انتهينا في
البحث إلى ما نسبه سيّد المنتقى إلى السيّد الخوئي رحمهالله من قوله: لو قيل
بتوقّف العموم على إجراء الإطلاق في المدخول لكان دخول أداة العموم لغويّاً.
وهذا الكلام
لم نجده في تقريراته، لكنّه نطق به رحمهالله في حاشيته على أجود التقريرات.
ونسب صاحب
المنتقى رحمهالله هذا الإشكال إلى كونه هو المراد، أو خلاصة مراد أستاذ السيّد
الخوئي رحمهالله، أعني به: المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله في حاشيته على الكفاية.
مع أنّ ما
أفاده المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله وإن كان في بعضه قد يقبل الانطباق على ما
أفاده السيّد الخوئي رحمهالله، لكنّ مطلبه أبعد غوراً من هذا الكلام بكثير؛ إذ
خلاصة ما يُستفاد من المحقّق الأصفهاني رحمهالله: أنّنا لو احتجنا إلى إجراء
الإطلاق في المدخول، فإنّه يلزم من ذلك لغويّةٌ، بل محذور عقليّ.
وقد أوضح هذا
في كلامه، فأفاد:
أنّ محلّ
الكلام هو في الإطلاق الأفراديّ، لا الأحواليّ؛ إذ الأحواليّ لا محذور فيه، حتّى
في باب العموم؛ لأنّ العموم حديثٌ عن تعميم الحكم لكلّ أفراد المدخول، ولا تعرّض
لأداة العموم إلى أحوال الأفراد التي يشملها الحكم الموجود في العامّ. فنحتاج إلى
الإطلاق في طرف الأحوال، وهذا كلام قد ذكرناه في بعض النقاط المتقدّمة، وهو ليس
محلّ خلافٍ من أحد.
ثمّ أفاد رحمهالله:
أنّه لو كانت الطبيعة التي هي مدخول أداة العموم مهملة من الجهتين معاً: جهة
الأفراد، وجهة الأحوال، ولم يجرِ الإطلاق في أيٍّ منهما، لكان دخول (كلّ) عليها
لغويّاً، بل محالاً؛ لأنّها إن بقيت على إهمالها بدخول (كلّ)، فـ (كلّ) سوف تستوعب
المهمل، واستيعاب المهمل هو استيعاب اللّامتعيّن، واللّامتعيّن لا يقبل التعيين،
و(كلّ) بدخولها على اللّامتعيّن لا تخرجه عن اللّاتعيّن والإهمال، فيكون دخولها
لغويّاً من جهة أنّه لا يفيدنا ولا يحصّل لنا تعيّناً لغير معيّن؛ لأنّ مدخولها
مهمل، بل هذا غير معقول أصلاً؛ لأنّ المهمل لا تعيّن له، فدخول (كلّ) عليه لا
يعيّنه، فإذا كان لا يعيّنه، فحينئذٍ: يكون القول بالتعيّن محالاً عقلاً.
وعلى خلاف
ذلك، لو قلنا بأنّ مدخول (كلّ) غير مهمل، ولو من جهةٍ من الجهتين، بل لها ظهور
ذاتيّ وضعيّ قبل الحديث عن الظهور الإطلاقيّ، الذي هو ظهور حال المتكلّم في أنّ ما
لم يذكره من قيدٍ كان قادراً على التقييد به فهو لا يريده.
أقول:
ما يمكن أن نعبّر عنه بالإطلاق الذاتيّ، أي: أنّ الكلمة الموضوعة للطبيعة في
اللّغة العربيّة، لا تتعرّض للأفراد ولا تدلّل على وجودهم ولا على عدم وجودهم، لكن
لها قابليّة ذاتيّة بوضعها للانطباق على كلّ ما هو فرد لها في الخارج. فهذا الظهور
والإطلاق الذاتيّ هو ما يكون نتاج الوضع نفسه، فكلمة (عالم) لها ـ بحسب وضعها ـ
قابليّة لأن تنطبق على كلّ من لديه علم في الخارج. فهي من هذه الجهة غير مهملة،
فدخول (كلّ) عليها ينتج النظر إلى أفرادها، واستيعاب جميع أفراد الطبيعة، فهو
يحوّلها من مرحلة قابليّة التطبيق والانطباق إلى مرحلة فعليّة التطبيق والانطباق
على مستوى المدلول الوضعيّ. هذا هو مدلول (كلّ)، فإنّ (كلّ) نظرت إلى الأفراد، لا
في ضمن عددٍ معيّن، بل كلّ من لديه العلم فهو محكوم عليه بكذا، بدل الاقتصار على
الطبيعة والظهور الذاتيّ لاسم الجنس، تحوّل موضوع الحكم إلى الأفراد الخارجيّة.
