بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف السادس:
وهو معقود للبحث عن أنّ العامّ هل هو حجّة في الباقي بعد التخصيص أم لا؟
ولا بدّ بادئ ذي بدء من بيان محلّ البحث بدقّة، وشرح هذا العنوان بما يرفع اللّبس والخلط الواقعين في بعض الكلمات؛ إذ يُعدّ هذا البحث من أقدم الأبحاث الأصوليّة، وهو محلّ نزاع تاريخيّاً بين الخاصّة وبعض العامّة، وإن لم يكن له علاقة بالخلاف المذهبيّ.
لا شكّ في أنّ أداة العموم موضوعة لغةً للشمول والاستيعاب، وأنّ التخصيص هو اقتطاعٌ من هذه الأداة.
وأساس الشبهة في المقام إنّما نشأ من جهة أنّه هل يلزم كون الاستعمال لأداة العموم استعمالاً مجازيّاً، وعليه: فتتعدّد المجازات؛ إذ بعد التخصيص الذي أثبت أنّ أداة العموم غير مستعملة فيما وُضعت له، وهو الشمول والاستيعاب، فإنّ شمولها للبعض الباقي بعد التخصيص، يُعدّ شمولاً ناتجاً عن استعمالها في غير ما وُضعت له، فيكون استعمالاً مجازيّاً. وحيث إنّ مراتب الباقي بعد التخصيص متعدّدة؛ إذ كما يمكن أن تكون الأداة قد استُعملت مجازاً في تمام الباقي، يمكن أن تكون قد استُعملت مجازاً في بعضه، وهذا البعض لا معيّن له، فتتعدّد المجازات، وإذا تعدّدت، أجمل خطاب العامّ من خلال إجمال محلّ الاستعمال لأداته، فلا يكون العامّ حجّةً في الباقي، غايته حينئذٍ: أن يكون حجّةً في القدر المتيقّن، وهذا نتاج الإجمال.

تحرير محلّ النزاع
قبل الجواب عن هذه الشبهة، لا بدّ من تحديد محلّها؛ إذ لا شكّ في أنّ هذه الشبهة لا تتأتّى في المخصّص المتّصل، وإن ظهر من بعض أهل الخلاف، كأبي ثور، تعميم النزاع لكلا المخصّصين المتّصل والمنفصل، ووجه عدم تأتّيها في المتّصل: ما تقدّم من أنّه لا يكون ذلك من باب التخصيص في شيء؛ إذ أداة العموم سورٌ للمدخول، والمدخول إمّا أن يكون هيئة إفراديّة أو هيئة اندماجيّة، وحينئذٍ: فإنّ الاقتطاع من اسم الجنس يكون قبل دخول أداة العموم، فيُؤخذ العالم العادل ثمّ يُسوَّر بأداة العموم، فلا يكون في البين سوى دخول أداةٍ على مفهومٍ مركَّبٍ من العالم العادل، غاية ما هنالك: أنّ ما دخلت عليه أداة العموم قليل الأفراد بالقياس إليها فيما لو كانت قد دخلت على العالم من دون تقييده بالعدالة، فلا يوجد إخراجُ أفرادٍ من تحت لوائها بعد أن كانت مشمولةً لها، فلا ينبغي أساساً زجّ المخصّصات المتّصلة في محلّ البحث، ولا وجه يمكن أن يُتوهّم لشمول محلّ النزاع للمخصّص المتّصل؛ ذلك أنّ استعمالها من البداية إنّما هو لاستيعاب مدخولها، فهي من الأساس مستعملة لاستيعاب المدخول المكوّن من العالم العادل، وهذا واضح.
ولا بدّ أيضاً من إخراج مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله وما يظهر من كلمات صاحب الكفاية رحمه‌الله ومن تابعهما عن محلّ النزاع، أعني: النزاع المتقدّم في أنّ العموم هل هو حصيلة الأداة فقط أم حصيلتها مع إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول؟
فإن بنينا في البحث السابق على ما بنى عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله واستُظهر من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله واختاره صاحب المنتقى رحمه‌الله زاعماً أنّه لا جواب على هذه الشبهة إلّا بهذا الاختيار، فزعم أنّ تَوَكّد الشبهة دليل على صحّة مقالة المحقّق النائيني رحمه‌الله، فاختاره، أقول: بناءاً على هذا المختار، لا ينبغي تأتّي الشبهة من أساسها؛ إذ أداة العموم موضوعة من الأساس لاستيعاب ما يُراد من مدخولها، فالتخصيص بالمنفصل هو في الحقيقة يتصرّف في مدخول الأداة، وليس في شمول واستيعاب الأداة؛ ذلك أنّه بناءاً على هذا المختار، ليس كلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول تكون قد استُعملت فيه كلمة (كلّ) ونظيراتها من أدوات العموم، بل إنّما استُعملت فيما وُضعت له، وهو استيعاب ما يُراد من مدخولها، لا ما يصلح مدخولها للانطباق عليه، فعندما جاء المخصّص المنفصل، كشف عن أنّ المراد من البداية للمتكلّم هو خصوص العالم المقيَّد بقيد العدالة، وهذا هو الفرق أساساً بين التخصيص وبين النسخ. فتكون من البداية مستعملةً في استيعاب هذا الذي اتّضح لنا بطروّ المخصّص أنّه مراد الشارع، فلم يتغيّر وجه استعمالها أساساً، كنّا نتوهّم أنّ المراد هو تمام أفراد العالم، وبطروّ المخصّص وإقامة القرينة ظهر لنا أنّ المراد أضيق من ذلك، فبالنسبة لـ (كلّ) لم يتغيّر شيء، وإنّما هي مستعملة في عين ما وُضعت له، وهو استيعاب تمام ما يُراد من مدخولها. فلا تلزم مجازيّة بالنسبة إليها بوجهٍ.
