بعد تماميّة
البحث في التمسّك بالعامّ في الشبهات، وبعد اتّضاح أنّه لا يصحّ التمسّك بالعامّ
في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه المنفصل. يقع الكلام في تتمّة.
وهي أنّه قد وقع
الكلام في أنّه هل يمكن أن ننقّح موضوع العامّ بالأصل العمليّ في موردٍ تمّت فيه
أركانه أم لا؟
والمقصود من
الأصل في المقام هو الاستصحاب، لا بقيّة الأصول أو ما في حكمها، كبعض القواعد
الفقهيّة التي هي في قوّة أصل عمليّ.
هكذا ينبغي أن
يُعنون البحث؛ إذ في جملة من الكلمات عُنون البحث بجريان الاستصحاب في الأعدام
الأزليّة، مع أنّ الاستصحاب في العدم الأزليّ هو شقّ من شقوق البحث، وليس هو تمام
المبحوث عنه هنا.
وفي
المقام جنبتان:
جنبة كبرويّة،
ترتبط بتأثير مبحث العامّ والخاصّ على جريان أو عدم جريان الاستصحاب في المقام.
وجنبة أُخرى
ترتبط بنفس الاستصحاب، وهو بحث صغرويّ، في مباحث الاستصحاب، وتطبيق قاعدة لا تنقض
اليقين بالشكّ، وأنّ أركانها هل هي متوفّرة في المقام أم لا؟
ولا كلام في
العادة في الاستصحاب في أنّ استصحاب العدم تتوافر فيه أركان الاستصحاب، إنّما يقع
الكلام هناك في خصوص شمول أدلّة الاستصحاب، أو حيثيّات الاستصحاب، وأركانه، في
مورد واحد من موارد الاستصحاب في المقام، وهو الاستصحاب المسمّى بـ استصحاب
الأعدام الأزليّة.
توضيح الأمر
عموماً (ولن ندخل في تفاصيله هنا) يرتبط ببحث مهمّ، ومحلّ هذا البحث هو مباحث
العامّ والخاصّ، وهو الذي يليق أن يُذكر هنا، وهو أنّ التخصيص في المخصّص المنفصل
أو ما كان كالاستثناء من المتّصل (بحسب تعبير صاحب الكفاية رحمهالله)، هل يُعنون
العامّ بنقيض عنوانه أم لا؟ وعلى الأوّل، فهل يصبح العنوان الطارئ على العامّ بسبب
التخصيص عنواناً تقييديّاً، أم عنواناً انضماميّاً.
وبعبارةٍ
أُخرى:
هل تصبح القضيّة من قبيل الموجبة المعدولة المحمول، أو الموجبة المسلوبة المحمول،
أم من قبيل القضيّة السالبة؛ إذ على الأوّل ـ بشقّيه ـ يصبح العنوان عنواناً
وجوديّاً، فالعنوان يصبح عنواناً وجوديّاً، وإذا بات عنواناً وجوديّاً، فلا يَثبت
هذا العنوان الوجوديّ باستصحاب العدم، إلّا بنحو الملازمة غير الشرعيّة، فتتحقّق صغرى
لكبرى حجّيّة أو عدم حجّيّة الاستصحاب في لوازمه غير الشرعيّة. بينما إذا قلنا
بأنّ المتحصّل بعد التعنون على غرار السالبة، لا الموجبة، فيكفي حينئذٍ ثبوت
العدم، الذي هو الجزء الثاني، بعد أن كان الجزء الأوّل، المأخوذ في عنوان العامّ،
ثابتاً بالوجدان، وهو معنى التركّب في الموضوع. وهذا فضلاً عمّا لو قلنا بعدم
التعنون أصلاً، كما هي مقالة صاحب الكفاية والمحقّق العراقيّ*.
ثمّ هنا كلام،
حتّى بناءاً على عدم التعنون، وهو أنّه هل يكفي لترتيب الأثر سلب العنوان الخاصّ،
كسلب عنوان الفسق (هذا ليس مختصّاً بالأعدام الأزليّة، بل يأتي في كلّ استصحاب
عدميّ) ليترتّب على ذلك كونه موضوعاً فعليّاً للعامّ أم لا يكفي؟
تُوهم بعض
الكلمات أنّ هذا نتيجة تلقائيّة، مع أنّه هناك من قال بعدم التعنون ومع ذلك قال
بعدم كفاية الاستصحاب العدميّ في المقام.
