بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في المبنى الثالث، وهو المبنى الذي ذهب إليه المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، ويُنسب أيضاً بعينه إلى صاحب الكفاية رحمه‌الله، وهو القول بعدم تعنون العامّ بأيّ عنوان بسبب التخصيص، سواء كان التخصيص بالمنفصل أم كان بالاستثناء من المتّصل.
وقد ذهب المحقّق العراقي رحمه‌الله في هذا الأمر بعيداً عندما شبّه التخصيص بموت الأفراد، ما استدعى مناقشةً، كما تقدّم الكلام في ذلك.
وبمعزل عن صحّة هذا المبنى؛ إذ يصحّ على وجه ويُفسَّر بما ذكرناه من أنّ المقصود من نفي التعنون نفي التعنون الذي يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول.
أقول: لا يختلف أحد مع أحد من أبناء العرف، فضلاً عن أحد من المحقّقين، في أنّ التخصيص يحصّص العامّ ويقصر حجّيّته على غير الحصّة التي أخرجها الخاصّ؛ فإنّ هذا مسلّم؛ لأنّ إنكاره هو في الحقيقة إنكار لكون التخصيص من قواعد الجمع العرفيّ؛ إذ العرف إنّما يخصّص لأنّه يرى أنّ هناك إعداداً نوعيّاً من المتكلّم العاقل الملتفت الحكيم بمقتضى جريان قواعد الحكمة، ما اقتضى الاقتطاع والإخراج المنتج للتخصيص فيما يرتبط بالعنوان العامّ. (التحصيص عنوان عامّ يشمل التنويع والتصنيف، أو أيّ اقتطاع يُوجب إخراج حصّة صالحة لأن يكون لها أفراد من تحت عنوان العامّ).
وهذا الأمر مشترك بين الجميع بأيّ قولٍ قلنا به. ومن هنا صرّح صاحب الكفاية رحمه‌الله بأنّ التخصيص وإن لم يعنون العامّ بعنوان خاصّ، لكنّه يبقى معنوناً بكلّ عنوان غير عنوان المخصّص، وقد حُمل هذا الكلام من قبل بعض المحقّقين على أنّه جعل العموم من قبيل جمع القيود؛ إذ العامّ لا يحكي هذه العناوين. نعم، هو متصالح معها، بمعنى: أنّه يشملها من حيث شموله للعالم المتّصف بهذه العناوين. لكنّ العامّ لا يحكي إلّا عنوانه هو، عنوان طبيعته، فعندما دخلت (كلّ) فهي تشمل كلّ من يتّصف بالعالميّة، سواء اتّصف بالعدالة أم بضدّها، وهكذا، ولعلّ هذا هو مقصود صاحب الكفاية رحمه‌الله، ولا يُظنّ به أن يكون مقصوده شيئاً آخر، كما فصّلنا ذلك.
فحينئذٍ: يكون المقصود من نفي التعنون نفي التعنون لفظاً، (وهذا أيضاً ينبغي أن يكون بديهيّاً عند الجميع، حتّى المحقّق النائيني رحمه‌الله القائل بالتعنون بأعلى درجاته لا يقول بأنّ اللّفظ يتغيّر عمّا وقع عليه، هذا أصلاً لا مجال للقول به).
وهناك نقطة ثالثة بديهيّة أيضاً عند الكلّ، وهي نتيجة طبيعيّة للتخصيص، وهي انحسار حجّيّة العامّ عن العنوان الذي يشمله الخاصّ. هذه أيضاً ليس فيها كلام. فلا أحد يقول بالتخصيص ويقول بأنّ العامّ يبقى حجّةً حتّى في العنوان الذي أخرجه المخصّص، وهو الفاسق في المثال ـ مثلاً ـ .
إذا كان الأمر على هذا المنوال، فلا بدّ أن نفسّر عدم التعنون بمعنى: أنّه لا يُضيف صفةً تشكّل جزءاً من موضوع العامّ على وجه الحقيقة. بمعنى: أنّ موضوع العامّ لا يصبح موضوعاً مركّباً على وجه الحقيقة، بل الخاصّ يضيف مانعاً يمنع العامّ من تأدية دوره كاملاً، أي: يمنعه من الشمول الفعليّ بما هو حجّة لكلّ تنويعاته وتصنيفاته، ويقصرها على غير التصنيف والتنويع الذي شمله الخاصّ؛ إذ (أكرم كلّ عالم) العالميّة هي المقتضي كما هو واضح؛ لأنّها هي الموضوع، وأمّا الشكّ في كون الفسق مانعاً أم غير مانع فلا نعتني به لو كنّا نحن والعامّ وحده؛ للتنصيص. فعندما جاء الخاصّ وقال: (لا تكرم الفقير الأمويّ) أو (لا تكرم العالم الفاسق) حينئذٍ يشكّل العنوان المذكور في الخاصّ ما هو بمثابة المانع.