وسرّ هذا: أنّ كلامنا هنا هو فيمن لا يجوز عليه البداء، أي: في مورد التخصيص الذي يعني أنّ مراد المخصِّص من البداية ما هو خارج عن دائرة التخصيص.
وأمّا لو كان كلامنا فيمن يجوز عليه البداء، وهذا يلزم أن يكون تخصيصه نسخاً، لا تخصيصاً، كالمشرّع العقلائيّ الوضعيّ، الذي قد يسنّ قانوناً يعمّمه ثمّ يظهر له أنّ الحكمة تقتضي تقليص دائرة المقنَّن، فيقلّصه، فيبدو له بعد جهله، فهذا ممّا لا شكّ ولا ريب في أنّه يكون من قبيل تغيّر الإرادة الجدّيّة. كان مراده الجدّيّ التعميم لتمام أفراد الموضوع، وبات الآن مراده الجدّيّ تخصيص الحكم ببعض أفراد الموضوع، إمّا على قاعدة البداء، أو على قاعدة النسخ لحكمةٍ، وهذا يجوز حتّى على شارعنا، فحينئذٍ: هنا من الواضح جداً أنّه تتأتّى الشبهة؛ ذلك أنّ المراد كان واسعاً فضُيِّق. أمّا في باب التخصيص، فالمخصّص يُخرج أفراداً من الزمن الأوّل للتشريع، صحيح أنّه تنكشف دائرة الحجّيّة بطروّ المخصّص، لكنّ مفعولها يكون من حين الاشتراع، لا من الآن، وثمراتها من ذلك الوقت. يعني: إذا كان إنسان ـ مثلاً ـ  لم يكرم العالم الفاسق، يظهر بطروّ المخصّص بعد ذلك أنّه لم يكن عاصياً، بل كان متجرّياً.
وعليه: فيتّضح أنّ التصرّف في باب المخصّص المنفصل على هذا المبنى يكون تصرّفاً في مدخول الأداة، لا في نفس الأداة، فلا تلزم مجازيّة بالنسبة للأداة بوجهٍ.
فينحصر محلّ البحث إذاً في المخصّص المنفصل. وينحصر بما نُسب إلى المشهور من المبنى، وهو ما اخترناه وصحّحناه، من أنّ أدوات العموم موضوعة لاستيعاب ما يصلح مدخولها للانطباق عليه.

الجواب عن أصل الشبهة
هذه الشبهة أُجيب عنها وباتت معركةً للآراء، سنحاول تلخيصها؛ إذ من حيث النتيجة لم يذهب أحد من محقّقي أهل الحقّ إلى أنّ العامّ تُخدش حجّيّته في الباقي. إنّما الكلام في تخريج ذلك صناعيّاً، أقول: يمكن تلخيص ما أُجيب في المقام من أجوبة بحزمتين أساسيّتين:
1) تبتني على إنكار لزوم المجازيّة فيما لو طرأ التخصيص المنفصل.
2) فيما لو سُلّم أنّ الاستعمال يكون مجازيّاً بالنسبة لأداة العموم، فاستأنف الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله جواباً هنا. (هذا لا يعني أنّ الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله يبني على المجازيّة، بل هو يقول: على تقدير لزوم المجازيّة تنزّلاً أنا أيضاً أُجيب).
أمّا على الأوّل، فأجاب صاحب الكفاية رحمه‌الله بما خلاصته:
أنّه في باب التخصيص بالمنفصل لا تلزم المجازيّة؛ إذ إنّ المخصّص المنفصل لا يتصرّف في الإرادة الاستعماليّة، بل تصرّفه إنّما هو في الإرادة الجدّيّة.
