بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/17

بسم الله الرحمن الرحیم

تتمّة
قبل الدخول إلى المقام الثاني الذي عنونّاه في الدرس السابق، لا بأس بالتعرّض لتتمّة في بيان محلّ البحث.
وهذه التتمّة تعرّض لها غير واحدٍ من المحقّقين، وهو أنّ هذا البحث يختصّ بالمخصّصات والقرائن المنفصلة، ولا يشمل القرائن المتّصلة. وشيء من فتح هذا الكلام يقضي أن نقول:
إنّ اقتضاء الحجّيّة، والذي سمّيناه بالظهور الذاتيّ، في العموم، موجود في مقابل القرينة المنفصلة المحتملة.
أمّا بالنسبة للقرينة المتّصلة، فإنّ الشكّ فيها يساوق الشكّ في الظهور الذاتيّ النهائيّ لشخص الكلام. وهنا، لا بدّ من إبراز النكتة التي تقضي بعدم لزوم الفحص عن القرينة المتّصلة عند الشكّ.
وصفوة الكلام في هذا المجال أن يُقال ـ كبرويّاً ـ: إنّ الأمر لا يخلو عن إحدى حالتين (إحدى هاتين الحالتين يمكن تشقيقها إلى أكثر من حالة، لكن هذا لا داعي له في محلّ البحث).
الحالة الأُولى: أن يُشكّ في قرينيّة الموجود. يعني: هناك كلام محتفّ بالعامّ أو بالمطلق، أو بأيّ ظهور من الظهورات، ونشكّ في قرينيّته على العامّ في موردٍ من الموارد.
طبعاً، الشكّ في قرينيّة الموجود عنوان عريض. بعض أنحائه ترتبط أصلاً بباب الشبهات المفهوميّة المتقدّم.
وهنا، لا شكّ في أنّ أبناء المحاورة يتوقّفون لأنّ شكّهم في الظهور النهائيّ لشخص الكلام)؛ إذ إنّ الإتيان بكلامٍ يحتمل معنيين ـ مثلاً ـ  على أحدهما يكون قرينة على صرف العامّ عن ظهوره في العموم يساوق الشكّ في الظهور الجدّيّ لهذا العامّ. ومعه، لا شكّ في أنّ الخطاب يكون مجملاً، وهذا خارج عن محلّ كلامنا؛ لأنّه ليس فحصاً عن المخصّص بالدقّة، بل هو فحص عمّا هو موجود وتُحتمل مخصّصيّته، فإذا أمكن الخروج عن هذا الإجمال بمراجعة أدلّة أُخرى، فلا بأس، لكن ليس من باب محلّ كلامنا. فلا توجد صورة صحيحة لمحلّ كلامنا إلّا الصورة الثانية حينئذٍ.
وهي الشكّ في أنّ المتكلّم هل قرن كلامه بقرينة متّصلة ثمّ فُقدت بعد ذلك؟ وهو شكّ في أصل صدور القرينة.
وهنا أيضاً، لا شكّ عند أبناء المحاورة في أنّهم يبنون على أصالة عدم القرينة. وأنّ الارتكاز والسيرة في باب المحاورة قائمان على عدم الاعتناء عند الشكّ في صدور القرينة وعدم وصولها، والبناء على عدم الصدور. (البعض هنا يحاول أن يطبّق هنا ما يُسمّى بـ الاستصحاب القهقرائيّ، ولكن لا داعي إليه أساساً؛ لأنّ قوّة دلالة الكلام وظهوره الذاتيّ مع الشكّ في أنّ المتكلّم هل تكلّم بكلامٍ على خلافه أم لا، كافية في الارتكاز العقلائيّ للعمل بما وصل إلينا من كلامه).
ومن هنا، فليست لدينا قرينة متّصلة تحتاج إلى فحص؛ فإنّ القرينة المتّصلة تكون موجودةً في شخص الكلام. وهي غير موجودة في شخص الكلام، فإنّما أشكّ في أصل صدورها. فلا مجال للحديث عن الفحص بالمعنى المبحوث عنه في مجال القرينة المتّصلة. وهذا الاستثناء أشبه بالاستثناء المنفصل.

وأمّا الحديث في المقام الثاني
وهو الدليل هنا، فإنّ طبيعة الأدلّة المسوقة في المقام يمكن تصنيفها إلى صنفين:
الصنف الأوّل: هو دعوى قصور مقتضي الحجّيّة من الأساس.
الصنف الثاني: دعوى وجود التمانع، وهو المعبّر عنه بـ العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات الكثيرة.