وبعض الكلمات
تُوهم أنّ البحث مختصّ باستصحاب العدم الأزليّ. وأيضاً هذا غير دقيق. بل كلّ
استصحاب عدميّ جرى في الشبهة المصداقيّة للخاصّ، إذا قلنا بالتعنون على سبيل
الموجبة المعدولة أو الموجبة مسلوبة المحمول، سوف يصبح الأثر سارياً للانتقال من
العنوان العدميّ إلى العنوان الوجوديّ، وهو لازم غير شرعيّ، سواء كان العدم
المستصحب عدم صفة طارئة على وجود الشيء، وهو المسمّى بـ العدم النعتي، أو صفة
ملازمة لوجود الشيء، كالأمويّة والقرشيّة، وهو الذي يُسمّى استصحاب عدمه باستصحاب
العدم الأزليّ، تجرية السالبة بانتفاء المحمول بانتفاء الموضوع في ظرف السالبة
بانتفاء المحمول.
هذه هي النقطة
الجديرة بالبحث، وهي ـ للأسف ـ مطويّة في الكلمات، بحيث نحتاج إلى التفتيش عن
نكاتها؛ إذ طريقة دخولهم في البحث ـ بحسب أكثر الكلمات ـ كانت مختصّة بخصوص
استصحاب العدم الأزليّ، مع أنّ بعض هذه المشكلات لو لم تُحلّ، فلن ينفعنا حتّى
استصحاب العدم النعتيّ، فضلاً عن استصحاب العدم الأزليّ. بينما يُخيّل لمن يُطالع
معظم الأبحاث بأنّ الإشكاليّة في المقام مختصّة باستصحاب العدم الأزليّ، أمّا
استصحاب عدم الفسق في الشبهة المصداقيّة في مثل(لا تكرم الفاسق)، وما ناظرها، وما
أكثرها، ممّا كان موجوداً وله حالة سابقة نستصحبها، كما في الفاسق، يُقال: كان
موجوداً ولم يكن فاسقاً، أي: بعد البلوغ كان موجوداً وغير فاسق، نشكّ في أنّه فسق
أم لا، نستصحب عدم فسقه، (لا قبل البلوغ، فإنّ فرض البحث في مرحلة ما قبل البلوغ
لا معنى له). وبالجملة: كلّ الصفات الطارئة التي هي ليست من قبيل لوازم الماهيّة
أو لوازم الوجود، فإنّ استصحاب العدم فيها من استصحاب العدم النعتيّ، كما هو واضح.
فيُخيَّل لنا ونحن نقرأ أبحاث القوم هو أنّ هذا لا كلام فيه أصلاً، مع أنّ الإشكال
هنا يأتي بناءاً على تعنون العامّ بعنوان وجوديّ.
الذي نريد أن
نرتّب عليه الأثر الشرعيّ هو شمول العامّ له في ظرف الشكّ، فإذا قلنا: في التخصيص
بالمخصّص المنفصل لا يكفي استصحاب العدم لصيرورته جزءاً للموضوع؛ لأنّ العامّ قد
تعنون بعنوان وجوديّ، فالأصل سيكون أصلاً مثبتاً، سواء كان استصحاب العدم الأزليّ
أم العدم النعتيّ، ولا يختصّ بالعدم الأزليّ.
نعم، يختصّ
العدم الأزليّ بإشكال خاصٍّ به، وهو أنّ الانتقال من السالبة بانتفاء الموضوع إلى
السالبة بانتفاء المحمول هل يصبح من قبيل الأصل المثبت أم لا؟ لذلك سمّينا الخلاف
هناك في الاستصحاب بأنّه خلاف صغرويّ، لا كبرويّ.
اللّهمّ إلّا
على كلام واحدٍ فقط، وهو السيّد البروجرديّ رحمهالله، الذي شكّك في أصل شمول
أدلّة الاستصحاب، فيصبح الخلاف حينئذٍ كبرويّاً. ولا مجال لخوض تفصيلات هذا البحث
في المقام.
