بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام فيما وجّه به غير واحدٍ من المحقّقين المتأخّرين عن الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله مقالته القاضية بحجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص وإن بنينا على أنّ استعماله في العموم يكون استعمالاً مجازيّاً.
وفي هذا السياق، أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله في كلا تقريريه، الفوائد والأجود، أنّه لا وجه للتسليم والتنزّل الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله إلّا دعوى أنّ العموم الاصطلاحيّ موضوع بوضعٍ تركيبيّ غير وضع الأداة ووضع مدخولها لمعناهما، ذلك أنّه لا يُصار إلى المجازيّة فيما لو كان المخصّص يخصّص خصوص مدخول الأداة، ولو كان بالتخصيص المنفصل، ولا داعي للإطالة في هذا الجانب من الكلام؛ لأنّه عود إلى الوضع.
فقال رحمه‌الله: وبناءاً على ذلك، يمكن تخريج ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه‌الله بأن يُقال:
إنّ المخصّص يزاحم خصوص مورده من العامّ، ذلك أنّ العامّ وإن كان دليلاً وحدانيّاً على مستوى الصياغة اللّفظيّة، لكنّه في المعنى والمدلول هو مجموعة أحكامٍ ينحلّ إليها بعدد تقسيماته اللّاحقة على العموم، سواء على مستوى الأفراد أم الأصناف والأنواع، فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الخاصّ إنّما زاحمه في خصوص موردٍ من موارده التي يدلّ عليها وينحلّ إليها. أمّا بقيّة مداليله في غير مورد المزاحمة، فإنّه يبقى دالّاً عليها؛ إذ لا ترابط بين دلالته على فردٍ من الأفراد ودلالته على فردٍ آخر، أو دلالته على صنفٍ من الأصناف ودلالته على صنفٍ آخر، فما دلّ عليه المخصّص خرج من تحت العامّ، وأمّا ما لم يدلّ عليه المخصّص، فإنّه يبقى على حاله واقتضائه، وحينئذٍ: تتمّ مقالة الشيخ رحمه‌الله.
وقد نبّه في ثنايا كلامه على أنّ هذا الكلام إنّما يأتي في العموم الاستغراقيّ، وهو الأصل في العموم، ذلك أنّ الأصل في العموم هو الاستغراق والانحلال، وهو يقضي بعدم صحّة هذا التوجيه، وهذه المقالة، في العموم المجموعيّ؛ لأنّه لا انحلال كما هو واضح للحكم فيه، لا أحكام حتّى في اللّبّ والواقع على مستوى المدلول، بل الحكم وحدانيّ ظاهراً وباطناً.
فلا معنى حينئذٍ لاستشكال بعض المحقّقين عليه بأنّنا نريد حلّاً لحجّيّة العامّ في الباقي حتّى في العموم المجموعيّ.
على أنّ البحث في أساس طرحه إنّما هو في العموم الاستغراقيّ، ذلك أنّ العموم المجموعيّ يُتعامل فيه بين العامّ والمخصّص عند أبناء المحاورة العرفيّة تعامل المتعارضين، لا التخصيص والتقييد، كما تقدّم شرحه قريباً. وحينئذٍ: لا بدّ أن يُصار إلى صحّة هذه المقالة من عدمها في موردها.
ومن هنا، تصدّى السيّد الخوئي رحمه‌الله لمقالة الشيخ النائيني رحمه‌الله بأنّنا نؤمن بالكبرى التي أفدتم، وأنّ العامّ الاستغراقيّ ينحلّ مدلولاً بعدد الأفراد والأصناف. ولكنّ الذي يدلّ على ذلك برمّته هو إمّا الوضع والاستعمال فيما وُضع له، وإمّا قرينة خاصّة، صارفة في مورد التخصيص ومنبّهة على بقاء الباقي، وإمّا قرينة عقلائيّة عامّة، والكلّ مفقود في المقام؛ إذ من الواضح: أنّ مبنى الكلام هنا على أساس المجازيّة، وأنّ العامّ لم يُستعمل في العموم. أمّا القرينة العامّة، فهي مفقودة. وأمّا الخاصّة، وهي الدليل المخصّص، فالمفروض أنّه صَرَف العامّ عن مورد التخصيص، ولا دلالة له على تعيين حجّيّته في الباقي، فنستنتج أنّه عندما بات الاستعمال مجازيّاً وتعدّدت العناوين والمراتب للمجاز فما هو المعيّن لخصوص أعلى المراتب، وهي كلّ الباقي، بين بقيّة المراتب؟ فعادت الشبهة من جديد ولم تنحلّ.