أمّا الصنف الأوّل من الأدلّة، وهو العمدة هنا؛ لأنّ البحث في الثاني ليس مختصّاً بمقامنا، بل يُبحث في أماكن عديدة من الأصول. فقد استُدلّ بعدّة وجوه، نذكرها سريعاً (لعدم الثمرة ووضوح النتيجة):
الوجه الأوّل: وهو أمتن الوجوه وأصحّها، وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه‌الله وتابعه عليه جماعة من المحقّقين، من أنّ كلام المتكلّم الذي اعتاد فيما هو المعلوم من سيرته أن يعتمد على القرائن والمخصّصات المنفصلة؛ لأنّه يتدرّج في بيان مرامه بكلامه، على خلاف المتعارف في الخطابات العاديّة عند أبناء العرف والمحاورة من قضاء وطرهم في مجلسٍ واحد بشخص الكلام. يُدّعى أنّ العقلاء مع متكلّم كهذا، هذه عادته، لا يُجرون أصالة الظهور في العموم أو في الإطلاق وما إلى ذلك، إلّا بعد الفحص عن القرينة المنفصلة، وأنّها هل وُجدت أم لم توجد (وهذا بمعزل عن وجود أو عدم وجود علمٍ إجماليّ، بل حتّى لو لم يكن هناك علم إجماليّ، ومجرّد أنّ هذا المتكلّم كثر عنده، ولو نسبيّاً، الاعتماد على القرائن المنفصلة، فإنّ هذا في حدّ نفسه كافٍ للتشكيك المذكور في بناء العقلاء وارتكازهم على العمل بظهور شخص الكلام من دون الفحص عن القرينة المعبَّر عنها تارةً بالمخصّص وأُخرى بالمقيِّد وثالثة بـ...).
وهذا الكلام في الجملة لا شكّ ولا ريب فيه إذا رجعنا إلى ارتكازنا؛ إذ من حقّ المتكلّم أن يؤاخذ ويعاتب إنساناً يعرف حاله وطريقته في الكلام إذا اعتمد على كلامٍ واحدٍ من كلماته، ولم ييمّم وجهه شطر بقيّة الكلمات لاقتناص مراده النهائيّ، كما هو واضح.
نعم، لا يوجد شبهة في مقابل هذا الكلام تستحقّ الذكر، سوى ما يُذكر من أنّ أصحاب الأئمّة( لم يُعرف عنهم عمليّاً، على مستوى سيرتهم المتشرّعيّة، والمزعوم أنّها هنا على خلاف الارتكاز العقلائيّ (ما يؤكّد أنّها متشرّعيّة)، والمدّعى هنا أنّ متكلّماً جرى في العادة على الاعتماد على القرائن المنفصلة، فمثل هذا المتكلّم يتوقّف الارتكاز العقلائيّ من دون مراجعة قرائن محتملة يمكن أن يكون قد أفادها في مجالس متعدّدة، إلّا بعد الفحص والاطمئنان بعدم إقامة قرينة من هذا القبيل، ولو على مستوى الوصول، مع ضميمة أنّه لو صدر لوصل.
فالمدّعى هنا: أنّه لم يُعرف من سيرة أصحاب الأئمّة( (المشافهين في الطبقة الأُولى، أو في الطبقة الثاني كأن يروي زرارة أو محمّد بن مسلم لمن بعده) أنّهم كانوا يتوقّفون عن العمل بالرواية التي يسمعونها من الإمام عليه‌السلام، أو تُنقل إليهم من صاحب الإمام عليه‌السلام، إلى أن يفحصوا في بقيّة الأحاديث والكلمات للأئمّة(. بل وجدناهم يدوّنون كتبهم (الأصول الحديثيّة) على هذا الأساس أصلاً؛ إذ كلّ واحدٍ منهم يسجّل ما سمعه من الإمام عليه‌السلام، على أنّه هو الحكم الشرعيّ الذي عليه العمل بحسب الظاهر. وهذا مؤيّد بالروايات التي مفادها: اعمل بما قلناه، وسلّم بما قلنا.
فقد يُقال: إنّ هذه السيرة، وهي سيرة متشرّعيّة #، بحيث لم يُنقل جوّ من هذا القبيل من قِبَل أصحاب الأئمّة( في مقام الفحص عن القرائن تصلح إمّا للتشكيك فيما ادّعيناه من مرتكز عقلائيّ، أو للقول بأنّ هؤلاء تلقّوا من الشارع ما هو على خلاف المرتكز العقلائيّ إذا سُلّم.
وهذه شبهة قويّة نسبيّاً في المقام.
