بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الكلام في الموقف الرابع من مواقف البحث في العامّ والخاصّ.
وهذا الموقف معقود للحديث عن مسألة أُثيرت بين متأخّري المتأخّرين من الأصوليّين، ذلك أنّ البحث في العامّ والخاصّ هو من أقدم الأبحاث الأصوليّة. لكنّ هذا البحث إنّما وقعت إثارته من زمن صاحب الكفاية رحمه‌الله، حتّى بات معركةً للآراء إلى حدٍّ ما في القرن الأخير.
وخلاصة هذا البحث:
أنّ إثبات العموم بالفعل بأداةٍ من أدواته، هل يحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول أم لا؟
وبعبارة أُخرى: هل وُضعت أداة العموم لاستيعاب وشمول ما يصلح مدخولها للانطباق عليه (المقصود هنا هو الصلاحية الذاتيّة، بالوضع)، أم أنّها موضوعة لاستيعاب وشمول ما يُراد من مدخولها؟
فعلى الأوّل: يكفي الوضع اللّغويّ للمدلول.
وعلى الثاني، نحتاج إلى إثبات الإطلاق في المدخول.
بادئ ذي بدء، لا بدّ لنا من تحديد محلّ الكلام بدقّة، حتّى لا يلتبس الأمر في محلّ البحث. فنقول:
ليس المقام مرتبطاً بإثبات أو نفي أداتيّة أداةٍ من أدوات العموم؛ إذ هناك أدوات للعموم متّفق على كونها موضوعة للاستيعاب والعموم، مثل (كلّ) و(كافّة) ونحوهما. وهناك أدوات وقع الكلام في أنّها موضوعة لغويّاً لإفادة العموم أم لا، كالجمع المحلّى باللّام، وربما المفرد المحلّى بها أيضاً في بعض الكلمات، أو النكرة في سياق النفي أو النهي.
فهذه الحالات الأربع، وقع البحث في أنّها من أدوات العموم أم لا؟ وإنّ المطالع لجملةٍ من مهمّات الكتب الأصوليّة ربما اختلط عليه الأمر في أنّ بحثنا هنا هل يرتبط بالخلاف في وضع صيغة أو هيئة أو أداة بنحو الاسميّ للعموم وعدم وضعه، أم لا يرتبط.
أقول: وهذا مجرّد التباس ينشأ من زجّ بحث الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة في المدخول أو عدم الاحتياج في نفس النزاع الدائر في أنّ هذه من أدوات العموم أم ليست منها، مع أنّ هذا البحث ينبغي أن يكون بعد الفراغ عن أداتيّة الأداة؛ ذلك أنّ ما كان من قبيل نفي الجنس ـ مثلاً ـ، ولو لم يكن موضوعاً بحسب اللّغة للشمول والعموم، وكانت دلالته على نفي كلّ فرد فرد من أفراد الجنس على غرار دلالة النهي في النواهي، على إعدام المتعلّق؛ على اعتبار أنّ صرف الوجود طارد للعدم، ونفي الجنس يطرده وجود فرد من أفراد الجنس، فهذا لا ربط له بمحلّ كلامنا هنا، فينبغي أن يكون معلوماً قبل كلّ شيء أنّ الاحتياج إلى قرينة الحكمة أو عدم الاحتياج يُطرح بمعزلٍ عن ذلك النزاع في أداتيّة أداة للعموم أو عدم كونها أداة له. بل هذا البحث يُطرح في ظلال الأدوات المسلّم كونها من أدوات العموم على مستوى الدلالة الوضعيّة، فيُقال: بعد التسليم بأداتيّة أداةٍ للعموم فهل تحتاج لكي تفيد العموم الشموليّ الاستيعابيّ إلى إجراء قرينة الحكمة في المدخول أم لا؟
وإنّما نبّهنا على ذلك لأنّه ربما استُشمّ في بعض الكلمات التفصيل بين الأدوات، لكن كلّ من قال في أداةٍ في الأدوات جازماً، ومن غير بحث، بأنّها تحتاج إلى الإطلاق، فقوله هذا ملازم للقول بأنّ هذه الأداة ليست من قبيل الوضع اللّغويّ للعموم.
هذه هي النكتة الأُولى.
