بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/14

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله. حيث استشكل رحمه‌الله في كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله عندما أفاد أنّ العامّ يمكن أن يكون مستعملاً في العموم قاعدةً، فتوقّف عند كلمة (قاعدة)، ووجّه إلى أستاذه إشكالين:
الإشكال الأوّل:
خلاصته: أنّ الإنشاء الواحد المنصبّ على موضوعٍ واحد إمّا أن يكون مُنشأً بداعي البعث الجدّيّ نحو جميع أفراده، وإمّا أن يكون ناشئاً عن داعيين: داعٍ جدّيّ بالنسبة إلى البعض، وداعٍ غير جدّيّ بالنسبة إلى البعض الآخر.
أمّا الشقّ الأوّل، فأفاد أنّه خلاف التخصيص؛ إذ من الواضح: أنّ القول بأنّ الشارع قد أنشأ حكمه على موضوعه بداعي إيجاد الداعي لدى المكلَّف جدّاً بالنسبة لجميع الأفراد خُلف كونه قد خصّص بعد ذلك. إذاً، فالشقّ الأوّل غير محتمل.
وأمّا الثاني، فهو يقتضي أن يكون الإنشاء جدّيّاً بالنسبة لغير مورد التخصيص، وغير جدّيّ من أوّل الأمر بالنسبة إلى الباقي، أي: لما يشمله المخصّص، وهذا محال؛ لأنّه يستلزم صدور الشيء الواحد عن داعيين مستقلّين، ولا يمكن صدور الواحد إلّا من الواحد.
الإشكال الثاني:
أنّنا في العامّ المخصَّص بالمنفصل يدور الأمر عندنا بين أحد رفعين: إمّا رفع اليد عن ظهور العامّ في استعماله في العموم، فيكون الاستعمال استعمالاً مجازيّاً، فتستحكم الشبهة. وإمّا رفع اليد عن ظهور العامّ في العموم على مستوى المراد الجدّيّ، مع كونه مستعملاً في العموم، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر. ومعه: فلا مُحرز لكون العامّ مستعملاً في العموم، فتعود الشبهة.
هذان الإشكالان حاول هو رحمه‌الله أن يجيب عليهما بجواب واحد، فأفاد بأنّ المخصّص المنفصل إمّا أن يرِد قبل وقت العمل والحاجة (أي: قبل وقت العمل بالخطاب وصيرورة الحكم فعليّاً) أو بعده.
فعلى الأوّل: فإنّه يمكن القول بأنّ الإنشاء وإن كان بداعي البعث جدّاً، ولم يكن ناشئاً من داعيين، لكنّه بلحاظ موضوعٍ يفيده المتكلّم بكلامين؛ ذلك أنّ من عادة هذا المتكلّم أن يفيد مراده بأكثر من كلام، فهو يعتمد المخصّصات المنفصلة في كلامه وتشريعه.
وعلى الثاني: فيمكننا أن نلتزم أيضاً بأنّ العموم مُنشَأ بداعٍ جدّيّ، إلّا أنّه أعمّ من المصالح الواقعيّة الأوّليّة والمصالح الثانويّة. يُقال: إنّ الشارع وإن كان مراده جدّاً وواقعاً من البداية إكرام العالم العادل بالخصوص، لكنّه لحكمةٍ عمّم خطابه إلى كلّ عالم، هذه الحكمة تشكّل المصلحة الثانويّة، ولو كانت الحكمة هي حكمة التدرّج في التشريعات، أو إبراز القانون الكلّيّ، مع كون الملاك موضوعاً أضيق من الخطاب، لكنّ التعميم ليس جزافاً، فيكون التعميم بالنسبة لمورد المخصّص تعميماً جدّيّاً، غاية الأمر: ليس ناشئاً من ملاكٍ واقعيّ في الموضوع والمتعلّق، بل لأجل هذه الحكمة، فيأتي المولى عندما ترتفع الحكمة المستدعية ويخصّص.