لكنّ هذا الكلام يحتاج إلى شيء من التدقيق والتمحيص؛ إذ:
أوّلاً: نحن ننكر أنّه لا يوجد في حياة أصحاب الأئمّة( ظاهرة الاهتمام بالقرائن المنفصلة شيئاً فشيئاً، خصوصاً في زمن الأئمّة المتأخّرين(. ذلك أنّنا إذا رجعنا إلى تاريخ الحديث الذي هو مجال التعاطي من قبل أصحاب الأئمّة(، نجد أنّ كثيراً من أسئلة الرواة للأئمّة( كانت بنحو السؤال عن الواقعة، يعني: بنحو الاستفتاء. وكثير منها هي من قبيل القضايا الخارجيّة، وكان الإمام عليه‌السلام يجيب بالحكم النهائيّ الذي لا واسطة بينه وبين العمل.
وبعبارة أوضح: المقام لم يكن مقام استنباط الحكم الشرعيّ بالمعنى الاستنباطيّ والاستدلاليّ، بل كان الكلام في غالب الحالات عبارةً عن سؤال وجواب عن الواقعة، وليست اللّغة في الغالب هي لغة القضايا الحقيقيّة والقانونيّة، كما هو الشأن بالنسبة لعمومات الكتاب، أو بعض عمومات السنّة، التي هي من قبيل القواعد والضوابط العامّة.
والإنصاف: أنّ المراجع للروايات يجد أنّ مساحة ضخمة من الروايات، إن لم نقل: الغالب، هو من هذا القبيل أساساً، ومن هنا التجأنا إلى إلغاء الخصوصيّات بالنسبة للمخاطَب المكلّف، ما نجم عنه القاعدة المعروفة بقاعدة الاشتراك.
وهذا ما يفسّر لنا مجموعات من الروايات، من قبيل: ما قلناه لكم فسلّموا، الظاهر في أنّ نفس ما يقوله الإمام عليه‌السلام هو الموقف الفعليّ والتكليف الفعليّ. فالإمام عليه‌السلام يعطي السائل الحكم الفعليّ النهائيّ، أمّا من أين وكيف؟ هذا شغل الإمام عليه‌السلام، لا شغلنا، غالباً الأمر من هذا القبيل.
نعم، نلمح في حياة الأئمّة المتأخّرين( بحثاً عن المعارضات والمخصّصات، لكنّ هذا في مرحلة تكثّر التراث الروائيّ وجمعه؛ لأنّ ظاهرة التكثّر والجمع بدأت من عصر الإمام الصادق عليه‌السلام، أو أواخر حياة الإمام الباقر عليه‌السلام، وقبل ذلك لم تكن لدينا ظاهرة في الروايات الفقهيّة بهذا المعنى الواسع، كما هو واضح، وبعض الروايات يشيب لها الوليد فيما يرتبط بوضع الناس على مستوى الشعائر والطقوس الدينيّة، حتّى أتباع مذهب أهل البيت( قبل الإمام الباقر عليه‌السلام، وأنّ عموم الناس لم يكونوا يعرفون مناسك حجّهم ولا كيفيّة صلاتهم، وما إلى ذلك.
وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فمن الطبيعيّ جدّاً أنّ من يتلقّى من الإمام عليه‌السلام في تلك المراحل المتأخّرة كان يتلقّى في الغالب الحكم الفعليّ له، ويذهب فوراً إلى العمل. شيئاً فشيئاً بدأ تكوّن هذه الظاهرة وتراكمها، ثمّ بدأت مدوّنات أوّليّة، التي هي الأصول، والتي غالبها في عصر الصادقين'، وإن كان بعضها في عصر الإمام الكاظم عليه‌السلام، وربما وجدنا التعبير بـ (أصل) نادراً في عصر الإمام الرضا عليه‌السلام. ثمّ انتشر الحديث أكثر فأكثر في عهود الأئمّة المتأخّرين(، وبالأخصّ زمن الإمام الرضا عليه‌السلام، حيث بدأت موسوعات تُدوّن، والتي هي الجوامع الأوّليّة، قبل الكتب الأربعة، مثل جامع البزنطيّ، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، وغيرها.. هنا عندما اجتمعت الروايات بعضها مع بعض، بدأت تبرز ظاهرة عامّ وخاصّ في الروايات، وظاهرة المتعارضات في الروايات. ومن هذا الزمن، بدأنا نجد أسئلة للأئمّة(، كما يُعلم من المقدار الذي يذكره العلماء عادةً في باب التعادل والترجيح، من فرضيّات التعارض بين الروايات والنقل. لكن صيرورتها ظاهرة والابتلاء بها بكثرة في عصور الأئمّة المتأخّرين(، من الإمام الرضا عليه‌السلام وصولاً إلى من تأخّر عنه منهم(. ونحن ننكر عدم وجود اهتمام بهذا الجانب عندما ابتُلوا به، كما هو واضح.