النكتة الثانية، وهي أهمّ من سابقتها:
وهي أنّ العموم في أداة العموم الذي نبحث عن احتياجه إلى إجراء مقدّمات الحكمة أو عدم الاحتياج إنّما يُراد منه العموم الأنواعيّ أو الأصنافيّ أو الأفراديّ، ولا يُراد منه الأحواليّ أو الأزمانيّ، فالبحث المذكور إنّما يلحظ جهة العموم في العموم، لا تمام جهاته، فـ (كلّ) و(جميع) و(كافّة) الموضوعة لعموم الأفراد، سواء كانت أفراداً لجزئيّ حقيقيّ في الخارج، كـ كلّ الرجال، أو أنواعاً، أو أصنافاً، لا فرق، فإنّ العموم الشموليّ يفيد العموم بهذا اللّحاظ الذي هو متعلَّق لأداة العموم ومدخولها، فعندما تقول: أكرم كلّ عالم، فهو تعميم بلحاظ أصناف العالم، كالنحويّ والفقيه و.. وبلحاظ الأفراد. أمّا بلحاظ حالات كلّ فردٍ من الأفراد، أو كلّ صنفٍ من الأصناف، فإنّ هذا لا ارتباط له بالعموم. هذا يحتاج إلى التشبّث بأذيال الإطلاق الأحواليّ؛ إذ الملحوظ عادةً في أداة العموم هو العموم الأفراديّ، لا الأحواليّ، (إلا أن ينصّ على الأحواليّة).
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ نزاعنا هنا في الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة أو عدم الاحتياج، هو في الجهة الملحوظة لـ (كلّ) في باب العموم، وهو العموم بلحاظ الأنواع والأصناف والأفراد. وأمّا من جهة أحوال الأفراد، أو أزمان الحكم، فإنّ هذا خارج عن حيّز النزاع، ولا ينبغي الخلط بينهما.
فنحن إنّما نتنازع في علم الأصول في أنّ التعميم إلى أفراد العالم في (أكرم كلّ عالم) من جهة الشمول لكلّ الأفراد، هل يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول أم لا يحتاج إلى ذلك؟ وأمّا من جهة كلّ فرد من الأفراد التي شملها التعميم بأداة العموم، كحالات زيد العالم، ككونه طويلاً أو قصيراً، عربيّاً أو أعجميّاً، وهكذا.. هذا ليس داخلاً في محلّ بحثنا، بل هذا واضح أنّه بحاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة بلحاظ الأحوال، وهذا لا كلام فيه؛ لأنّ هذه الجهة خارجة تخصّصاً عن محلّ البحث؛ إذ هي ليست جهةً ملحوظة في دخول (كلّ) على هذا المدخول. بل دخول (كلّ) على المدخول إنّما يُستفاد منه العموم بلحاظ أفراد ذلك المدخول. وأمّا أحواله، فليست ملحوظةً أصلاً.
فإذا اتّضح ذلك، نقول:
لقد أطالوا الكلام في هذا البحث بما لا نجد داعياً يدعو إليه، ولا بدّ من التعرّض لهذا البحث من خلال التعرّض لنكتته الأساسيّة، ومن خلال هذا التعرّض يتّضح البحث ويتّضح الكلام في القيل والقال في هذا المجال.
ونوجز الكلام هنا في نقاط:
النقطة الأُولى: لا شكّ ـ وهذا قد تقدّم، وهو من الواضحات أساساً ـ في أنّ مقام موضوع الحكم متقدّم على الحكم بالطبع؛ إذ إنّ الشارع في مقام الجعل يتصوّر الموضوع بتمام شراشره ثمّ يحكم عليه، فالتقدّم في هذا المجال تقدّم طبعيّ في عالم الجعل، وهو أيضاً تقدّم طبعيّ في عالم المجعول والحكم الفعليّ؛ فإنّ هذا الحكم الذي جُعل من الجاعل لا يصبح فعليّاً في الخارج إلّا إذا وُجد موضوعه في الخارج.
النقطة الثانية: في جملة العموم، كما في (أكرم كلّ عالم)، لا شكّ في أنّ لفظة (كلّ) هي جزء من الموضوع.