توضيح ذلك: أنّ هنالك لفظاً موضوعاً لمعنىً، وهو الشمول والاستيعاب، وهناك استعمال فيما وُضع له، وهو الشمول والاستيعاب لتمام ما يصلح مدخوله لأن ينطبق عليه. (طبعاً لا يظهر من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله هنا في هذا البحث أنّه ربط البحث بما يظهر من مبناه في مسألة الحاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة، بل هو يجيب على كلّ تقدير، وهو لا يزجّ بالخلاف المذكور هنا). وبأصالة التطابق بين المستعمل فيه والمراد الجدّيّ نبني على أنّ المراد جدّاً هو الاستيعاب والشمول لتمام ما يصلح لأن ينطبق عليه مدخول الأداة، فيتمّ موضوع حجّيّة الظهور، نضمّ إليه كبرى الحجّيّة، فيُنتج أنّه حجّة في الشمول والاستيعاب، هذا الاستعمال قد حصل ووقع وهو لا ينقلب عمّا وقع عليه بطروّ التخصيص؛ إذ عندما يتطرّق التخصيص المنفصل، كان قد تمّ الاستعمال بشخص الكلام، وعندما تمّ الاستعمال، لا شكّ في أنّه استعمال شامل لكلّ ما يصلح مدخول الأداة لأن ينطبق عليه، فالشمول والاستيعاب على مستوى الإرادة الاستعماليّة وقع بالفعل، ولا ينقلب عمّا وقع عليه، غاية الأمر: أنّه بطروّ المخصّص المنفصل، وإعداد المتكلّم الحكيم قرينةً على كلامه السابق، فهو في الحقيقة يُعِدّ قرينةً على أنّ ما يريده من تعميمٍ في كلامه السابق ليس على ما يظهر من كلامه الأوّل، بل يريد خصوص صنفٍ من أصنافه، وهم المتّصفون بالعدالة ـ مثلاً ـ، فالمخصّص المنفصل جاء يخدش أصالة التطابق بين المستعمل فيه والمراد جدّاً.
هذه الأصالة قاعدة، وهذه القاعدة يُبنى عليها ما لم تكن قرينة على الخلاف، فإن جاءت على القرينة على الخلاف فيُقدَّم النصّ أو الأظهر على الظاهر. أي: أنّ ما استُعمل فيه، وهو العموم، ظاهر في أنّه مراده الجدّيّ النهائيّ، أعدّ كلاماً نصّص فيه على أنّه لا يريد إيجاب إكرام الفاسق، بل خصوص العادل، فإن كان كانت دلالته اللّفظيّة لا تحتمل أكثر من معنىً، فهي نصّ، وإن كانت تحتمل أكثر من معنىً، مع رجحانها فيما دلّت عليه، فهو الظاهر. لكن حيث إنّ الموضوع هنا أخصّ من السابق فهو أقوى ظهوراً من السابق، فيُقدَّم إمّا من باب تقديم النصّ على الظاهر، أو من باب تقديم الأظهر على الظاهر (سيأتي في بحث التعادل والتراجيح أنّه ما هو الملاك في تقديم الخاصّ على العامّ).
بناءاً عليه: يقول المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله: كلّ ما حصل من تصرّفٍ هنا إنّما هو مرتبط بخدش أصالة التطابق بين المستعمل فيه والمراد جدّاً. أمّا الإرادة الاستعماليّة، فهي لم تُخدش بوجهٍ، بل لا ينقلب ما وقع عمّا وقع عليه. واضح جدّاً أنّ ما قاله في كلامه الأوّل أنّه استعمال يُعمِّم ويستوعب كلّ أفراد العالم، العادل منهم وغير العادل، وهو لا ينقلب عمّا وقع عليه. غاية الأمر: موضوع الحجّيّة هو الظهور المطابق للمراد الجدّيّ، انكشف لنا أنّ المراد الجدّيّ هو خصوص العالم العادل. المراد الاستعماليّ ليس هو موضوع حجّيّة الظهور، بل المراد الاستعماليّ الذي انضمّ إليه المراد الجدّيّ. كنّا ضممناه بأصالة التطابق، لكن ظهر لنا الآن بطروّ المخصّص المنفصل عدم انضمامه إليه.
(طبعاً سيأتي الكلام لاحقاً في أبحاثٍ ترتبط بالمقام، من قبيل أنّه هل يجوز التخصيص بعد حضور وقت العمل وانقضائه، أم أنّه لا يجوز تأخير التخصيص إلى ذلك الوقت؟ أنّه يجوز التخصيص أساساً قبل حضور وقت العمل، أم لا يجوز إلّا حين حضور وقت العمل؟ وأنّه ما هي الحكمة من هذا التدرّج في التشريع عند المولى الحكيم الذي لا يجوز عليه الجهل والبداء؟).
هذه هي خلاصة كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله. وهو بحسب ظاهره كلام جيّد وصناعيّ.
هذا الكلام لم يرتضه تلميذه المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، ولم يرتضه أيضاً صاحب منتقى الأصول (والظاهر أنّه إنّما لم يرتضه لنفس إشكال المحقّق الأصفهانيّ).