وحينئذٍ: فلا يلزم في البين لا لغويّة ولا استحالة عقليّة.
هذه هي خلاصة
ما يريده المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله في القسم الأوّل من كلامه.
نعم، فسَّر
البعض كلامه على مستوى الترقّي، أي: المحذور العقليّ، بأنّ مراده منه: استيعاب
المستوعِب، وأنّ استيعاب المستوعِب مستحيل؛ لأنّه من تحصيل الحاصل، ولا معنى
للاستيعاب بعد الاستيعاب إذا كان مركز الاستيعاب واحداً.
وهذا الكلام
بالتأمّل في كلام المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله قطعاً ليس هو مراده، ولكن على
تقدير أن يكون مراده، كما بنى الشهيد الصدر رحمهالله، إذا بنينا على ذلك، فمن حقّ
من فهم هذا من كلامه أن يستشكل عليه، بأنّه يصبح لغواً بل مستحيلاً، إن كان
الاستيعاب الذي نحصل عليه من (كل) هو نفس الاستيعاب نحصل عليه من اسم الجنس الذي
جرى فيه الإطلاق.
لكن قد بات
واضحاً ـ من بعض النقاط السابقة أيضاً ـ أنّ اسم الجنس الذي يجري فيه الإطلاق ليس
سوى قابليّة الطبيعة مع فعليّة التطبيق على مستوى المجعول الخارجيّ، لا في مرحلة
المدلول الوضعيّ. بينما (كلّ) على مستوى المدلول الوضعيّ فيها استيعاب فعليّ لجميع
الأفراد، وحينئذٍ: سوف يكون الاستيعاب الموجود حتّى في طول إجراء مقدّمات الحكمة
لولا (كلّ) هو فعليّة حكم يقضي بالقابليّة الفعليّة للتطبيق على مستوى التطبيق
الخارجيّ، بينما ببركة (كلّ) بات موضوع الحكم مباشرةً هو الأفراد الخارجيّة على
مستوى المدلول التصوّريّ والوضعيّ، فلم يكن مركز الاستيعاب والمستوعِب واحداً،
ولذلك، فلا يأتي، لا محذور اللّغويّة؛ لأنّنا نقلنا الاستيعاب من مرحلة القابليّة
للتطبيق وكون الطبيعة هي الموضوع، إلى مرحلة أنّ أفراد الطبيعة باتت هي الموضوع
ببركة (كلّ). وهذا من الواضحات.
وحينئذٍ، فلا
يتأتّى الإشكال. لكن قد ذكرنا أنّ أصل كون المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله ناظراً
إلى هذا الإشكال محلّ كلام.
وأمّا
السيّد الخوئي رحمهالله، فعمدة كلام السيّد الخوئي رحمهالله
في تعليقته على الأجود، وهو ما تبنّاه لاحقاً في أبحاثه، كما يظهر من تقريراته،
أنّه لو قلنا بلزوم إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول لإثبات العموم لزمت
اللّغْويّة. وهذا حدّ كلامه رحمهالله.
وظاهر كلامه،
بل يكاد يكون صريحه في حاشيته على الأجود، أنّ الاستيعاب والشمول يتحصّل من نفس
الإطلاق وقرينة الحكمة، وحينئذٍ: فدخول (كلّ) لا يقدّم ولا يؤخّر، فالاستيعاب
حاصل، وحينئذٍ: سيكون دخول (كلّ) لَغْويّاً. وهو إنّما يكون لَغْويّاً إن لم يُفد
فائدةً جديدة، لا تأسيساً ولا تأكيداً. وأمّا لو أفاد فائدةً جديدة، ولو كانت تأكيديّة،
فهو لا يكون لَغْويّاً كما هو واضح؛ لأنّه يكفي في دفع اللّغْويّة أدنى فائدة.