الذي يعنينا هنا
في العامّ والخاصّ هو تحقيق هذه الجهة، وهو أنّ التخصيص هل يعنون العامّ أم لا
يعنونه؟ وإذا كان يعنون العامّ بنقيض عنوانه، فما المقصود ـ بالدقّة ـ من التعنون؟
أوّلاً: ذهب
المحقّق صاحب الكفاية رحمهالله إلى أنّ التخصيص لا يعنون العامّ بنقيض عنوانه، بل
يبقى العامّ شاملاً لكلّ عنوان غير العنوان الذي شمله الخاصّ، فلمّا قال المولى:
(أكرم كلّ عالم)، شمل كلّ أفراد العالم، وكلّ أوصاف ونعوت العالم، بلا فرقٍ بين
الأوصاف الوجوديّة والعدميّة، (العالم مستيقظ أو نائم، فاسق أو عادل، نحويّ أو
فقيه، إلى ما هنالك..)، ولم يُنصّص في العموم على هذه العناوين، لكنّه يشملها بلا
شكّ، بعض الجهات يشملها بالعموم، وبعضها بالإطلاق. (وهذه النقطة تقدّم الكلام فيها
عند الحديث عن أنّه هل نحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخول الأداة لنحصل على
العموم أم لا، وهناك كان المقصود: لنحصل على العموم على مستوى الأفراد، وأمّا
حالات كلّ فردٍ من الأفراد، فتلك تكون مشمولةً بالإطلاق الأحواليّ، ولا دخل لها
بالعموم، ولا هي منظور إليها في العموم. فمن جهة هذه الأحوال والأوصاف البحث يكون
بحثاً في الإطلاق، لا في العموم، لكن حيث إنّ نتيجة التخصيص ببعض الصفات يُخرج بعض
الأفراد، فمن هذه الجهة تُحدّث عنه في إطار العموم. فتارةً ننظر إلى الفرد
وحالاته، هذا بحاجة إلى إطلاق، وتارةً ننظر إلى أنّ صفةً إذا أُدخلت خرجت جُملةً
من الأفراد لفسقهم ـ مثلاً ـ، فنقول: إنّ العموم يدفع التقييد بهذه الحالات؛
لأنّه يلزم منه خروج أفرادٍ من تحت العامّ).
إذا كان الأمر
كذلك، يقول صاحب الكفاية رحمهالله: إنّ الخاصّ اقتطع من العامّ عنوان الفاسق ـ
مثلاً ـ، فيلزم حينئذٍ أن يخرج عن العالم كلّ فردٍ كان متّصفاً بصفة الفسق، لكنّ
خروجه خروج موضوعيّ، لا عشوائيّ؛ لأنّه متلبّس بصفة الفسق، العامّ يشمل كلّ الصفات
التي يتّصف بها العالم، ومنها صفة الفسق، فجاء الخاصّ واقتطع من يتّصف بصفة الفسق
كائناً من كان من العلماء، فيستوجب هذا ـ تلقائيّاً ـ قصر العامّ على بقيّة
العناوين. لا بمعنى: أنّ الخاصّ له مدلول التزاميّ يستوجب أن يتعنون العامّ ببقيّة
العناوين غير عنوان الخاصّ، بل بمعنى: أنّ الخاصّ أخرج هذا العنوان، وهو من الأساس
يشمل كلّ هذه العناوين. وأيضاً لا بمعنى التنصيص عليها في الدليل العامّ؛ إذ
الدليل العامّ لم يرد فيه إلّا (كلّ عالم)، لازم الشمول لكلّ عالم الشمول للعالم
الفاسق وللعالم النحويّ ونحو ذلك، فجاء الخاصّ واقتطع، هذا اللّازم الموجود في
العامّ لم يعد يشمل مورد التنصيص الوارد في الخاصّ، وهو الفاسق من أهل العلم.
وإذا كان كذلك،
فالعامّ كأنّه معنون بجميع العناوين، والخاصّ أخذ منها عنواناً، لكنّ الخاصّ ـ
يقول صاحب الكفاية رحمهالله ـ لم يصبغ على العامّ أيّة صبغة، ولم يعنونه بعنوان
جديد.
المحقّق
العراقيّ رحمهالله أيضاً يبني على مبنى أستاذه صاحب الكفاية رحمهالله في هذه
القضيّة، فيقول: لا معنى للقول بتعنون العامّ بعنوانٍ بسبب التخصيص، (إذا كان
المخصّص عدميّاً فيتعنون العامّ بنقيضه أي: بعنون وجوديّ، وإذا كان المخصّص
وجوديّاً فيتعنون العامّ بعنوان عدميّ) بل أقصى ما في البين أنّ الخاصّ أخرج من
تحت العامّ (وهذا المقدار ما بيّنه صاحب الكفاية رحمهالله).
