بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/27

بسم الله الرحمن الرحیم

لا يزال الكلام في الموقف الثامن.
وصل الكلام إلى ما أفاده الميرزا النائيني رحمه‌الله، وخلاصته: أنّه إذا التبس علينا الأمر فلم ندرِ أنّ العموم في مقامٍ ما هل هو استغراقيّ أم مجموعيّ؟ فإنّ مقتضى الأصل اللّفظيّ أن يُحمل على العموم الاستغراقيّ؛ لأنّ المجموعيّة تحتاج إلى مؤونة زائدة.
هذا الكلام نقّح رحمه‌الله على أساسه ظهور صيغة العموم الماثلة في العموم الاستغراقيّ، مرجِّحاً جنبة الاستغراقيّة على المجموعيّة.
وواضح من كلامه رحمه‌الله أنّه علّل الاستظهار إثباتاً بنكتةٍ ثبوتيّة؛ إذ من الواضح: أنّ المؤونة الزائدة المحتاج إليها، إن صحّت، فهي مؤونة اللّحاظ، لحاظ الأفراد أجزاءاً، بينما لا يخفى عليه ولا أحدٍ أنّ أداة العموم الموضوعة لإفادة الاستيعاب الأفراديّ أو الأجزائيّ ليس في أحدهما على مستوى الوضع مؤونة زائدة، فكما أنّ (كلّ) مثلاً توضع للعموم الأفراديّ، فإنّ (مجموع) أيضاً موضوعة للعموم المجموعيّ، فلا توجد حالة الأقلّ والأكثر على مستوى وضع أدوات العموم، سواء كان هذا الوضع للأدوات على سبيل المعنى الاسميّ كـ (كلّ) و(مجموع) أو الحرفيّ كالمفرد أو الجمع المحلّى أو النكرة في سياق النفي أو النهي.
هذا الكلام للمحقّق النائيني رحمه‌الله وجدناه بنفسه في كلام السيّد البروجردي رحمه‌الله أيضاً.
وأوّل من استشكل على هذا الكلام للميرزا النائيني رحمه‌الله تلميذه السيّد الخوئي رحمه‌الله.
لكنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله قصر إشكاله على الجهة الثبوتيّة، فكأنّه رحمه‌الله سلّم إمكانيّة تنقيح الظهور على أساس نكتةٍ ثبوتيّة، لكنّه ناقش في هذه النكتة الثبوتيّة، فأفاد رحمه‌الله أنّ النسبة بين اللّحاظين، أعني: لحاظ الأفراد ينفرد كلّ واحدٍ منها عن الآخر، ولحاظها أجزاءاً، النسبة بين اللّحاظين هي التباين، لا الأقلّ والأكثر. وإذا كانت النسبة هي التباين، فدوران الأمر بين الاستغراقيّة والمجموعيّة دوران أمرٍ بين متباينين، لا يحتاج أحدهما إلى مؤونة زائدة. فلا مساغ لتقعيد قاعدة تقتضي الحمل على الاستغراقيّة عند الشكّ والدوران.
توضيح مراد السيّد الخوئي رحمه‌الله: أنّ الحاكم في مقام حكمه عندما لحظ أفراد اسم جنس أو ماهيّة، إمّا لاحظها أفراداً أو أجزاءاً، لا يخلو أمره من أحد هذين. فإن لاحظها أفراداً، فهي الاستغراقيّة، وإن لاحظها أجزاءاً فهي المجموعيّة، وحيث إنّنا نشكّ، فلا مرجّح لأحد اللّحاظين على الآخر، فلا بدّ من المصير إلى الأصل العمليّ، ولا يوجد أصل لفظيّ في المقام.
هذه النقطة ادُّعيت في كلام الميرزا النائيني رحمه‌الله وجُعلت من قبيل الأقلّ والأكثر دون بيان نكتتها، وادُّعي عكسها في كلام السيّد الخوئي رحمه‌الله كذلك. بل أحال رحمه‌الله إلى ما تقدّم، وهو أنّنا إذا لاحظنا أفراد الطبيعة بما هي كان استغراقيّاً، وإن لاحظناها بشرط الاجتماع كان مجموعيّاً، وإن لاحظنا أحدها الساري على نحو البدل، كان بدليّاً.
هذه النقطة تحتاج في نفسها إلى تحليل أوّلاً.
ونحن قد ذكرنا أنّ العموم في جميع أقسامه يحتاج إلى لحاظ الأفراد والحكم عليها، ولا يُقصر الحكم فيه على الطبيعة، وهذا هو الفرق الجوهريّ أساساً بين الإطلاق وبين العموم. وهذا قد ذكرنا أنّه أمر مشترك بين الأقسام الثلاثة للعموم، سواء فسّرناه بتفسير صاحب الكفاية رحمه‌الله والجماعة، من أنّه استيعاب مفهوم لتمام ما يصلح أن ينطبق عليه، أو فسّرناه بما هو الصحيح، من أنّه استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر.