النقطة الثالثة: وهذه تقدّمت ونكرّرها، أنّ جهة العموم المفادة بأداة العموم لا يُفرَّق فيها بين كون المدخول مفردة واحدة أو هيئة اندماجيّة؛ لأنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب مدخولها، سواء كان مدخولها هيئة إفراديّة أم اندماجيّة. غاية الأمر: كما أنّ موضوع الحكم متقدّم بالطبع على الحكم. فمدخول الأداة أيضاً متقدّم على الأداة؛ لأنّ الأداة تدخل عليه، فهذا المدخول بعد أن يُحدَّد، تدخل عليه أداة العموم، من قبيل (كلّ)، وهو تارةً هيئة إفراديّة وأُخرى هيئة اندماجيّة. وهذا ليس خصوصاً، بل هو عموم أيضاً، لكن مدخوله بطبعه أفراده قليلة، مقابل ذاك الذي بطبعه له أفراد كثيرة، فأفراد العالم ـ مثلاً ـ  أكثر من أفراد العالم الفقيه، وهكذا.. دخول أداة العموم تارةً على اسم الجنس غير المحصَّص، وأُخرى على اسم الجنس المحصَّص. فما دام قد حُصّص قبل دخولها، فهذا ليس تقييداً ولا تخصيصاً، كما هو واضح. فالنتيجة: أنّ هذا لا يختلف ولا يتخلّف بحسب العموم.
النقطة الرابعة: أنّ البحث في دلالة أداة العموم هو بحث على مستوى الدلالة الوضعيّة التصوّريّة، وبأصالة التطابق بين الدلالات الثلاث، نُثبت العموم في نهاية المطاف، لكنّ الدلالة على العموم دلالة وضعيّة تصوّريّة.
النقطة الخامسة: أنّ (كلّ) تفيد التحديد، غاية الأمر: ليس أيّ تحديد، بل التحديد الاستيعابيّ، بمعنى: أنّها تستوعب وتحتوش كلّ أفراد مدخولها، وهذا واضح. فهذا المقام هو مقام التحديد؛ وإذا كان المقام مقام التحديد فهل لا بدّ من كون المدخول محدَّداً أم لا؟ وهل يُستفاد تحديد المدخول أم لا؟ أو فقل: هل يمكن أن تدخل (كلّ) على مدخولٍ يكون مقامه مقام الإهمال؟ الجواب: قطعاً لا؛ فإنّ هذا التعميم للمهمل هو لغو، من الواضح أنّه لغو؛ إذ لا يتحصّل لدينا عندئذٍ استيعاب. ما نريد قوله: إنّ دخول كلمة (كلّ) ـ والمقام هنا مقام الحكم ـ الذي يفيد الاستيعاب، يفيد التحديد، بل أعلى درجات التحديد، وهو التحديد الاستيعابيّ، يلازم أن يكون مدخوله محدّداً واضحاً وليس في مقام الإهمال والإجمال، ولا زلنا في مقام الدلالة الوضعيّة، هذا ما تستلزمه كلمة (كلّ) لكي تدخل على مدخولها بحسب وضعها اللّغويّ؛ لأنّها إنّما تفيد الاستيعاب والشمول بحسب وضعها ودلالتها الوضعيّة التصوّريّة، لا التصديقيّة.
النقطة السادسة: أنّ اسم الجنس والماهيّة بطبيعته لا يتعرّض للأفراد بحسب وضعه، كما تقدّم، بل هو يدلّ على الكلّيّ الطبيعيّ الذي له قابليّة الانطباق على كلّ فردٍ فرد من أفراده. وعمليّة التطبيق هذه هي عمليّة عقليّة، تكون لدينا ذاتيّات اسم الجنس، ووجدنا أنّ هذا الفرد يحمل هذه الذاتيّات، فيكون الانطباق عليه قهريّاً، لكن لا بلحاظ مشخّصاته، بل بلحاظ احتوائه على مكوّنات اسم الجنس. مقام الطبيعة هو الذي نبحث عن الإطلاق وقرينة الحكمة له في بحث الإطلاق والتقييد، بينما كلمة (كلّ) عندما تدخل على الطبيعة، فهي تحصّص الطبيعة، فتفرّدها أو تصنّفها أو تنوّعها. فموضوع الحكم في باب الإطلاق هو الطبيعة، بينما موضوع الحكم في باب العموم هو أفراد الطبيعة مباشرةً بواسطة الطبيعة؛ لأنّ (كلّ) باتت جزءاً من الموضوع، فبات مصبّ الحكم على الموضوع بما فيه كلمة (كلّ)، يعني: فعندما تقول: أكرم كلّ عالم، فكأنّك قلت: أكرم جميع أفراد العالم، فموضوع الحكم ببركة أداة العموم (وهذا كلّه على مستوى المدلول التصوّريّ) بحسب وضعها يتحوّل من كونه الطبيعة التي لا تعكس الأفراد، بل يكون تطبيقها على الأفراد قهريّاً، وتمام الموضوع في مثل: أكرم العالم، هو الطبيعة، يتحوّل إلى كون موضوع الحكم هو أفراد الطبيعة بما هم أفراد الطبيعة، لكنّ موضوع الحكم ومصبّه هو الأفراد، لا الطبيعة. والحكم لا يشمل مشخّصاتهم الفرديّة، وإنّما يشملهم كأفراد للطبيعة، لكنّ الحكم إنّما انصبّ على أفراد الطبيعة، لا على الطبيعة نفسها، ببركة دلالةٍ وضعيّة من قبيل (كلّ) و(جميع).