وعليه: فيكون مراد من يذهب هذا المذهب من عدم التعنون للعامّ أنّ العامّ يبقى على ما هو عليه من حيث الاقتضاء، غاية الأمر: أنّ هذا الاقتضاء لا يؤثّر أثره حيث نصّص الشارع على وجود مانعٍ من تأثيره، (نتعاطى الآن مع عالم التشريع ومقام الإثبات؛ لأنّ مجرى الأصول إنّما يكون على أساس العناوين المأخوذة في الأدلّة، ولا نتعاطى مع عالم الثبوت والملاكات، فقد يكون في عالم الملاكات من قبيل جزء العلّة المتمّم للمقتضي).
فحينئذٍ: يكون مقصود كلّ من أنكر التعنون هو إنكار التركّب بهذا المعنى للعنوان العامّ، فيكون المقصود حينئذٍ أنّ الخاصّ لم يستوجب إلّا انحسار العامّ عن العنوان الذي تضمّنه وأخرجه من تحت العامّ، هو إخراجٌ فقط، وليس إدخالاً لعنوان جديد على العامّ، هذا هو المقصود حينئذٍ.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا بنينا على هذا المبنى الذي ـ حتّى لو صحّ ـ لا يصحّ تشبيهه بموت الأفراد كما في بعض كلمات المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، فهنا، هل يجري الأصل أم لا؟
يرى صاحب الكفاية رحمه‌الله هنا جريان الأصل (هو يتحدّث عن خصوص استصحاب العدم الأزليّ، ونحن قلنا إنّه يتناول كلّ استصحاب عدميّ)، وذلك لأنّ العامّ لا يتعنون بعنوان الخاصّ، بل يبقى معنوناً بكلّ عنوان غير عنوان الخاصّ، بمعنى: أنّ مراده أنّ العامّ يبقى شاملاً لكلّ فردٍ فردٍ من أفراد العالم بأيّ لونٍ تلوّن، وبأيّ عنوان تعنون، لكن غير عنوان الخاصّ الذي أخرجه الخاصّ، وهذا هو دور القرينة. وعليه: فلا مانع من إجراء الاستصحاب العدميّ، حتّى بنحو استصحاب العدم الأزليّ.
إذا أردنا أن نقارب هذا الكلام بشكلٍ فيه شيء من الدقّة، فنقول:
تارةً يكون مراده أنّنا باستصحاب العدم نصيّره موضوعاً فعليّاً حقيقيّاً للعامّ بما هو حجّة، الذي انحسرت حجّيّته عن العنوان الذي شمله الخاصّ.
وأُخرى يريد نفي الخاصّ فحسب، نفي شمول الخاصّ للمقام؛ إذ لا داعي لإثبات أنّ العامّ يشمل؛ لأنّ العامّ شامل تلقائيّاً لكلّ فردٍ يصدق عليه أنّه عالم. وإنّما نحتاج إلى إجراء الأصل لرفع المانع فقط، لنفي الفسق.
وإذا كان الأمر كذلك، فنقول:
على الأوّل: من الواضح أنّ كلامه لا يصحّ؛ إذ استصحاب عدم الفسق لا يكون الانتقال منه إلى ما يقابله، وهو العدالة ـ مثلاً ـ، إلّا بالانتقال إلى عنوان وجوديّ. هكذا يمكن أن يُقال. وهذا ما ذهب إليه تلميذه المحقّق العراقيّ رحمه‌الله، ووافقه عليه بقوّة مرسِلاً له إرسال المسلّمات الشهيد الصدر رحمه‌الله. فعندهما: أنّه إذا قلنا بعدم تعنون عنوان العامّ بنقيض عنوان الخاصّ، لا مانع لجريان استصحاب عدم الخاصّ؛ لأنّ استصحاب عدم الخاصّ لا يصيّره فرداً من أفراد العامّ. ويظهر من المحقّق العراقيّ رحمه‌الله أنّ هذا شيء بديهيّ، كما أنّه في نهاية الأفكار يُرسل إرسال المسلّمات أنّه بناءاً على التعنون يجري الاستصحاب، ولا يُشكل هناك على صاحب الكفاية رحمه‌الله بشكل مباشر، كأنّه يفترض أنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله القائل بجريان يقول بالتعنون، مع أنّه من الواضح أنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله لا يقول بالتعنون.