والظاهر: أنّ هذا البيان بهذا المقدار ممّا لم يزد شيئاً على مقالة الشيخ رحمه‌الله؛ إذ كلام الشيخ رحمه‌الله كان واضحاً في هذا الذي أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله، وإدخال عنصر الانحلال قدرٌ متيقّن لدى الجميع في المقام، وليس نكتةً جديدة.
إلّا أن يكون مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله أمراً أبعد قصرت عنه تعابير التقريرين.
ومن هنا، فإنّنا وجدنا المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله يتصدّى للردّ على أستاذه صاحب الكفاية رحمه‌الله، والانتصار للشيخ رحمه‌الله، فأفاد كلاماً فيه شيء من الطول، لكن يمكن اختصاره بالتالي:
وهو أنّ العامّ المستعمل في العموم له دلالات تضمّنيّة. هذه الدلالات التضمّنيّة هي دلالة العامّ على الأفراد والأصناف، فعندما يأتي المخصّص المنفصل ويُسقط دلالةً من هذه الدلالات في مرحلة المراد الجدّيّ، فلا مشكلة؛ إذ لم يُصرف العامّ عن الاستعمال في العموم، فبقيت الدلالة المطابقيّة على مستوى المراد الاستعماليّ على حالها، فتبقى الدلالات التضمّنيّة غير المزاحَمة بالخاصّ كذلك.
أمّا إذا صرنا إلى مقالة القائلين بالمجازيّة، والذين تصدّى الشيخ لحلّ الإشكال على أساس مقالتهم، بمعنى: أنّ الدلالة المطابقيّة سقطت على مستوى المراد الاستعماليّ، لا المراد الجدّيّ فحسب، فبات العامّ مستعملاً في غير العموم، بقرينة الدليل الخاصّ، فيمكننا أن نقول: إنّ الدلالة المطابقيّة قد سقطت عن الحجّيّة؛ لأنّ العامّ لم يُستعمل فيها على أساس هذا القول، لكن ما هو سبب السقوط؟ هل هو مزاحمة المدلول المطابقيّ بمدلولٍ مطابقيّ أسقطه بالكامل عن الحجّيّة، وصرفه عمّا ينبغي أن يكون عليه، أم أنّ سبب سقوطه هو سقوط دلالة تضمّنيّة من دلالته التضمّنيّة؟
يجيب المحقّق الأصفهانيّ: من الواضح أنّ الخاصّ أوّلاً وبالذات لا يزاحم الدلالة المطابقيّة مباشرةً، ولا يزاحم تمام الدلالات التضمّنيّة، بل مزاحمته لخصوص مورده، فمزاحمته لخصوص دلالة تضمّنيّة من الدلالات التضمّنيّة للعامّ، (أكرم كلّ عالم) (لا تكرم العالم الفاسق)، خصوص صنف الفاسق من العلماء هو المزاحَم، وهو دلالة تضمّنيّة من الدلالات التضمّنيّة المتفرّعة على الدلالة المطابقيّة، وهذا يُفضي إلى سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة بسبب سقوطها في مرحلة الاستعمال؛ لأنّ الكلام هو على تقدير المجاز. فسقوط الدلالة المطابقيّة إنّما كان بالسريان من الدلالة التضمّنيّة؛ لأنّ المنافاة أوّلاً وبالذات بين دلالة مطابقيّة لدليل الخاصّ وواحدة من دلالات الدليل العامّ التضمّنيّة فقط، وأمّا الدلالات التضمّنيّة الأُخرى فلا مزاحم لها.
