بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/28

بسم الله الرحمن الرحیم


انتهينا من البحث العلميّ في أصل الشرط الخامس.
وكان لا بدّ من إعادة قراءة هذا الشرط.
قوله: أن لا يكون السفر حراماً[1]،لدينا تحفّظ على هذا التعبير كما اتّضح؛ إذ ما دلّت عليه النصوص أعمّ من هذا، والمراد أيضاً أعمّ من هذا؛ إذ مقدّمة الحرام ليست حراماً، كما هو واضح، وهو سينبّه على هذا. فلو عُبّر بمثل: أن لا يكون السفر في سبيل الباطل، لكان أفضل؛ فإنّ كلّ حرام باطل، ولا عكس. أو بمثل: أن لا يكون السفر باطلاً، أو في الباطل، أو في سبيل الباطل.
قوله: كالفرار من الزحف، وإباق العبد. ليس المقصود أنّ نفس الحركة السيريّة في حدّ ذاتها تكون عنواناً للمعصية، بل هي ينطبق عليها عنوان من عناوين المعصية. اللّهمّ إلّا على بعض المباني كما في الحركة في الأرض المغصوبة، بل حتّى هذه، إنّما تكون حراماً بعنوان التصرّف في المغصوب. ولذلك، فالبحث هنا ليس عن العناوين الذاتيّة بالمعنى الفلسفيّ. وواضح أنّ الحركة الفراريّة انطباق عنوان الفرار من الزحف عليها هو المحرّم.
وكذا إباق العبد. إلّا أن يكون إباقاً للحفاظ على النفس. لكنّ نفس العنوان في حدّ ذاته عنوان محرّم بلا شكّ.
قوله: وسفر الزوجة بدون إذن الزوج. هذا هو المشهور. وفيه بحث، خلاصته: أنّه هل للزوج حقّ على الزوجة بهذا العرض العريض أم أنّ حقّه يقتصر على ما لا يتنافى مع حقوقه الشرعيّة، من حقّ الاستمتاع والتمكين؛ إذ هنا بحث، وهو أنّه بمعزل عن الأمور التي هي غير واجبة على الزوجة في الشريعة المقدّسة، فهل يوجد شيء اسمه وجوب استثناء الزوجة من الزوج، أو عدم جواز الخروج من المنزل من دون إذنه أم لا؟ فهل هذا بمجرّده من حقوق الزوج على الزوجة أم لا؟
لا شكّ في أنّه لا يوجد دليل لفظيّ تامّ سنداً ودلالةً يدلّ على هذا العرض العريض، وما وُجد من الروايات، فبعضه مدخول السند وبعضه مدخول الدلالة. وإنّما الكلام في دعوى الإجماع على ذلك، ولا شكّ في أنّ المشهور أفتوا بذلك، ولا شكّ في أنّ مقتضى الاحتياط هو ما أفتوا به، على أقلّ تقدير. إن لم نزعم بأنّ نفس إفتائهم يُعدّ عملاً بهذه الروايات فيكون جابراً لسندها.
ولكن في المقابل رأينا بعض المحقّقين، ومنهم السيّد الخوئي ره، يشكّك في أصل الحكم، ويحتاط في الفتوى احتياطاً وجوبيّاً، وإن جزم في البحث العلميّ بأنّه ليس للزوج حقّ على الزوجة بهذا المعنى إلّا ما ارتبط منه بحقوقه الأُخرى الثابتة بأدلّتها، كما لو كان خروجها من البيت يتنافى مع حقّ الاستمتاع، ولو بمعنى المعرضيّة للاستمتاع.
هذا. والسفر هنا لا خصوصيّة له، وإنّما الموضوعيّة لعدم كونها في البيت، والسفر إنّما يلازم ذلك.
قوله: في غير الواجب. واضح؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وحقّ الله قبل حقّكم.
قوله: وسفر الولد مع نهي الوالدين في غير الواجب. وهذه أيضاً نظير المسألة السابقة؛ إذ الواجب هو معاشرة الوالدين في الدنيا معروفاً، ولا يجوز العقوق قطعاً. لكن هذا يُثبت وجوب الطاعة بعرضها العريض. وإن أفتى المشهور بذلك. وليس واضحاً وجود الدليل فيما لو لم يكن مورد المأمور به أو المنهيّ عنه، فضلاً عن لزوم الاستئذان في بعض الأمور، كما في الخروج للجهاد الابتدائيّ، حيث أفتى كثير من الفقهاء بلزوم الاستئذان، لا فقط فيما لو نهيا. وهذا محلّ بحثٍ في محلّه.
وكيف كان، فبناءاً على ثبوت النهي في غير الواجب، كالزوجة، فلا بأس بالتمثيل، وإلّا، فهو محلّ تأمّل، إلّا حيث يكون النهي وكان تخلّف الولد عن المتعلّق ممّا يُؤذي الوالدين، فينطبق عليه عنوان العقوق.
ثمّ يوجد هنا بحث بحاجةٍ إلى تحقيق، وهو أنّ مطلق الإيذاء يكون عقوقاً، أم خصوص الإيذاء فيما ثبت لهما في رتبةٍ سابقة من الحقوق هو العقوق؟ فهل العقوق يدور مدار التخلّف عن الحقوق الثابتة لهما، أم أنّه يدور مدار الأذيّة لهما؟ ومثل هذا البحث يأتي في الزوج والزوجة أيضاً.
قوله: وكما إذا كان السفر مضرّاً لبدنه. ليس المقصود هو مطلق إيذاء البدن، أو مطلق الإضرار به؛ فإنّ هذا لا دليل على تحريمه. كما لو سفر في بردٍ قارس، فكان مظنّة أن يتسبّب برجفةٍ في اليد ـ مثلاً ـ قد تستمرّ معه إلى آخر عمره، ونحو ذلك، فما الدليل على تحريم مثل ذلك؟ فهذه العبارة على إطلاقها أيضاً محلّ تأمّل. نعم، إذا كان الضرر بالغاً، كما إذا كان جنايةً على عضوٍ من أعضائه، فهو حرام. بل يكفي خوف الضرر إذا كان الضرر من الضرر الذي لا يجوز.
قوله: أو كان غايته أمراً محرّماً. أي: نفس السفر بحدّ ذاته لم يكن علّة توليديّة للحرام.
والمقصود من المقدّمة للحرام ليس هو مطلق المقدّمة، ومطلق ما يتعقّبه الحرام، فتكون مقدّمةً له في الواقع، وإنّما المراد المقدّمة التي جُعل الحرام غايةً لها، أي: ما جُعل مقدّمةً في أفق نفس المسافر.