لكن الصحيح أنّ القول بلزوم الانتقال من أساسه لا يتأتّى على هذا المبنى؛ إذ هم غير قائلين بالتعنون، وإذا كانوا غير قائلين بالتعنون، فهم لا يقولون إنّ موضوع العامّ قد تبدّل بعد التخصيص، أقصى ما في البين: أنّ العامّ بات يوجد مانع من شموله للعنوان الذي شمله المخصّص، لا أكثر، وإلّا، فإن كان مراده الأوّل، فهو عود إلى التعنون، ولو بالتقرير الذي نحن قرّرناه، لا بالتقرير الذي قرّر المحقّق النائيني رحمه‌الله، ومعه: لا مانع من جريان الاستصحاب، كما أسلفنا؛ إذ التعنون بمعنى التركّب من العنوان الأصليّ الذي هو العالم، وعدم الفسق، هذا يطيّره استصحاب عدم الفسق في المصداق الخارجيّ، كافٍ في تحقيق العنصر الثاني من عنصرَي العنوان، الذي بات العامّ حجّةً فيه. لكن هذا لا يتناسب مع عدم التعنون، بل هذا تعنون، فنحن هنا لا نبحث عن تعنون ورد في آية أو رواية، بل نبحث بحثاً ثبوتيّاً.
خصوصاً على مبنى المحقّق العراقيّ المنكر لجريان الاستصحاب في المقام والمشبّه للتخصيص بموت الأفراد، الواضح في أنّه لا يلوّن العامّ بأيّ تلوينة، معنى ذلك: أنّ موضوع العامّ لا يصبح مركّباً، غاية الأمر: أنّ هناك مانعاً أثبته الخاصّ، فباستصحاب عدمه يَثبت عدم المانع، وإذا ثبت عدم المانع بالتعبّد، فإنّ المقتضي تلقائيّاً يؤثّر أثره. بل ظاهر الدليل العامّ ليس في أنّه مقتضٍ فحسب، بل ظاهره أنّه علّة تامّة في أنّ وجوب الإكرام هو بمناط العلم، وأنّه ليس هناك أمر ثانٍ له تأثير في ذلك سلباً ولا إيجاباً. فحينئذٍ: المخصّص أبرز لنا مانعاً، لا أزيد من ذلك، وإذا كان المخصّص لا يزيد على كونه يُبرز مانعاً، فباستصحاب عدم الفسق نستصحب عدم المانع. فيكون المقتضي ثابتاً بالعامّ، وقد بتنا نعلم أنّ هناك مانعاً، وبما أنّ لدينا شبهة مصداقيّة لهذا المانع، فعلى مستوى الأدلّة يجمل الخطاب؛ لأنّ نسبته إليهما واحدة. وأمّا على مستوى الأصل العمليّ، فقد جرى استصحاب نفى المانع، الذي هو الفسق. وبنفيه للمانع، تلقائيّاً يؤثّر المقتضي أثره.
فمن هنا نقول: غريب حقّاً ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ رحمه‌الله وتبعه عليه الشهيد الصدر رحمه‌الله. نعم، المحقّق الخراسانيّ حينئذٍ يكون منسجماً مع مبناه؛ إذ المفروض أنّه لا يقول بالتلوين ولا بالتعنون، فحينئذٍ يقول: العالميّة ثابتة بالوجدان، وبناءاً على عدم التعنون ليس هناك جزء ثانٍ للموضوع. (بل حتّى الذي يقول بتركّب الموضوع هو يقول به بمعنى التركّب من المقتضي وعدم المانع، فعدم المانع يُمكن إثباته بإجراء الاستصحاب لنفي المانع، والمقتضي ثابت بالوجدان)، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يريد أن يُجري الاستصحاب؟
وحينئذٍ: فما أفاده المحقّق العراقيّ رحمه‌الله في نهاية الأفكار من أنّ الأثر الشرعيّ في هذه الحالة (على مبناه ومبنى أستاذه صاحب الكفاية رحمه‌الله) لا يترتّب إلّا بالانتقال إلى عنوان ملازم أو عنوان وجوديّ، فهو غاية في الغرابة بناءاً على عدم التعنون، الذي بنى عليه هو وأستاذه.
من هنا، فالصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه‌الله على هذا المبنى.
هذا تمام الكلام فيما يرتبط بالعامّ والخاصّ من هذا البحث. وقد رأينا كيف أنّ هذا البحث لا يرتبط ببحث استصحاب العدم الأزليّ.