النقطة السابعة: أنّ دلالة العموم على هذا الذي ذُكر دلالة وضعيّة، وهو جزء من الموضوع قبل الحكم، صحيح أنّنا نحتاج إلى النظر إليه حين تطبيق الحكم عليه، لكن قد ذكرنا سابقاً أنّه لا شكّ في (كلّ) و(جميع) ونحوهما بمعزل عن الحكم لها معانٍ في اللّغة العربيّة، ولكن إنّما يحتاج إليها الإنسان، تارةً استغراقيّةً، وأُخرى مجموعيّةً، وثالثةً بدليّةً، في مقام تعليق الحكم بها.
ونقول هنا: إنّ مفاد العموم الاستغراقيّ للأفراد بالدلالة الوضعيّة هو مفادٌ قبل تعلّق الحكم، وإن احتيج إليه في مقام تعليق الحكم، لكن نحتاج إليه وهو قابل للتعقّل قبل تعليق الحكم، لذلك نتعقّل الأفراد غير مرتبط بعضها بالبعض الآخر ثمّ نحكم عليها، أو نحوّلها إلى أجزاء ثمّ نحكم عليها، أو نحكم على فردٍ واحدٍ منها سارٍ في الأفراد على سبيل البدل.
ما نريد قوله هنا: إنّ التعميم والشمول والاستيعاب لأفراد الطبيعة، التي بات مؤدّى مثل (كلّ) و(جميع) الموضوعتين للاستيعاب، هو يُستفاد في مرحلة الدلالة الوضعيّة وقبل تعلّق الحكم، نتصوّره فنصبّ الحكم عليه؛ لأنّه جزء من الموضوع.
بينما الإطلاق وقرينة الحكمة يُستفادان من ظهور حال المتكلّم، أي: المراد التصديقيّ الجدّيّ للمتكلّم، في أنّه بعد أن أبرز حكمه مع متعلّقاته، نشكّ في إرادته التحصيص أو عدم إرادته التحصيص على مستوى الإرادة الجدّيّة، حينئذٍ نقول: بأنّه كان يستطيع أن يحصّص ويقيّد، ولو شاء ذلك لذكر القيد، فهو حيث لا يذكره لا يريده، ولو أراده لذكره. لكنّ هذا في مرحلة الدلالة التصديقيّة، وفي طول تعلّق الحكم، استفدناه من ظاهر حال المتكلّم.
وإذا كان الأمر كذلك: فتصبح النتيجة أنّ المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله يقول: إنّ تعليق استفادة العموم الشموليّ في باب العموم الاصطلاحيّ لغو، بل غير معقول. ووافقه على ذلك السيّد الإمام رحمه‌الله. وأشار السيّد الخوئي رحمه‌الله في حاشيته على أجود التقريرات، وفي غير واحدة من تقريرات درسه الأصوليّة، إلى لغويّةٍ، حَسِبها بعض المحقّقين (صاحب المنتقى) أنّها نفس اللّغويّة التي تحدّث عنها المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله، مع أنّه رحمه‌الله يشير إلى لغويّةٍ أُخرى ليس هي نفس تلك اللّغويّة.