تقولون: يلزم من هذا إذا كان بعد وقت العمل قد أكرم غير العادل؟ فنقول: تولّد مراد جدّيّ ثانويّ بسبب الحكمة المستدعية لإكرام الفرد الذي لا يوجد ملاك واقعيّ بإكرامه، لمصلحةٍ ثانويّة، ولا مشكلة في هذا.
وبهذا الدفع يظهر من المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله أنّه يندفع كلا الإشكالين؛ إذ لم يعد هناك داعيان مستقلّان لتلزم الاستحالة. ولم يعد الداعي الجدّيّ الواقعيّ هو المحرّك نحو التشريع، بل أعمّ منه ومن المنبثق عنه، وهو الداعي الثانويّ.
كما أنّه يُرجَّح بهذا الجواب ما ردّد بينه من الوجهين في إشكاله الثاني، من دوران الأمر بين الاستعمال المجازيّ وخرق قانون الإرادة الجدّيّة؛ إذ المراد الجدّيّ محفوظ إذا ورد التخصيص بعد وقت العمل، ولو الثانويّ منه، فلا اختلال، لا في المراد الجدّيّ ولا في الاستعمال، وإذا كان قبل حضور وقت العمل فإنّه ممّن جرت عادته بإفادة خطابه التشريعيّ بأكثر من بيان، وحينئذٍ: لا يتولّد الإشكال.

[مناقشة كلام المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله]
هذا الكلام وإن أُصلح شأنه بجوابه إلى درجةٍ كبيرة، لكن من الأساس، الإشكال محلّ تأمّل ونظر بكلا شقّيه.
أمّا الإشكال الأوّل:
فمن الواضح: أنّ البعث الجدّيّ الواقعيّ لا يمكن إلّا أن يكون بقدر الملاك واقعاً؛ لأنّه هو المحصِّل له، ومنه تنشأ الإرادة، وعلى أساسه يُجعل الحكم، وحينئذٍ: فإنّ المولى إذا كان يمكن تحقيق ملاكه بجعل مصبّ حكمه نفس مصبّ الملاك كمّا وكيفاً، فلا يمكن أن يتعدّاه بوجهٍ. وأمّا إذا كان ما يحقّق الملاك أوسع ممّا فيه الملاك واقعاً، ولو لحكمةٍ خارجة، من قبيل شحذ همّة المكلّف أو بعث الهيبة في نفسه تجاه هذا الحكم بما يدفعه إلى امتثاله، أو ضرورات وحكمة التقنين، بأن كانت تستدعي إصدار الحكم معمَّماً، وإن كان الملاك الواقعيّ أضيق منه، فيصدره كذلك للتحفّظ على تحقيق هذا الملاك الواقعيّ. وقد يكون مصبّ الحكم المقدّمة التي تُفضي في العادة إلى ما يحقّق الملاك، كصبّ الحكم على الصلاة مع أنّ الملاك ـ مثلاً ـ  هو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فلا يوجد ما يستدعي أن يكون مصبّ حقّ الطاعة المُفاد بالقانون التشريعيّ نفس موطن الملاك، بل تخضع العمليّة التشريعيّة للحفاظ على الملاك بما يمكن الحفاظ به عليه. وهذا مبدأ عامّ، وليس خاصّاً بمحلّ كلامنا. بل وهذا ليس من مختصّات شارعنا أيضاً، بل هي دواعٍ عقلائيّة موجودة في كلّ شارعٍ حكيم.
في مثل موردنا، في باب العامّ والخاصّ، لغة القانون قد تقتضي في كثيرٍ من الحالات تعميم الخطاب وإن كان الملاك في بعض أفراده، أو في بعض أصنافه، وهذا أسلوب شائع، ونحن نرفض ما يُشاع من أنّ ذلك هو من مختصّات شارعنا، بل كلّ شارعٍ حكيم إذا اقتضت طبيعة التشريع الذي يشرّعه التدرّج في البيان، فإنّه يتدرّج في البيان، ولا يتردّد.