بعد هذا، يقع الكلام في الاستصحاب، في أنّ دليل الاستصحاب هل يشمل الاستصحاب العدميّ، أم أنّه لا يشمل إلّا الاستصحاب الوجوديّ؟
مسلّم عند المحقّقين أنّ الاستصحاب يجري في كلّ مستصحب كان له أثر شرعيّ، سواء كان عدميّاً (استصحاب بقاء الموجود)، أم عدميّاً (استصحاب عدم الوجود).
النقطة الثانية التي تُبحث في الاستصحاب، أنّ الاستصحاب هل هو حجّة في لوازمه الشرعيّ أم لا؟ الجواب واضح، وهو أنّه حجّة. هل هو حجّة في لوازمه غير الشرعيّة أم لا؟ وهذا ما يُسمّى بـ الأصل المثبت. والمعروف أنّه ليس حجّةً فيها. وفصّل بعضهم بين الواسطة الخفيّة وغيرها، كالشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله، وربما تبعه المحقّق النائيني رحمه‌الله في بعض تقريراته. والصحيح في محلّه أنّه ليس حجّةً في لوازمه غير الشرعيّة مطلقاً.
النقطة الثالثة التي تُبحث، أنّ الانتقال في الاستصحاب العدميّ من السالبة بانتفاء الموضوع إلى السالبة بانتفاء المحمول، يعني: من العدم ما قبل وجود الموضوع إلى العدم في ظرف وجود الموضوع، هل هذا مشمول لأدلّة الاستصحاب؟ ثمّ هل يلزم وينجم عنه أصل مثبت أم لا؟ بمعنى: أنّه هل يلزم من الانتقال السالبة بانتفاء الموضوع إلى السالبة بانتفاء المحمول، أي: في ظرف وجود الموضوع، الانتقال من العدم إلى الوجود ليترتّب الأثر أم لا؟ هذه النقاط كلّها لا علاقة لها ببحث العامّ والخاصّ، وإنّما تُبحث في بحث الاستصحاب.
المهمّ أنّ لهذا البحث وجهتين: كبرويّة وصغرويّة.
فالوجهة الكبرويّة هو أنّه هل تشمله أدلّة الاستصحاب أم لا؟ وأنا لم أرَ من شكّك في شمولها لها سوى السيّد البروجرديّ رحمه‌الله. وتشكيكه في هذا من الغرائب؛ إذ قد علّل تشكيكه بأنّ أدلّة الاستصحاب قضايا ملقاة إلى العرف، واستصحاب العدم الأزليّ دقيق جدّاً وهو ممّا لا يفهمه العرف، فلا يكون مشمولاً لحديث (لا تنقض اليقين بالشكّ).
لكنّ أقلّ ما يُقال في هذا الكلام أنّه خلط بين المفهوم والمصداق. فالعرف إنّما نرجع إليه في فهم المفاهيم، وأمّا كون هذا المصداق مصداقاً له أم لا، فلا، بل يجب التدقيق والتأمّل في كونه مصداقاً أو عدم كونه كذلك. فالنقض الوارد في الأدلّة مفهومه واضح بيّن، ولا كلام فيه. وإنّما المشكلة في استصحاب العدم الأزليّ في أنّ هذا بالدقّة هل هو من مصاديق النقض أم لا؟ حتّى يكون من مصاديق النقض يجب أن تكون وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة محفوظة، فحيث لا تكون محفوظة لا يكون هناك نقض. فالكلام في أنّ عدم الانتساب إلى قريش ـ مثلاً ـ قبل وجود المرأة، وعدم الانتساب إليها بعد وجودها، هل عدم الانتساب الأوّل هو عينه عدم الانتساب الثاني، أم أنّ عدم الانتساب الثاني له حظّ من الوجود كما يقولون؛ لأنّه في موضوع ناجز وموجود؟ فالبحث بحث مصداقيّ، وفي البحث المصداقيّ نُعمل الدقّة لنعرف أنّه مصداق أم لا. وعليه: فهذا الكلام منه رحمه‌الله في الحقيقة هو من خلط المطلب.
