بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/29

بسم الله الرحمن الرحیم

المسألة 28
* قال الماتن!: إذا كان السفر مباحاً، لكن ركب دابّةً غصبيّة، أو كان المشي في أرض مغصوبة، فالأقوى فيه القصر، وإن كان الأحوط الجمع.[1]
هذه المسألة من صغريات المبنى المتقدّم، والذي ثبت عند المشهور بحسب تعبيراتهم الفقهيّة أنّ السفر الذي تتمّ فيه الصلاة إمّا هو سفر المعصية أو هو السفر الذي تكون غايته معصية. حتّى لو لم يكن هو في نفسه معصية. وقد اخترنا أنّ العنوان الثابت بالأدلّة، وخصوصاً مرسلة ابن أبي عمير، وموثّقة عبيد بن زرارة، ... فلا تُقصر فيه الصلاة. وسبيل الباطل أعمّ من الحرام، كما تقدّم.
في هذه المسألة يطبّق الماتن ره الكبرى، فيقول: إذا كان نفس السفر سبيل حقّ، أو كان طاعة، ولم يكن معصيةً، ولم تكن الغاية منه معصية، ولم يكن سبيل باطلٍ (على كلامنا)، لكنّه لازمَ باطلاً، كما لو اصطحب معه الخمر يشربه في السفر، أو لبس لباساً مغصوباً في السفر، أو ركب دابّةً مغصوبةً في السفر، بل حتّى لو مشى في طريقٍ غصبيّ، فإنّ الأقوى أنّه في جميع ذلك يُتمّ؛ لأنّ سفره سفر حقّ، وإن اعتراه أو لازم كثير من الباطل. فما دام نفس المسير ليس مصداقاً للباطل، وليس مثل السفر مع النهي عن السفر في المورد الذي يكون النهي فيه ملزماً، أو نفس عمليّة المسير مصداقاً للإباق.
اختار صاحب الجواهر ره أنّه حتّى لو كان نعل الدابّة مغصوباً، فضلاً عمّا لو كان مسيره في أرضٍ غصبيّة، فإنّه يُتمّ الصلاة؛ لأنّه يصدق عليه أنّ سفره في معصية.
وفصّل المحقّق الهمدانيّ ره بين كون المسير في أرضٍ مغصوبة، وبين غيره.
وفصّل السيّد البروجرديّ ( وجماعة، منهم الإمام الخمينيّ)، بين ما لو كانت هناك مندوحة أو لم تكن هناك مندوحة في خصوص المسير في الأرض المغصوبة.
فأمّا ما ذهب إليه صاحب الجواهر ره فهو مبنيّ على فهم خاصّ من الرواية، وهو أن يكون السفر في معصية يشمل حتّى المعصية المصاحبة؛ إذ لم يجعل هو خصوصيّةً لكون المسير في أرضٍ مغصوبة، بل مثّل في الجواهر بما لو كان نعل الدابّة التي يركبها مغصوباً.
لكنّ هذا الفهم ـ كما ترى ـ خلاف الظاهر من الرواية؛ فإنّ الرواية حُملت في كلام بعضهم على ما لو كان السفر مقدّمةً للحرام، وعمّمناها ـ تبعاً لجماعة ـ لما لو كان حراماً في نفسه. وأمّا تعميمها لما لو كان الحرام مصاحباً للسفر، ملازماً كان أم مفارقاً، ولم تكن له أيّة علاقة بنفس السفر بعنوانه، فليس السفر مصداقاً له، أو معنوناً من معنوناته، فإنّ الظاهر أنّه لا وجه له. والله العالم.
وهذا المستوى من الفهم يؤيّده ويبني عليه المحقّق الهمدانيّ ره الذي فصّل.
وأمّا التفصيل، سواء على طريقة المحقّق الهمدانيّ أو على طريقة السيّد البروجرديّ ومن تابعه، فهو مبنيّ على البحث الأصوليّ في مسألة اجتماع الأمر والنهي، فمن قال بعدم الجواز مطلقاً، ورجّح جانب النهي، فلا شكّ في أنّه سوف ينتهي إلى أنّ الحركة السيريّة في الأرض المغصوبة سوف تكون مصداقاً لـ لا تغصب، كما هي مصداق للسفر، فإذا رجّحنا جانب النهي، وقلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي كبرويّاً، وقلنا صغرويّاً بأنّ الحركة السيريّة فيها تصرّف زائد على نفس الكون في الأرض المغصوبة، فحينئذٍ: يصبح السفر سفر معصية. فتكون النتيجة هي الإتمام حينئذٍ كما هو واضح.