وعموماً، فإنّ لحاظ الأفراد حين جعل الحكم هو المائز الموضوعيّ بين الإطلاق والعموم. فالنظر إلى الأفراد أمر مشترك بين أقسام العموم الثلاثة. فما ينبغي أن يتوجّه إليه البحث لنعرف أنّ النسبة هي عموم وخصوص مطلق أم نسبة التباين، هو أنّه هل لحاظ الأفراد في العموم الاستغراقيّ بلا شرط، وفي المجموعيّ بشرط الاجتماع، لتكون النسبة هي الأقلّ والأكثر؟ أم أنّه في العموم الاستغراقيّ بشرط لا عن هيئة الاجتماع، ففي العموم الاستغراقيّ هل نلحظ الحكم على كلّ فرد فرد من أفراد العالم هل نلحظ الحكم على كلّ عالم من دون النظر إلى حيثيّة أُخرى، من انضمام فردٍ آخر إليه أو عدم انضمام فردٍ آخر إليه؟ فالجهة الزائدة هي غير موجودة، جهة عدميّة. بينما في المجموعيّ، الخصوصيّة الزائدة هي خطوة ثانية بعد هذه الخطوة، لاحظنا الأفراد، ثمّ لاحظنا اجتماعها في هيئةٍ واحدة، فباتت أجزاءاً بعد أن كانت أفراداً، إذا كان الأمر كذلك، فتكون النسبة هي نسبة الأقلّ والأكثر، يقيناً العموم المجموعيّ يحتاج إلى نفس اللّحاظ الموجود في العموم الاستغراقيّ وإلى حيثيّة زائدة، وهي قيد الاجتماع، لاحظ الأفراد في المرتبة الأُولى، وهذا مشترك بين الاستغراقيّ والمجموعيّ، ولاحظ شرط اجتماع بعضها مع بعض، فتحوّلت أجزاءاً، وهذا مختصّ بالمجموعيّ. إذا اخترنا هذا المعنى، فعلى مستوى التحليل، يصبح الحقّ مع الميرزا النائيني رحمه‌الله، أنّ العموم المجموعيّ يحتاج إلى لحاظٍ زائد.
أمّا إذا قلنا بأنّ الحاكم عندما يحكم على الأفراد فهو يحكم على كلّ فردٍ بحدّه، بمعزلٍ عن بقيّة الأفراد، وليس الحكم على الفرد من قبيل القضيّة المهملة من ناحية القيود، بل مقتضى قانون الحكمة العقلائيّة أنّه حينما يحكم على فردٍ يحكم عليه سواء انضمّ إليه آخر أم لا، وسواء وُجد فرد آخر أم لا، وسواء تعلّق الحكم بفردٍ آخر أم لا.
لا شكّ في أنّنا إذا عدنا إلى وجداننا العقلائيّ نجد أنّه في باب العموم الاستغراقيّ ينظر الحاكم إلى كلّ فردٍ على أنّه حاوٍ لتمام الملاك للإكرام، بمعزل عن انضمام غيره إليه، يُلغي خصوصيّة الغير، فلا يبعد على أساس هذه النكتة أن يكون على مستوى اللّحاظ الحقّ مع السيّد الخوئي رحمه‌الله ومن تبعه كصاحب المنتقى وغيره، خلافاً للمحقّق النائينيّ رحمه‌الله الذي يفضي ظاهر كلامه إلى أنّ النسبة بينهما هي نسبة الأقلّ والأكثر. هذا أوّلاً في التعليق على مقالة المحقّق النائيني رحمه‌الله. والنتيجة أنّ إشكال السيّد الخوئي رحمه‌الله تامّ.
الإشكال الثاني: وهذا الإشكال إشكال على مقالة الميرزا النائيني وهو ضمناً إشكال على السيّد الخوئي رحمه‌الله أيضاً، فإنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله عندما اقتصر في الإشكال على أنّ النسبة في عالم اللّحاظ هي نسبة الأقلّ والأكثر أو نسبة التباين، فهذا يعني ضمناً أنّه سلّم مع أستاذه بأنّه إذا كانت النسبة من قبيل الأقلّ والأكثر فيوجد أصل لفظيّ، بينما إذا كانت النسبة هي التباين فلا يوجد أصل لفظيّ. والمحقّق النائيني رحمه‌الله بنى عالم الإثبات على عالم الثبوت في مقام اللّحاظ.