التتمّة في كلام
المحقّق العراقيّ رحمهالله التي ليست موجودة في كلام صاحب الكفاية رحمهالله هي:
أنّ خروج الأفراد من تحت العامّ بسبب التخصيص يكون من قبيل موت الأفراد، أي: السالبة
بانتفاء الموضوع.
هذه التتمّة رمت
المحقّق العراقيّ رحمهالله في كلمات غير واحدٍ من المحقّقين، كالشهيد الصدر رحمهالله،
بأنّه صار إلى غرابةٍ من الكلام، حتّى قال الشهيد الصدر رحمهالله: وهذا من غرائبه
رحمهالله؛ إذ موت الأفراد يُعدم الموضوع الوارد في العامّ، يعني: موت العالم يوجب
انتفاء عنوان العالم عن ذلك المصداق، بينما الخاصّ لا يُخرجه بنحو السالبة بانتفاء
الموضوع، بل يُخرجه بحيثيّةٍ يجتمع معها الموضوع، فهو أخرجه بسبب فسقه، لا بسبب
كونه غير عالم، بل حتّى إذا ورد الدليل الشرعيّ بلغة الحكومة أو التنزيل، كما لو
ورد: من ييئّس الناس من رحمة الله فليس بفقيه؛ فإنّه ليس المقصود أنّ هذا ليس
بفقيه بمعنى: أنّه غير قادر على استنباط حكم شرعيّ، بل هذا تنزيل له بمنزلة غير
الفقيه، فتُسلب عنه الآثار واللّوازم الشرعيّة التي رتّبها الشارع على عنوان
الفقيه، ولا يعود هذا الفقيه الذي ييئّس الناس مشمولاً للأدلّة الشرعيّة التي
تقول: أكرم الفقيه، أو قلّد الفقيه، ونحو ذلك.
فهذا سلب
محموليّ، وليس سلباً موضوعيّاً. هذا أوّلاً.
وثانياً: موت
الأفراد لا يحمل لوناً أو طعماً أو رائحة، لا يحمل عنواناً، بينما المخصّص يُخرج
أفراداً تصبح بحكم المَيّتة بالنسبة للعامّ، لكن ليس موتاً حقيقيّاً، لا يسلب عنها
العلم، لكن يُخرجها من تحت حكم العامّ في (أكرم كلّ عالم) بعنوان خاصّ له طعم ولون
ورائحة، وهو عنوان الفسق، لذلك شُنّع على المحقّق العراقيّ تشبيهه بموت الأفراد.
(قد يكون قصد المحقّق العراقيّ رحمهالله من موت الأفراد هو خروج الأفراد، وإلّا،
هذا الذي اعترضنا به عليه ممّا لا يخفى على ذي مسكة، فكيف بمثل المحقّق العراقيّ
رحمهالله؟!).
وكيف كان، فليس
هذا التشبيه هو المهمّ في المقام، المهمّ هو الكلام في أنّه يعنون أو لا يعنون؟
فما هو الصحيح في المقام؟
يظهر من المحقّق
النائيني رحمهالله أنّه يقول بالتعنون، لكن يظهر منه أنّه يقول بتعنونٍ خاصّ،
فكأنّ التخصيص يُضيف عنواناً وجوديّاً للعامّ، وهو ما أوجب تشنيعاً ما في بعض
كلمات المحقّق العراقيّ رحمهالله على المحقّق النائيني رحمهالله.
وهناك كلام عن
التعنون لا يلزم منه هذا المعنى، فقد يستخلص الإنسان أنّه بناءاً على التعنون هناك
نظريّتان، لا نظريّة واحدة.
فنسأل: هل
يستوجب التعنون أم أنّ الحقّ مع صاحب الكفاية والمحقّق العراقيّ*؟
فإذا
قلنا:
لا، بل هو يستلزم التعنون، فأيّ تعنون هو الذي يستلزمه، هل هو التعنون المنسوب إلى
المحقّق النائيني رحمهالله الذي يستلزم التقييد بعنوان وجوديّ (بمعزل عن صحّة
النسبة إليه)؟ أم هو التعنون الذي يظهر من السيّد الخوئيّ والشهيد الصدر*، ولا يستوجب
تقيّد الموضوع الوارد في العامّ بعنوان خاصّ، فيصيّر القضيّة من قبيل الموجبة
المعدولة أو الموجبة سالبة المحمول؟