والفرق حينئذٍ بين هذا وبين ركوب الدابّة ولبس الثوب المغصوب ونحو ذلك، فيقول: تلك أمور متعدّدة الموضوع أساساً مع نفس الحركة السيريّة التي تُسمّى سفراً، وقد يخفى هذا بالنسبة للمركوب المغصوب. إلّا أن يُقال: إنّ الفرق في الصغرى؛ فإنّه لا يوجد تصرّف زائد فيه على الركوب في السير.
والمسألة مبنائيّة على كلّ حال.
وأمّا على رأي السيّد البروجرديّ ره ومن تابعه، فإنّهم جوّزوا اجتماع الأمر والنهي فيما لو كان هناك سبيل غير السبيل المغصوب، وأمّا لو لم يكن هناك سبيل غير السبيل المغصوب (المفروض أنّ السبيل المغصوب ليس اضطراريّاً حتّى تُرفع حرمته) فحتّى يتوجّه الأمر، لا بدّ وأن تكون هناك مندوحة. ومن الواضح أنّه بناءاً على هذا المبنى، فعلى تقدير وجود المندوحة لا بدّ من التفصيل، وإلّا، فلا؛ إذ مع عدم وجود المندوحة يمتنع اجتماع الأمر والنهي، وينتج عن ذلك حينئذٍ أنّ السفر يكون سفر معصية.
وأمّا لو بنينا على جواز اجتماع الأمر والنهي من دون مندوحة، كما هو الصحيح في محلّه (وإن كان هذا ليس اجتماعاً للأمر والنهي في الحقيقة، وإنّما يُقال له اجتماع لهما بلحاظ الواقع الخارجيّ، وإلّا، فإنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين، لا بالمعنونات الخارجيّة) وعدم اشتراط ذلك بوجود المندوحة، أو قلنا بالامتناع، لكنّنا قلنا: إنّ الحركة السيريّة ليست تصرّفاً زائداً في المغصوب على أصل الكون فيه، فحينئذٍ: لا يلزم غصب زائد على أصل الكون فيه، فالغصب إنّما بدأ منذ أوّل نزوله في الطريق المغصوب. ففي الحركة السيريّة لا يوجد غصب زائد، فلا يصدق على نفس الحركة السيريّة السفريّة أنّها غصب. وحينئذٍ: فلا شكّ في أنّ السفر لا يكون سفر معصية. وحينئذٍ: فلا مانع من قصر الصلاة، وتكون فتوى الماتن ره صحيحة. وأمّا احتياطه بالجمع، فلأجل اختلاف المباني في هذه المسألة، فلا بأس بالاحتياط ما دام استحبابيّاً.
لكن قد يُقال: إنّه على مبناكم حيث عمّمتم لكلّ مسيرٍ باطل، فهذا المسير المصاحَب بالمحرّمات، وخصوصاً المحرّم الملازم، مثل السير في المغصوب، من أوّل المسير إلى آخر، أفلا يُعدّ هذا المسير باطلاً؟
والجواب: بل لا يُعدّ باطلاً، فإنّه مسافر للتجارة أو لعيادة مريض ـ مثلاً ـ، فهو مسير حقّ، لا باطل، غاية الأمر: هناك باطل محيط به، مصداق لعنوانه، وهذا مصداق لعنوانه.
فالمسألة برمّتها تبتني على مسألة اجتماع الأمر والنهي. وحيث إنّ الصحيح هناك هو القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، فلا شكّ في أنّ فتوى الماتن ره هي الصحيحة، فالأقوى ما قوّاه.