فيدّعي رحمه‌الله هنا: أنّه يوجد فرق بين سقوط الدلالات التضمّنيّة بتبع الدلالة المطابقيّة عندما كان مركز المنافاة مع الدلالة المطابقيّة، وبين سقوط الدلالة المطابقيّة بسبب سقوط دلالة تضمّنيّة من الدلالات التضمّنيّة. هنا في الحقيقة الدلالة المطابقيّة إنّما سقطت تبعاً لسقوط دلالة تضمّنيّة، باتت هذه قرينة على أنّ الاستعمال بات استعمالاً مجازيّاً. وحينئذٍ: يمكن أن يُدّعى بأنّ الدلالات التضمّنيّة غير المزاحَمة في المقام تبقى على الحجّيّة. هذه خلاصة ما أفاده رحمه‌الله.
لكنّ هذا الكلام بهذا المقدار فهو يبقى مجرّد احتمال؛ إذ من حقّنا أن نقول: إنّ الدلالة التضمّنيّة باتت مصروفةً في مرحلة الاستعمال ببركة الدلالة المطابقيّة للدليل الخاصّ، وبه قد انصرفت الدلالة المطابقيّة عن كون العامّ مستعملاً فيها، فلم يعد ثمّة ما هو مستعمل على وجه الحقيقة بحيث يدلّ على الدلالات التضمّنيّة المتبقّية، ولم تُبرز لنا ما يجعل الدلالات التضمّنيّة الباقية حجّةً؛ إذ تنحصر حجّيّتها بوجود القرينة المعيّنة لها، ولم تبرز قرينة معيّنة، فعدنا إلى نفس نقاش السيّد الخوئي رحمه‌الله لأستاذه النائيني رحمه‌الله. نعم، هذا البيان أكثر فنّيّةً من بيان المحقّق النائيني رحمه‌الله.
أقول: حتّى يتمّ هذا الكلام لا بدّ من إضافة مصادرة عرفيّة في باب المحاورة، قد تكون هي مراد المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، بأن يُدّعى مصادرة عرفيّة مفادها أنّ دليل التخصيص ليس قرينةً صارفةً فحسب، بل هو بحسب المرتكز العرفيّ والعقلائيّ في باب المحاورة، كما يصرف مورد التخصيص ويُفضي بحسب الفرض إلى استعمال العامّ في غير العموم، هو في حدّ نفسه لا يُلغي دلالة العموم في العامّ بتمامها، وإن أفضى إلى استعماله في غير ما وُضع له.
بيان ذلك: أن يُدّعى أنّنا نتكلّم عن كلام متكلّمٍ عقلائيّ حكيم في كلامه؛ لأنّ مقام التشريع مقام عقلائيّ يُتطلّب فيه الحكمة، فعندما التجأ إلى التخصيص لإخراج بعضٍ ممّا شمله العامّ؛ فإنّ دليل التخصيص وإن أفضى جدلاً إلى الاستعمال المجازيّ يُعدّ قرينةً تلعب دورين، لا دوراً واحداً، صرف العامّ في مورد التخصيص، وتعيين العامّ في الباقي. وإلّا، للزم إجمال كلام الحكيم بسبب التخصيص، ولا يمكن للحكيم أن يتّخذ أسلوباً عرفيّاً في باب المحاورة يُفضي إلى إجمال الكلام، والحال أنّه في مقام الإفادة وليس في مقام الإهمال أو الإجمال.