نقول:
لنفترض أنّنا ماشينا المحقّق النائيني رحمهالله وقلنا بلزوم إجراء مقدّمات الحكمة
في المدخول، فهل تلزم هذه اللّغويّة التي يذكرها السيّد الخوئي رحمهالله؟
وقد بات
الجواب عن هذا السؤال واضحاً من الكلام المتقدّم؛ إذ من الواضح أنّه لا تلزم
اللّغويّة في المقام؛ إذ ما أفادته قرينة الحكمة غير ما تفيده أداة العموم. ما
أفادته قرينة الحكمة أنّ الموضوع المدخول لأداة العموم هو طبيعة العالم بلا
اقتطاعٍ منها، أي: لا العالم العادل، بل كلّ عالم، فهي أفادت نفي القيود، وهذا
ينتج قابليّة تطبيق على أفراد أوسع ممّا لو ذكر العالم العادل. وإنّما نحصل على
الأفراد على مستوى التطبيق، وإلّا، فعلى مستوى الموضوع، الطبيعة هي الموضوع. بينما
عندما دخلت (كلّ) بات الموضوع هو الأفراد.
ولعلّ تنبّه
السيّد الخوئي رحمهالله لعدم عمق هذا الإشكال هو الذي جعل هذا الإشكال مفقوداً في
بعض تقريراته، كالدراسات، فكأنّه رحمهالله لم يرَ جدوىً لهذا الإشكال، فضلاً عن
بقيّة إشكالاته التي ذكرها في حاشية الأجود. وللسيّد الخوئي رحمهالله في حاشية
الأجود نقضٌ يقول فيه: لو أنّنا احتجنا لإجراء قرينة الحكمة في المدخول لما أمكن
التصريح بالعموم الاصطلاحيّ في موردٍ من الموارد؛ لأنّ العموم حاصل بضميمة مقدّمات
الحكمة، فدخول مثل (كلّ) حينئذٍ لا يقدّم ولا يؤخّر. وهذا في الواقع تكرار منه
رحمهالله لنفس الإشكال بعبارةٍ أُخرى، وليس إشكالاً جديداً.
والجواب
على الكلّ
أنّ ما يفيده الإطلاق الأفراديّ على تقدير جريانه في المدخول هو أنّ الطبيعة بما
هي، هي المدخول، دون قيدٍ ولا شرط، فبعد مجيء (كلّ) تحوّل النظر عن الطبيعة إلى
الأفراد، وجعلت الحكم مباشرةً على الأفراد، فمركز الفائدة من الطبيعة التي جرى
فيها الإطلاق، غير مركز الفائدة من أداة العموم، لذلك حتّى لو جرى لها ألف إطلاق،
لا يصبح الموضوع إلّا الطبيعة التي لها قابليّة التطبيق، بينما أداة العموم
مباشرةً تحوّل الموضوع من الطبيعة إلى الأفراد. وهذه فائدة معتدّة بها، بل هذه هي
فائدة العموم أساساً، جرى الإطلاق أم لم يجرِ، احتجنا إلى إجرائه أم لم نحتج.
وببركة هذه الفائدة للعموم، فإذا تعارض عموم مع إطلاق يُقدَّم العموم على الإطلاق؛
فإنّ الإطلاق لا بيان، والعموم بيان، ونقل الموضوع من كونه هو الطبيعة إلى كونه هو
الأفراد يصدق عليه أنّه بيانٌ كما هو واضح.
وعلى هذا
الأساس يتّضح: أنّ لبّ كلام المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله مغاير لكلام السيّد
الخوئي رحمهالله بالكامل.
نعم، في أواخر
كلام المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله، في القسم الثاني منه، ذكر أنّه يلزم
اللّغْويّة، وله قابليّة الانطباق على ما أفاده السيّد الخوئي رحمهالله. وإن كان
التأمّل فيه ـ على ما ندّعيه ـ يقتضي أن نعطف اللّغْويّة في آخر كلامه على
اللّغْويّة في صدر كلامه، فتصبح مطلباً آخر، وهو المطلب الذي نبّهنا عليه من أوّل
الأمر.
لكن قد بات
واضحاً أنّ اللّغويّة لا مجال للتشبّث بها، وأنّ اللّامعقوليّة التي فهمها الشهيد
الصدر رحمهالله من كلامه، لو كانت هي مراده، فهي غير واردة.
نعم، نقول: من
الواضح أنّ موضوع الحكم في العموم هو الأفراد (وقد تقدّم هذا في النقطة ما قبل
الأخيرة من الدرس السابق)، وأمّا في الإطلاق فموضوع الحكم هو الطبيعة. ومن الواضح
أيضاً أنّ دلالة (كلّ) على استيعاب الأفراد من مدخولها بما له من الدلالة
الوضعيّة، ولو صدرت الجملة من متكلّم غير ذي عقل وشعور، وهذا هو معنى الدلالة
الوضعيّة التصوّريّة.