المسألة 29
* قال الماتن!: التابع للجائر إذا كان مجبوراً أو مكرهاً على ذلك، أو كان قصده دفع مظلمةٍ، أو نحوها من الأغراض الصحيحة المباحة أو الراجحة، قصّر. وأمّا إذا لم يكن كذلك، بأن كان مختاراً وكانت تبعيّته إعانةً للجائر في جوره، وجب عليه التمام. وإن كان سفر الجائر طاعةً، فإنّ التابع حينئذٍ يتمّ، مع أنّ المتبوع يقصّر.[2]
هذه المسألة لها وجهان:
الوجه الأوّل: قضيّة العمل مع الجائر، وهذه ليس المقام محلّاً لها، والبحث فيها طويل الذيل. ومن توابعها ما يُسمّى في عصرنا بـ التوظيف في الدولة الجائرة، وما إلى ذلك. والمحصّل من الأدلّة في محلّه: أنّ المحرّم هو عنوان إعانة الجائر في جوره، وعنوان كون التبعيّة له مقوّية لشوكته وموجبةً لإدامة بقائه (وإن كان قد ينضوي هذا العنوان تحت العنوان السابق)، وهذا لا ينفكّ عادةً عن كونه إعانةً له في جوره، لكنّها إعانة بشكلٍ غير مباشر.
أمّا الأوّل، فمسلّم أنّه حرام، وهذا من قبيل التعاون على الإثم، لا الإعانة.
وأمّا الثاني، فيوجد بحث فيه. وهو خاضع للأدلّة، مثل قوله: ألا تحبّ بقاءهم حتّى يؤدّوا إليك كراءك، ونحوها.
فليس هنا في هذه المسألة نكتة جديدة، بل هي تطبيق للمبنى السابق، فإذا كان سفره سفر معصية، أو مقدّمة للمعصية، فهو مسير باطل، وليس مسير حقّ، وهو سفر في معصية، فإذا كان في سفره معه يتجسّس له على المؤمنين، فلا شكّ في أنّه سوف يكون مسيره مسيراً باطلاً. وإذا كان معه يطبخ له ـ مثلاً ـ، فليس معيناً له في إثمه، فحينئذٍ: يقصّر، حتّى لو كان متبوعه ذاهباً لقتال المؤمنين، فضلاً عمّا لو كان المسير معه بغرض حقّ، كما لو ذهب معه للدفع عن المؤمنين، كما في مثل عليّ بن يقطين الذي دخل معهم لدفع المظلمة عن المؤمنين.
وفي بعض الحالات تنقلب القضيّة، فيقصّر الجائر، كما لو كان الجائر مسافراً للحجّ، كما كان طواغيت بني أميّة وبني العبّاس يفعلون، لكنّه كان معيناً لهم في إثمهم، أو كان وزيراً لهم لا بقصد الدفع عن المؤمنين أو نحو ذلك، والوزارة محرّمة، وكان المسير معهم جزءاً من عمله، أو كما لو كان مسؤول الحماية، فيمشي معه بهذا القصد، فهنا يقصّر الجائر؛ لأنّ سفره هذا سفر طاعة، وإن كان جائراً، وأمّا هو فيُتمّ؛ لأنّ سفره معه سفر معصية. وقد نجد أمثلةً أُخرى.
فالمسألة على مستوى المباني واضحة، ولا يوجد فيها نكتة جديدة.
البحث المهمّ هنا هو ذاك الذي يُبحث عادةً في المكاسب المحرّمة، وينبغي أن يُبحث بشكلٍ أشمل، فيما يرتبط بالتوظيف وحدود العمل في الدولة غير الشرعيّة؛ فإنّ هذا محلّ ابتلاءٍ لدى المؤمنين.
المسألة 30
* قال الماتن!: التابع للجائر المعدّ نفسه لامتثال أوامره لو أمره بالسفر، فسافر امتثالاً لأمره، فإن عُدّ سفره إعانةً للظالم في ظلمه، كان حراماً، ووجب عليه التمام. وإن كان من حيث هو مع قطع النظر عن كونه إعانةً مباحاً. والأحوط الجمع. وأمّا إذا لم يُعدّ إعانةً على الظلم، فالواجب عليه القصر.
قوله: مع قطع النظر عن كونه إعانةً مباحاً؛ لأنّ نفس الحركة السيريّة السفريّة وإن لم تكن مصداقاً بالذات للإعانة، لكنّها مصداق عرفاً للإعانة.