في الحقيقة، إنّ ما يميّز شارعنا في تشريعاته أمران:
أ. أنّه أحكم الحكماء، وهذا ليس فارقاً جوهريّاً في محلّ الكلام.
ب. كثيراً ما يُقال: إنّ شارعنا يعتمد المخصّصات المنفصلة، بينما بقيّة المشرّعين لا يعتمدون المخصّصات المنفصلة في العادة، ولا بدّ من السؤال هنا عن السبب في هذا الفرق، ما دام الكلام في المشرّع العقلائيّ الحكيم، فإنّ شارعنا حكيم أيضاً، بل هو خالق الحكمة وأحكم الحكماء، فنقول: بالنسبة للبيان وكيفيّات البيان لم يعتمد شارعنا أسلوباً جديداً، نعم، ما يميّزه عن غيره: أنّ المشرّع العقلائيّ تشريعاته في الغالب هي في قوّة قضايا خارجيّة، وهي محكومة بأزمنة آنيّة في العادة؛ لأنّها تنشأ من مصالح وقتيّة محدّدة، بينما نجد شارعنا يشرّع ـ خصوصاً في الشريعة الخاتمة ـ لجميع الأزمنة ولجميع الأمكنة، فهي شريعة عامّة شاملة، غاية في الشمول، وهي شريعة مستمرّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. طبيعة هذا التشريع تستدعي المزيد من الأمور التي لا تستدعيها تشريعات الموالي العرفيّين عادةً، بحيث يمكن أن ندّعي أنّ هؤلاء لو كانوا يشرّعون لفترةٍ أطول لوجدناهم حتماً ـ بمعزل عن البداء والعلم بعد الجهل والتبصرات التي تُلحق بالقوانين ـ يتدرّجون في بيان الأحكام بمقتضى حكمتهم. وهذا التدرّج قد يكون في أصل بيان الحكم، كتحريم الخمر، وقد يكون تدرّجاً في الإلزام بالحكم، وقد يكون تدرّجاً في كيفيّات البيان، وهذا الأخير هو محلّ كلامنا هنا.
ولعلّ مراد المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله بكلامه في الذيل من أنّ البيان قد ينشأ عن مصالح واقعيّة بالنسبة لبعض أفراد موضوعه، وعن مصلحة ثانويّة واقعيّة بالنسبة لبعض الأفراد الأُخرى، لعلّه يرمي إلى هذا الذي ذكرناه.
لكن حينئذٍ هذا لا يختصّ بالمخصّص الذي يكون بعد حضور وقت العمل، بل يدور مدار الحكمة المستدعية لهذه المصلحة الثانويّة التي اقتضت التعميم، سواء ارتفع داعيها قبل حضور وقت العمل أو بعده، بلا فرق، لا تتخصّص ولا تتقيّد بما بعد حضور وقت العمل. ما يميّز شارعنا ليس أنّه اتّخذ لنفسه منهجاً خاصّاً، بل طبيعة تشريعه تقتضي ذلك، والسرّ فيه: تأبيد هذه الشريعة وعمومها التغييريّ والشموليّ، فتستدعي في مقام التقنين والتشريع التدرّج، ونوع من أنواع التدرّج: أن يُفاد الحكم معمَّماً ليأخذ مجاله في الواقع ثمّ يخصّصه عندما يريد. فما دامت الحكمة المستدعية موجودة لا يخصّص، وعندما ترتفع الحكمة المستدعية حينئذٍ يصبح فيه إيهام للمكلّف، واستدعاء بما لا يوجد له داعٍ، لا واقعيّ أوّليّ، ولا ثانويّ، حينئذٍ يَصدر التخصيص بلا شكّ ولا ريب.
وعلى هذا الأساس، يمكن إصلاح جوابه رحمه‌الله على الإشكالين، لكنّ الكلام في أصل توجّه الإشكالين؛ إذ:
أوّلاً: هناك خلاف بين أهل المعقول، في جريان قاعدة الواحد في مثل هذه المجالات.
