا يكون الفحص خارجاً عن السياق العقلائيّ، كما لو كانت الأدلّة مبعثرة، وغير مبوّبة، وقطعاً لا يصل العقلاء إلى مثل هذا الفحص.
وهذا ما يفسّر لنا كلمات بعض العلماء من أنّه في زمن الكتب الأربعة، كان يجب الفحص في الكتب الأربعة، وفي زمن الوسائل لا يُعذَر الإنسان إن لم يفحص في الوسائل، وهكذا بالنسبة إلى مستدرك الوسائل كما ذكره بعض المحقّقين. وفي عصرنا ـ مثلاً ـ  قد يقول قائل: بأنّ الإنسان لا يُعذر ما لم يفحص في جامع أحاديث الشيعة حيث يشكّ بدرجة معتدّ بها في وجود مخصّص؛ لجودة تصنيفه وتبويبه والإرجاعات الدقيقة فيه للروايات المتقدّمة، وعدم تقطيع الروايات. وذلك لأنّ الفحص ميسور. وأمّا حيث لا يكون متيسّراً، فلا شكّ في أنّ العقلاء لا يفحصون إلى الحدّ الذي يلزم منه تعطيل العمل. ولهذا، فالفحص المطلوب بالمقدار المتعارف في المصادر المتعارفة الذي يحصل معه درجة من درجات الوثوق والأمن، والتي سمّاها السيد الخوئيّ رحمه‌الله بالخروج من معرضيّة التخصيص. وإن كان هذا التعبير توجد عليه ملاحظات؛ إذ المعرضيّة لا تختلف بين تبويبٍ وآخر، كما هو واضح.
وعلى هذا الأساس، فلا يوجد دليل خاصّ يُلزمنا بفحص خاصّ، بل يجب الفحص إلى القدر الذي نجزم بأنّنا معه يتمّ دليل السيرة على حجّيّة ظهور العامّ في العموم. وهنا، يختلف الفاحصون بحسب حالاتهم النفسيّة، وبحسب حذاقتهم في الفقه. ولهذا قلنا: إنّ الأمر يختلف من شخصٍ إلى آخر. وعلى كلّ حال، فإنّ الفحص في زماننا بات أمراً يسيراً، من جهةٍ: للمصادر الهامّة المبوّبة المضبوطة. ومن جهةٍ أُخرى: لوجود الوسائل الحديثة.
هذا تمام البحث في الموقف الثامن.