قوله: والأحوط الجمع؛ لأنّ المصنّف شاكّ في المسألة، مع أنّه كان في السابق جازماً، ومع الجزم، لا توجد لدينا مشكلة في الكبرى في الشبهة الحكميّة، ففي السفر إلى معصية فلا شكّ في أنّه يُتمّ، وفي السفر إلى طاعة لا شكّ في أنّه يقصّر، فلا يوجد وجه لهذا الاحتياط مع الجزمين السابقين في صدر المسألة.
وهذه المسألة فيها تكرار للمفهوم ممّا تقدّم. لكنّ الكلام كلّ الكلام في البحث هناك، في مسألة العمل مع الظالم، أنّه هل ينحصر بالإعانة أم أعمّ منه، أم أنّ مطلق الوظيفة هو المحرّم، بحيث تكون كلّ التقلّبات التي هي ممارسة للوظيفة حراماً. والثابت عند الماتن ره من حرمة العمل مع الجائرين هو إعانة الظالم في خصوص ظلمه فقط.
المسألة 31
* قال الماتن!: إذا سافر للصيد، فإن كان لقوته وقوت عياله قصّر، بل وكذا لو كان للتجارة، وإن كان الأحوط فيه الجمع. وإن كان لهواً، كما يستعمله أبناء الدنيا، وجب عليه التمام. ولا فرق بين صيد البرّ والبحر، كما لا فرق بعد فرض كونه سفراً بين كونه دائراً حول البلد وبين التباعد عنه، وبين استمراره ثلاثة أيّام على الأصحّ.
هنا ثلاثة أقسام:
أوّلها: سفر لهويّ، كما هو غالب الذين يتصيّدون، فإنّهم يتصيّدون للّهو، بمعنى: أنّ مقصدهم الأصليّ هو اللّهو، وإن كانوا في نهاية المطاف يأكلون ما اصطادوه أو يأخذونه إلى عيالهم أو يبيعونه. والعنوان المأخوذ في الروايات ـ كما سيأتي ـ هو عنوان الصيد اللّهويّ. وإن احتمل بعضهم أنّه صنف خاصّ من السفر اللّهْويّ، وهو سفر الصيد الذي كان متعارفاً عند الملوك ونحوهم. لكن سيأتي أنّ المأخوذ في الروايات أعمّ.
والثاني: السفر لقوته وقوت عياله. بمعنى: أنّ مقصده الأصليّ هو القوت، وإن كان قادراً على شراء مثل ما يصطاده من السوق، والمراد العيال بالمعنى الأعمّ، فيشمل الضيوف. وليس من الضروريّ أن يكون مضطرّاً إليه. بل المهمّ أن يكون القوت هو مقصده الأصليّ.
والثالث: الصيد لأجل التجارة، لا اللّهو ولا التقوّت بنفس المصيد.
وقد استثنى الماتن ره القسمين الثاني والثالث ممّن لا يقصرون الصلاة في الصيد، وجعلهما منضويين تحت القاعدة العامّة في باب السفر.
والسؤال: أنّه فيما يرتبط بالتجارة، فهل يشمل ما لو لم يكن بحاجة إلى التجارة، كما لو كان قصده التوسعة؟ ثمّ هل عنوان التجارة له دخالة أصلاً في البحث، أم أنّ البحث يدور مدار العمومات من جهة، واللّهو من جهةٍ أُخرى، فكلّ ما لا يكون لهواً، سواء كان تجارةً، أم قوتاً، أم لمعونة الآخرين، فيجب فيه التقصير؟ فالعبرة بأنّ كلّ سفرٍ قاصدٍ ضمن الشروط المتقدّمة يقصّر صاحبه. جاءت روايات قيّدت وخصّصت تلك المطلقات والعمومات، فأخرجت منها ما يكون صيداً لهويّاً.
ثمّ هل المستثنى هو الصيد اللّهْويّ أم السفر اللّهْويّ، والصيد وإن تكثّرت فيه الروايات، لكنّه لأجل كثرة الابتلاء به؟
ثمّ هل مطلق اللّهو أم خصوص اللّهو المحرّم؟
ثمّ لو أريد خصوص الصيد، فهل في الأدلّة ما يدلّ على أنّ الصيد اللّهْويّ بخصوصه محرّم تعبّداً، وإن كان نفس الصيد لا يحرم؟
لا بدّ في الإجابة عن كلّ ذلك من المراجعة إلى الأدلّة.
***


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص437، ط ج.
[2] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص438، ط ج.