وهذه نقطة جوهريّة مهمّة تتكرّر في غير واحدٍ من الأبحاث. فنقول:
ممّا اتّفق عليه الأصوليّون، بل العقلاء كافّة في باب المحاورات، أنّ العبرة في كشف المقاصد بالظهورات اللّفظيّة، وأنّ الأصل في الظهورات اللّفظيّة هو الأوضاع اللّغويّة، وعليها تتفرّع الدلالات مع القرينة من قبيل المجاز والاستعارات والكنايات ونحوها، فإنّها من سنخ الدلالة اللّفظيّة الثانويّة، فنقول: في المقام المحقّق النائيني رحمه‌الله يريد تنقيح أصل لفظيّ، لا أصل ثبوتيّ عقليّ، السؤال الذي يُطرح هنا: أنّنا حتّى لو سلّمنا أنّ العموم المجموعيّ يحتاج إلى مؤونة زائدة في عالم اللّحاظ، فهل يلازم ذلك استظهار الاستغراقيّة على المجموعيّة ملغين للمؤونة الزائدة المشكوكة في عالم الإثبات، أم لا يُلازم ذلك؟ نحن عادةً نسير في التعاطي مع هذا الدليل على عكس هذا التحليل، نحن عادةً ما نتعاطى مع ظاهر الدليل وننتقل منه إلى المراد ثبوتاً.
الجواب: أنّ هذه الملازمة غير صحيحة؛ إذ تارةً يكون اللّحاظ الزائد ثبوتاً يستدعي تنصيصاً زائداً بإزائه إثباتاً، أي: يستدعي وضع لفظٍ وقرينةٍ معيّنة إثباتاً، بحيث تكون مؤونة إثباتيّة زائدة توازي الموؤنة الزائدة ثبوتاً، وأُخرى لا تستدعي نسبة الأقلّ والأكثر في عالم الإثبات، بل تكون النسبة في عالم الإثبات نسبة التباين، إمّا (كلّ) ـ مثلاً ـ وإمّا (مجموع)، (كلّ) وُضعت بالأساس لمعنىً وتُستعمل فيه دائماً، (مجموع) أيضاً وُضعت لمعنىً وتُستعمل دائماً فيه، لا نحتاج إلى مؤونة زائدة أو قرينة زائدة في عالم الإثبات، بل إذا كان مرادنا هو الاستغراقيّ نأتي بـ (كلّ) مثلاً، وإذا كان مرادنا هو المجموعيّ نأتي بـ (مجموع)،  فلو شككنا أنّ (كلّ) موضوعة للاستغراقيّ أو المجموعيّ، هذا ليس من باب الأقلّ والأكثر، بل النسبة في عالم الإثبات والاستظهار هي التباين؛ لأنّها عندما وُضعت إمّا وُضعت لهذا أو لذاك، وأنا جاهل بالوضع شاكّ فيه، مثلاً: (كلّ) الداخلة على الجمع المحلّى، كما في: أكرم كلّ العلماء، هل هي موضوعة للعموم الاستغراقيّ، (لأنّ العلماء ادُّعي أنّها لوحدها تدلّ على العموم، وسيأتي)، أم أنّها موضوعة للعموم المجموعيّ؟ أصل الوضع مشكوك لديّ، وتبعاً لجهلي بالوضع شككت في الظهور، أو أنّها تُستعمل في الاثنين، موضوعة للأعمّ من الاثنين، والمراد في المقام أشكّ فيه، ولا توجد قرينة على الاستغراقيّة ولا على المجموعيّة في عالم الإثبات، فاللّحاظ الزائد ثبوتاً، حتّى لو سلّمناه كما يقول المحقّق النائينيّ رحمه‌الله ولم ننتصر للسيّد الخويئ رحمه‌الله، حتّى لو سلّمنا ذلك، فإنّ الحيثيّة الزائدة ثبوتاً إذا لم تكن تعادلها حيثيّة زائدة إثباتاً، فلم تكن النسبة بين الاستغراقيّ والمجموعيّ في عالم الإثبات هي الأقلّ والأكثر كما يقول الميرزا النائينيّ رحمه‌الله، فحينئذٍ: التحليل الثبوتيّ لا يُنتج تنقيح أصل لفظيّ لصالح العموم الاستغراقيّ على المجموعيّ.
وإنّما قلنا هذا إشكال على المحقّق النائيني رحمه‌الله بالمباشرة وعلى السيّد الخوئي رحمه‌الله ضمناً؛ لأنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله يظهر منه أنّه سلّم هذا التلازم، وإنّما أنكر أساسه الثبوتيّ.