إذاً، فقضيّة ما جرى عليه أصحاب الأئمّة( اختلفت ظروفه وعهوده والابتلاء بكثرة التخصيص، فلا يشكّل هذا سيرة متشرّعيّة في مقابل الارتكاز العقلائيّ الذي يدّعيه المحقّقون.
والإنصاف أنّ هذه الظاهرة تتدحرج شيئاً فشيئاً حتّى إلى العهود الأخيرة. فالفحص في زمن ما بعد وسائل الشيعة غير الفحص في زمن ما قبل وسائل الشيعة، بل نُقل عن بعض الأعاظم، كالمحقّق اليزديّ صاحب العروة رحمه‌الله، نُقل عنه أنّه زعم أوّل ما أُلّف بعض أجزاء مستدرك الوسائل، أنّه لا يُعذر الإنسان على تأليفه بعدم الفحص في ثناياه، مع أنّ معظم رواياته ضعيفة من حيث السند والاعتبار بحسب مباني المتأخّرين.
هذه الظاهرة هي التي كشفت عن حجم التخصيصات والتقييدات، فما نريد قوله هو: أنّ الابتلاء الواسع بكثرة التخصيصات والتقييدات كان بمثابة السالبة بانتفاء الموضوع بالنسبة إلى كثيرٍ من أصحاب الأئمّة(.
ومن هنا، فلا يمكن لنا أن نزعم أنّ هناك سلوكاً متشرّعيّاً على خلاف الارتكاز العقلائيّ.
على أنّ ارتكازاً عقلائيّاً بهذه القوّة في مثل هذا الفرض، حيث لا يشكّ فيه إنسان إذا التفت إلى حيثيّاته لا يمكن أن يُقابَل بسلوكٍ كهذا قابل للتوجيه بأكثر من فرضيّة، أو بأكثر من داعٍ من الدواعي في حياة أصحاب الأئمّة(، ولو من باب أنّ الفحص كان عُسريّاً وحرجيّاً عليهم في ذلك الوقت، حيث لم يكن هناك تراث مجموع في مكانٍ واحد، ولم يكن يمكن إلزامهم بمراجعة الإمام عليه‌السلام في تلك الظروف الصعبة في كلّ شاردةٍ وواردة. وأصحاب الأئمّة( وإن تكثّروا، إلّا أنّ غالب الروايات نُقلت عن الخواصّ والحواريّين، لا عن عموم الأصحاب.
إذاً، فهذا الوجه وجه تامّ سليم لا غبار عليه. وهو ما اكتفى به صاحب الكفاية رحمه‌الله، وبه الكفاية.
لكن هنا توجد وجوه أُخرى ذكرها المحقّقون، وهذه الوجوه لا بدّ من المرور عليها على الأقلّ.
من أهمّ هذه الوجوه التي ذُكرت: ما استدلّ به المحقّق العراقيّ رحمه‌الله والسيّد البروجرديّ رحمه‌الله وتبعهما على ذلك السيّد الخوئيّ!، من الاستدلال بروايات لزوم التفقّه في الدين، بتقريب: أنّه لا يصدق التفقّه في الدين ما لم نبحث في فضاء الأدلّة، والاكتفاء ببعض الأدلّة مع الإغضاء عن البقيّة، لا شكّ في أنّه ليس تفقّهاً في الدين، بل هذا مرور عابر على المصادر الدينيّة.
ولذلك، فإنّ مقتضى روايات التفقّه في الدين والحضّ عليه والعتاب وعدم الأمن من العقاب بالنسبة لمن ترك العمل لتركه التفقّه هو لزوم التفقّه في الدين بكلّ ما يحتاج إليه، فيُقال:
لا شكّ ولا ريب في أنّ من ترك العمل لتركه الفحص عن المخصّص والمقيِّد يصحّ أن يُقال له: هلّا تعلّمْتَ؟
وعلى هذا الأساس، وبشكلٍ موجز، ذكر المحقّقون الثلاثة+ أنّ روايات التفقّه في الدين دالّة على لزوم الفحص عن المخصّصات والمقيِّدات.
وهذا الوجه يرجع إلى أنّ من عمل بالنصوص الدينيّة العامّة أو المطلقة، ولم يبحث عن المخصّصات والمقيِّدات، أو عمل بالظهورات، وليس خاصّاً بالمخصّص والمقيِّد، ولم يفحص عن ما هو خلاف الظهور، فهذا لا يكون متفقّهاً في الدين، بل إنّما هو مطّلع اطّلاعاً عابراً في الدين.