وأمّا الدلالة
الإطلاقيّة، فهي تتوقّف على ظهور حال المتكلّم على مستوى إرادته الجدّيّة (لا
الاستعماليّة؛ لأنّه لم يقل شيئاً، ونحن نريد أن نستدلّ بالإطلاق على أنّه لم
يذكر، ولو شاء التقييد لذكر)، ظاهر حاله أنّ موضوع حكمه هو العالم جدّاً وواقعاً،
من دون قيد؛ لأنّه لم يذكر قيداً، وهو حكيم، لو كان يريد التقييد فلم يذكره لكان
مخلّاً بمقصوده، فظاهر حاله أنّه لا يريد؛ لأنّه لو شاء لذكر، وهذا مدلول تصديقيّ.
هذا المدلول
التصديقيّ يلزم من القول بلزوم إجرائه أن لا يتحصّل معنى (كلّ) على مستوى الشمول
إلّا عندما تكون في جملةٍ يجري فيها قرينة الحكمة، أي: في جملةٍ من متكلّمٍ ذي
شعورٍ حكيم له مراد جدّيّ، وإلّا، فلا يتحصّل معنىً لـ (كلّ)، وهو ربطٌ لمفاد
المدلول التصوّريّ بمفاد المدلول التصديقيّ، المتأخّر عنه برتبتين؛ إذ أوّلاً، لا
بدّ من تصوّر المدخول وتحصّل معناه، ثمّ نُدخل عليه كلمة (كلّ)، ثمّ نصوغ هذا في
جملة الحكم، وبعدئذٍ: نُجري الإطلاق، ولا يمكن لنا أن نُجري الإطلاق إلّا بعد أن
يكون لدينا جملة حكمٍ، مع وجود ظاهرٍ جدّيّ للمتكلّم، وأهمل ذكر القيد، فيرتبط
تحصّل معنى (كلّ) بما هو متأخّر عنه برتبتين؛ لأنّ دخول (كلّ) على (العالم) متأخّر
على كلمة (العادل)، وجريان الإطلاق متأخّر عن دخول (كلّ)، ويلزم من هذا أن لا
يتحصّل معنى (كلّ) إلّا بعد حصول ما يكون بطولها بمرتبتين.
وعلى هذا
الأساس، فهذا منبّه عقليّ، بل ووجدانيّ. وهذا الكلام بهذه الصياغة هو الذي ذكره
وانفرد بذكره السيّد الإمام الخميني رحمهالله، لكنّنا تأمّلنا فيه كثيراً لنرى
أنّه هل يُعدّ إشكالاً ومطلباً جديداً، أم أنّه تفسير لكلام من قبله. وبعد التأمّل
ظهر لنا أنّ هذا الذي ذكره هو التفسير الصحيح لكلام المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله؛
لأنّه لو قلنا بأنّ مدلول (كلّ) لا يتحصّل معناه إلّا بعد إجراء مقدّمات الحكمة في
مدخولها، فهو لا يتحصّل معناه إلّا بعد تحصّل المتأخّر عنه رتبةً، فيلزم أن تكون
(كلّ) قد دخلت على المهمل من جهة السعة والضيق على مستوى الأفراد، وهو ما أفاد
المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله عدم معقوليّته، لكن من دون أن يبيّن وجهه.
وعليه:
فيكون مراد المحقّق الأصفهانيّ رحمهالله بحسب الظاهر مراداً سليماً وحقّاً، ويكون
إشكاله في محلّه.
لكنّ الحقّ أنّ
أصل هذا البحث لم يكن ينبغي أن يُثار بين المحقّقين، لولا أنّ صاحب الكفاية رحمهالله
استظهر أنّ العموم ينبغي أن يكون في طول إجراء مقدّمات الحكمة، وتبعه على ذلك
المحقّق النائيني رحمهالله. وإلّا، فلا يوجد عين ولا أثر من هذا الكلام في كلمات
أحدٍ من الأصوليّين المتقدّمين والمتأخّرين.