العمدة في البحث التي توجّهت إليها أنظار المحقّقين، هو أنّ الانتقال من السالبة بانتفاء الموضوع إلى السالبة بانتفاء المحمول هل يصيّره أصلاً مثبتاً تلقائيّاً أم لا؟
والفرق بين هذا وبين الأصل المثبت الذي كنّا نتحدّث عنه، هو أنّ الأصل المثبت الذي كنّا نتحدّث عنه هو أنّ التخصيص هل يعنون العامّ بعنوان وجوديّ يصيّر القضيّة من قبيل الموجبة المعدولة، فلا يجب الاستصحاب؟ ولذلك أصررنا حينها على أنّ الاستصحاب العدميّ لا يجري حتّى لو لم يكن العدم عدماً أزليّاً. هذا بحث تمّ خلطه بالأبحاث، وقد رُبط ببحث استصحاب العدم الأزليّ، مع أنّه يأتي في كلّ استصحاب عدميّ، ولذلك نجد بعض المحقّقين (كالشهيد الصدر رحمه‌الله) يقولون منذ بداية البحث: إنّ العدم إن كان في موضوع ناجز سابقاً فلا إشكال في جريان الاستصحاب، مع أنّه بناء على الموجبة المعدولة يجري مطلقاً. ولذلك نُكبر المحقّق العراقيّ رحمه‌الله في هذا الجانب، حيث لم يخصّص البحث (على الأقلّ في نهاية الأفكار) باستصحاب العدم الأزليّ، بل تحدّث عن الأصل مطلقاً، حتّى أنّ بعض أمثلته ليست من قبيل استصحاب العدم الأزليّ، مع أنّه لم يُطل بالبحث.
فالحديث الآن في استصحاب العدم الأزليّ خصوصيّته أنّه مشمول للأدلّة أم لا؟ وقد قلنا: إنّ هذا ليس محلّ بحثٍ هنا؛ فإنّ البحث هنا صغرويّ كما أشرنا.
الإشكال الثاني المهمّ هو أنّ السالبة بانتفاء الموضوع، عنوان عدم الانتساب إلى أميّة في (لا تكرم الفقير الأمويّ) في ظرف وجود الموضوع هل يتحوّل من قضيّة سالبة إلى موجبة معدولة أم لا؟
وهذا البحث يُعقد بمعزل عن وجود عامٍّ وخاصّ، كما لو لم يكن لدينا عامّ وخاصّ، وورد دليل واحد يقول: (لا تكرم الفقير الأمويّ)، وشككنا في أنّ هذا الفقير أمويّ أم لا، فهل لدينا أصل يُحرز لنا أحد الطرفين؟
القائل باستصحاب العدم الأزليّ يقول: إنّ الشارع يتعبّدنا بأنّه ليس أمويّاً؛ إذ الموضوع يقول: الفقير الأمويّ. فأمّا فقره، فثابت بالوجدان. وأمّا أمويّته، فلم تكن موجودة قبل وجوده، نشكّ في أنّها قد وُجدت بعد وجوده، الانتساب إلى أميّة مسبوق بالعدم قبل وجوده، فبعد وجوده نستصحب عدم الانتساب.
إذاً، البحث في استصحاب العدم الأزليّ ليس خاصّاً بكون مجرى الاستصحاب مخصّصاً لعموم. وإنّما صار مقروناً في الأذهان أنّ بحث استصحاب العدم الأزليّ مندرج تحت العامّ؛ لأنّهم لم يبحثوه في مباحث الاستصحاب، وإنّما بحثه الكلّ في ذيل بحث العامّ والخاصّ، وهذا ما سبّب الإشكاليّة.
وهذه الأبحاث نأخذها نحن كأصول موضوعيّة من بحث الاستصحاب. والصحيح أنّ استصحاب العدم الأزليّ ليس انتقالاً من العدم إلى الوجود.
وقد وافق المحقّق النائيني رحمه‌الله في أجود التقريرات وفي فوائد الأصول على جريان استصحاب العدم الأزليّ كبرويّاً بهذا المعنى. إنّما مشكلته رحمه‌الله في هذين الكتابين تكمن في إدراجه فرداً من أفراد العامّ، وليس في نفي حكم الخاصّ. لكنّ الذي يقول بالتعنون الذي هو رحمه‌الله يقول به، لا يكفيه نفي كونه فرداً من أفراد الخاصّ، بل عليه أن يُثبت أنّ العدول الموجود في الموجبة المعدولة في العامّ. ولذلك، ما اشتهر من أنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله يُنكر مطلقاً جريان استصحاب العدم الأزليّ، هذا ليس دقيقاً.
نعم، في رسالته في اللّباس المشكوك يظهر منه أنّ لديه مشكلة في أصل إجراء استصحاب العدم الأزليّ.
عموماً، هذه الأبحاث محلّها مباحث الاستصحاب، ونحن نؤجّلها إلى هناك. والصحيح: أنّ استصحاب العدم الأزليّ يجري في نفسه، ولا مشكلة فيه.
هذا تمام الكلام في هذا المبحث العامّ، وقد أعطيناه حقّه وزيادة، وسلّطنا الضوء على نقاطٍ قد يصعب العثور عليها في الكلمات.