ويمكن صياغة هذا الكلام بأسلوبٍ يتضمّن ـ ربما ـ منبّهاً وجدانيّاً عليه، وهو أن يُقال:
إنّ العلاقة بين مفاد العامّ وبين موارد شموله إذا أُخذت منحلّةً هي علاقة الكلّ بالجزء، وإذا أُخذت مجتمعةً بالأسر فهي علاقة الكلّ بنفسه. فإذا جاء الخاصّ وأخرج مورداً من موارد شمول العامّ، فقد أخرج جزءاً من أجزائه، وبقي بقيّة أجزائه، والتي هي هنا أفراد وأنواع، وليست أجزاءاً كما في العموم المجموعيّ، بقيت البقيّة على علاقة بهذا العامّ، إذ وإن بات هذا الاستعمال له في العموم مجازيّاً، لكنّ صيرورته استعمالاً مجازيّاً ليس جزافاً، بل بقرينة دليل التخصيص، ودليل التخصيص عندما أخرج مدلولاً من مدلوله، نوعاً أو فرداً أو صنفاً، فإنّه يصرفه عن الاستعمال الحقيقيّ، لكنّه لا يصرفه إلى المجهول، بل إلى بقيّة موارد الاستعمال، فيلزم من هذا استعمال الكلّ في معظم أجزائه، (لأنّ الكلام ليس في تخصيص الأكثر الذي هو مستهجن) فيصرفه إلى بقيّة مداليله. وهو تعبير آخر عن كون الخاصّ بنظر العرف صارفاً في مورده، ومعيّن لبقيّة الموارد.
والإنصاف: أنّ الإنسان إذا راجع وجدانه لا يشكّ في هذا مع هذه التتمّة، بل يمكن أن تُصاغ بمنبّه، هو نفس المنبّه السابق، لكن نترقّى في التنبيه، فنقول:
علائق المجاز تارةً تكون بين الكلّ والبعض وأُخرى بين المشابه ومشابهه، فإذا صُرف الاستعمال عن كونه حقيقيّاً بسبب القرينة، فتارةً تكون القرينة صارفة عن الاستعمال الحقيقيّ ولا يوجد للمجاز إلّا علاقة الشبيه بشبيهه، فإذا كان الشبيه واحداً انصرف إليه لا محالة، بينما إذا كان الشبيه متعدّداً ومتكافئاً في شباهته، فلا شكّ في أنّ الخطاب يجمل بنظر العرف.
أمّا إذا كانت قرينة المجاز، وهي الخاصّ بحسب الفرض، يصرف العامّ عن الاستعمال في الكلّ إلى الاستعمال في الجزء، فمن الواضح أنّ مدلوله العرفيّ الصرف إلى الجزء الذي لا يشمله الخاصّ، والصرف إلى المجهول.
إذا تمّ هذا الكلام. ونحن نزعم أنّه تامّ في وجدان المحاورة؛ إذ لم يشكّ أحد من الأصوليّين في أنّ العامّ حجّة في الباقي، سواء بنينا على كون الاستعمال حقيقيّاً أم لا، وإنّما صاروا إلى توجيه ذلك فحسب.
 لكنّ الصحيح كما تقدّم أنّ أصل التنزّل إلى المجازيّة لا داعي له، وليس في محلّه.
بعد هذا هناك كلام فيه شيء من طول الذيل، تعرّض له الشهيد الصدر رحمه‌الله، وكأنّه انتهى إلى أنّ كلا الحلّين ممكنان، والأمر مردّد بينهما، وعلى كليهما فالمجاز حجّة في الباقي، لكن عبّر بتعبير أنّ أصالة الحقيقة يمكن أن تتبعّض، وهو ما بحاجةٍ إلى مناقشة وتعليق، لكنّ البحث لا يستحقّ ذلك.
فنكتفي بهذا المقدار.
وقد وقفنا على أهمّ مبحثٍ في العامّ والخاصّ، وهو التمسّك بالعامّ في الشبهات المفهوميّة والمصداقيّة، له أو لمخصّصه، وهو بحث جليل؛ لأنّه عامّ البلوى في الفقه وفي الأدلّة اللّفظيّة، بل هو أهمّ بحثٍ في العامّ والخاصّ.