طبعاً، لا نقصد ما يُوهمه ظاهر كلام السيّد الإمام رحمه‌الله في تهذيب الأصول وربما في مناهج الوصول أيضاً، من أنّ المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله يُجري القاعدة في غير موردها، كأنّه يريد أن يقول: إنّ المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله يجريها في الواحد الاعتباريّ، مع أنّ هذا لا يخفى على مثل المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله الذي هو من أعاظم أهل المعقول في القرن الأخير كما هو واضح. والظاهر: أنّ مراد المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله ليس صدور الألفاظ، بل الظاهر أنّ مراده رحمه‌الله أنّ الحكم الواحد في عالم الثبوت لا يمكن أن يصدر من داعيين متقابلين مستقلّين لا ينضويان تحت داعٍ واحد، بمعزل عن الألفاظ بعد ذلك.
ظاهر العبارة للوهلة الأُولى في نهاية الدراية يوهم صدور البيان الخطابيّ من داعيين، وأنّه غير ممكن. لكن إذا كان الخطاب اعتباريّاً، فمن الممكن أن يصدر من عشرة دواعٍ، لا من داعٍ واحد، فيأتي الإشكال.
لكن هذا ممّا لا يخفى على مثله رحمه‌الله قطعاً، هذا من بديهيّات المعقول عند المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، فكأنّه يريد أن يقول: إنّ الحكم، قبل الصياغة الخطابيّة، هو عمليّة حقيقيّة عند المولى، فهو أمر واحد لا يمكن أن يصدر من داعيين مستقلّين غير منضويين تحت داعٍ واحد.
أقول: حتّى هذا هو محلّ خلافٍ بين أهل المعقول؛ إذ ذهب كثير منهم إلى أنّ قاعدة الواحد لا تجري إلّا في الواحد الصرف، لا فيما كان من قبيل الواحد هنا وإن كان حقيقيّاً بهذا التوجيه.
لكنّ الظاهر أنّ الخلاف معه حينئذٍ يصبح مبنائيّاً؛ فإنّ من حقّه أن يقول: إنّه يُجري قاعدة الواحد في مثل هذا الواحد، ما دام حقيقيّاً وليس اعتباريّاً.
لكن إذا كان الأمر كذلك فالحلّ سهل، وهو إرجاع الداعيين إلى داعٍ واحد، وهو ما صنعه في جوابه الثاني، لكن الإشكال على تخصيصه بالمخصّص الذي بعد حضور وقت العمل، أقول: هذا يصلح جواباً للاثنين، وهو أنّ الداعي واحد، وهو إحراز إكرام جميع أفراد العالم العادل، هذا هو الداعي الواقعيّ، لكن هذا الداعي تولّد بسببه داعٍ ثانويّ متفرّع عليه وليس في عرضه، فلا ثنائيّة متقابلة حينئذٍ بين الداعيين، بل الداعي الثاني حاضن للداعي الأوّل في الحقيقة، فليسا داعيين مستقلّين. الداعي الأوّل الواقعيّ هو إكرام العالم العادل، فحتّى يحصل عليه، ولا يحصل ـ مثلاً ـ  اعتراض في المجتمع من قبل العلماء غير العدول، لمصلحةٍ ما ثانويّة، قضى هذا الأمر بأن يعمّم للعادل وغير العادل. هذه الثانية ليست مصلحة مستقلّة عند المولى، بل هي بمصلحة الأُولى، فليست داعياً مستقلّاً عن الأوّل، بل هو للتحفّظ على المصلحة الواقعيّة الأُولى، ومعه: لا يكونان داعيين، كما هو أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
وأمّا إشكاله الثاني:
فقد أجبنا عليه بالأمس في التحليل العقلائيّ المبيَّن، وأنّ هذين الكلامين إذا عُرضا على الوجدان العقلائيّ، فإنّ العقلاء لا يتردّدون بوجهٍ في التصرّف على مستوى الإرادة الجدّيّة بالبيان المتقدّم.
نعم، بقي في المقام كلمات أُخرى، بعض الإشكالات على صاحب الكفاية رحمه‌الله، ونمرّ عليها سريعاً إن شاء الله.