إذا جئنا إلى أرض الواقع، وهذا بحث كبرويّ، أنّ الأقلّ والأكثر ثبوتاً يستدعي في مقام الإثبات التعاطي في موارد التردّد على أساس أنّ النسبة فيه نسبة الأقلّ والأكثر إذا كان مقام الإثبات كمقام الثبوت النسبة فيه هي نسبة الأقلّ والأكثر. فلنأتِ إلى محلّ الكلام، صغرويّاً، نجد في باب العموم الاستغراقيّ والمجموعيّ، هناك ألفاظ واضح أنّها موضوعة للعموم الاستغراقيّ، مثل لفظ (كلّ) ونحوه، وفي مقابلها ألفاظ واضح أنّها موضوعة للعموم المجموعيّ، كلفظ (مجموع)، وهناك ألفاظ قد يُدّعى تردّدها بين الاثنين، لا يُعلم أنّها موضوعة لهذا أو ذاك، أو لملابسات خارجيّة بحسب مناسبات الحكم والموضوع شككنا أنّ الأمر من قبيل العموم المجموعيّ أو الاستغراقيّ، كما في مثل: آمن بكلّ الأئمّة(، شككنا في أنّ المطلوب هو الإيمان بكلّ إمامٍ إمام على حياله، أم أنّ المطلوب هو الإيمان بمجموعهم، كلاهما ممكن، حينئذٍ: من الواضح: أنّه حيث لا توجد إثباتاً نسبة الأقلّ والأكثر، بل الأمر يدور بين هذا وذاك، فكما يحتاج هذا إلى قرينة كذلك يحتاج ذاك إلى قرينة في استعمال المشترك بين الاثنين، أو استعمال المختصّ الذي نجهل نحن بوضعه ونشكّ هل هو لخصوص الاستغراقيّ أو المجموعيّ، حيث إنّ النسبة بينهما إثباتاً ليست نسبة الأقلّ والأكثر، بل كلاهما على قدم المساواة في الاحتياج إلى قرينةٍ تخصّه ليتعيّن، ففي عالم الاستظهار، وهو عالم تنقيح الأصل اللّفظيّ، النسبة ليست نسبة الأقلّ والأكثر، وإذا لم تكن كذلك، فلا نستطيع أن نحمل الدليل على الاستغراقيّ في قبال المجموعيّ، كما لا نستطيع أن نصنع العكس أيضاً.
وعلى هذا الأساس، نستنتج قاعدة تعمّ محلّ الكلام وغيره، وهي أنّنا حيث نريد تنقيح أصل لفظيّ في أيّ مقامٍ من المقامات عند الشكّ والدوران بين حالتين أو أكثر، لا بدّ وأن تكون نسبة الأقلّ والأكثر على مستوى عالم الإثبات، ولا يكفي أن تكون النسبة نسبة الأقلّ والأكثر على مستوى عالم الثبوت.
فخلاصة ما رددنا به على الميرزا النائيني رحمه‌الله ردّان:
أوّلهما: أنّنا لا نسلّم ثبوتاً أنّ النسبة هي من قبيل الأقلّ والأكثر.
والثاني: أنّنا لو سلّمنا ذلك ثبوتاً، فلا يُنقّح الأصل اللّفظيّ إلّا إذا كانت النسبة على مستوى الإثبات هي أيضاً نسبة الأقلّ والأكثر.
وعليه: فالصحيح أنّنا في المورد (ولا أدري إذا كان يُوجد مورد من هذا القبيل أساساً في الفقه) الذي نتردّد فيه بين العموم الاستغراقيّ والعموم المجموعيّ إثباتاً ينحصر التردّد بصلاحية الأداة لكليهما من غير رجحان، ولو لعاملٍ خارجيّ، كمناسبات الحكم والموضوع، أو تردّدها بينهما لجهلنا بوضعها، وحينئذٍ فلا يوجد في هذا المقام أصل لفظيّ عند الشكّ، وهذه حالة نادرة أن نشكّ، وإلّا، فإنّ حالات العموم المجموعيّ قليلة أساساً، وواضحة عادةً.
فلا بدّ لنا حيث نشكّ من المصير إلى الأصل العمليّ.
والأصل العمليّ بلا شكٍّ ولا ريب يختلف باختلاف المقامات، من اشتغالٍ سابق أو عدم وجوده، وهكذا، ففي بعضها مجرىً للبراءة، وفي بعضها مجرىً للاشتغال، وفي بعضها مجرىً للاستصحاب، وهكذا.
وقد حصر المحقّق النائيني رحمه‌الله وحصرنا البحث في الدوران بين الاستغراقيّ والمجموعيّ لأنّ البدليّ لا يُتصوّر التباسه بأحدهما، أو التباس أحدهما به، كما هو واضح.
هذا تمام الكلام في هذا المطلب.
وبه يتمّ الكلام هذا الموقف الثاني.
وإن بقيت نكتة موجودة في كلمات صاحب الكفاية.