ويكفي لدفع
غائلة هذا الكلام التشبّث بأذيال الوجدان اللّغويّ، وهو ما اقتصر عليه السيّد
الخوئي رحمهالله في تقريراته العلميّة المتأخّرة. ولم يدخل في متاهات المحاذير
العقليّة التي ذُكرت. بل قال: يكفينا النظر العرفيّ وما نواجهه بكثرةٍ في الفقه في
باب العموم من أدوات عمومٍ دخلت على مدخول، بحيث لو قال شخص لآخر: بعْ كلّ كتبي،
ثمّ جاءه المأمور، فقال: هل أبيع كتب العربيّة أيضاً؟ لاستهجن من كلامه. هذا الذي
سأل لم يُجرِ الإطلاق، ولم تكن مقدّمات الإطلاق محرزةً عنده، فلا يكون الاستهجان
منه له إلّا إذا كانت (كلّ) تفيد استيعاب كلّ ما يصلح مدخولها للانطباق عليه بحسب
وضعه اللّغويّ. وما يصلح للانطباق عليه بحسب وضعه اللّغويّ هو ما يساوق الإطلاق
المستفاد من قرينة الحكمة، فلا نحتاج إليها أصلاً.
ونفس هذا
المنبّه موجود في كلمات أصوليّين آخرين أيضاً، كالسيّد الإمام رحمهالله.
وأقول:
كان ينبغي التركيز على نقطة واحدة تدفع كلّ هذا الكلام، وهي: أنّ موضوع الإطلاق هو
الطبيعة، وأمّا موضوع العموم فهو الأفراد. فكلمة (عالم) ـ مثلاً ـ بحسب وضعها لها
قابليّة الانطباق على الأفراد في نفسها، حتّى من قبل دخولها في الجمل والتراكيب،
وهي تقبل الانطباق بحسب وضعها على كلّ من لديه علم، لا على البعض خاصّةً، إذاً،
فهي موضوعة لمعنىً متحصّل، حتّى من قبل أن يأتي الحديث عن قرينة الحكمة والمدلول
التصديقيّ، و(كلّ) في اللّغة موضوعة لاستيعاب أفراد ما تدخل عليه، فإذا كان
مدخولها له هذا الإطلاق الذاتيّ الوضعيّ اللّغويّ، بمعزل عن المدلول التصديقيّ، فـ
(كلّ) أفادت أنّ الحكم يجري على الأفراد جميعاً، فـ (كلّ) بدخوله على (العالم) هو
الذي ثمّرها في الحقيقة، فلمّا بات موضوع الحكم ـ ببركة (كلّ) ووضعها ـ هو
الأفراد، فلا معنى للرجوع إلى الطبيعة مجدّداً.
نعم، لو أنّه
قيّد (العالم) بـ (العادل) وأدخل (كلّ) يختلف الأمر من أصله. فهذا لا يصلح نقضاً
على ما ذكرناه، حيث بات مدخول (كلّ) هو العالم العادل، فيأتي فيه نفس الكلام
السابق، أنّ مفهوم (العالم العادل)، هذه الهيئة الاندماجيّة، كم له من الأفراد؟
لذلك لا معنى للنقض بصحّة دخول القيد، بل القيد في الحقيقة لم يدخل بعد دخول (كلّ)
بنحو القرائن المتّصلة، بل العكس هو الصحيح، فـ (كلّ) هي التي دخلت على العالم
العادل، لا أنّ (العادل) هي التي دخلت على (كلّ عالم). فالقضيّة الملحوظة
والمعقولة أنّ المتكلّم يتصوّر الهيئة الاندماجيّة، وهي (العالم العادل)، ثمّ
يُدخل (كلّ) عليها، ثمّ يصبّ الحكم على هذه الهيئة بتمامها، فيقول: أكرم كلّ عالم
عادل.
وبالجملة: فما
دامت (كلّ) موضوعة لغويّاً لتحويل الموضوع من كونه الطبيعة إلى كونه الأفراد على
مستوى المدلول الوضعيّ، فلا تصل النوبة أصلاً إلى التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة.
بعد هذا، هناك
كلام طويل انفرد به الشهيد الصدر رحمهالله، حاول من خلاله أن يستدلّ للمحقّق
النائيني رحمهالله بأدلّةٍ هو ابتكرها، ثمّ شقّقها شقوقاً وأشكل على الشقوق،
وانتهى إلى نفس هذه النتيجة، وهي: أنّ الإطلاق الذاتيّ في المدخول يكون كافياً،
و(كلّ) تدلّ على استيعاب كلّ ما للمدخول قابليّة للانطباق عليه استيعاباً فعليّاً.
فلا داعي
للإطالة في أمرٍ ليس فيه مزيد فائدةٍ وثمرة. فنكتفي بهذا الذي ذكرناه ونختم به هذا
الموقف الرابع.