مسألة 27
* قال الماتن!: إذا كان السفر مستلزماً لترك واجب، كما إذا كان مديوناً وسافر مع مطالبة الديّان وإمكان الأداء في الحضر دون السفر ونحو ذلك، فهل يوجب التمام أم لا؟ الأقوى التفصيل بين ما إذا كان لأجل التوصّل إلى ترك الواجب أو لم يكن كذلك، ففي الأوّل يجب التمام، دون الثاني، لكنّ الأحوط الجمع في الثاني.[2]
قوله: ونحو ذلك، الكلام هو في أمرين وجوديّين، وليس في النقيضين، كما أنّه ليس في الضدّين اللّذين لا يمكن فرض ثالث لهما.
لا شكّ في أنّ الإتيان بأحد الضدّين لا يُعدّ مقدّمةً لترك الضدّ الآخر، وإن كان ترك الآخر ملازماً له. وهذا يُبحث عادةً في علم الأصول. والكلام هنا كما هو واضح في الضدّ الخاصّ، أي: الأمر الوجوديّ، وحينئذٍ: فالمحقَّق في محلّه أنّ كلّاً من الضدّين المسبوقين لا يوجد إلّا بعلّته، وهي الاختيار ومبادؤه، مع التمكّن من الإتيان به خارجاً. ولا شكّ في أنّ المرجّح للإتيان بأحد الضديّن بعد عدم إمكان الإتيان بهما معاً هو الاختيار ومبادئ الاختيار، ما دام كلّ واحدٍ منهما مقدوراً في حدّ نفسه. فالذي يقتضي الإتيان بكلّ واحدٍ من الضدّين هي مقدّمته، وهي الاختيار ومبادؤه. وكون حصول أحد الضدّين بالفعل الاختياريّ من المكلّف يلازم ترك الآخر لا يقتضي مقدّمة الترك للإتيان في الطرف المقابل كما هو واضح؛ إذ لا مقدّميّة بينهما، بل الرتبة بينهما واحدة.
وعلى هذا الأساس، فلا شكّ في أنّ البحث في المقام ليس من باب المقدّميّة؛ إذ لا يقول بها أحد تقريباً من محقّقي علم الأصول، ولا يقول بها الماتن ره قطعاً. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا مقدّميّة أحد الضدّين لترك الآخر، فإنّ مقدّمة الحرام ليست بحرام إلّا إذا كانت من قبيل العلل التوليديّة، كما هو واضح. وهنا ليس الأمر كذلك؛ إذ ترك أداء الدين قد يكون مع وجوده في البلد، ومن دون سفر، كما هو واضح.
وعلى هذا الأساس، فمن الواضح: أنّ الأمر ليس كذلك.
إنّما الكلام فيما فصّل به الماتن ره بين كون غايته من السفر هي ترك أداء الدين، وبين عدم كون غايته كذلك. كما لو كان ذاهلاً عن أداء الدين، فسافر، فجاء صاحب الدين، فلم يجدْه. أو سافر لغايةٍ محلّلة أصلاً، فلم يسأل عن الديّان. لا شكّ في أنّ من ليس غايته الفرار من الواجب فلا ينطبق عليه أيّ عنوانٍ يقتضي التقصير بلحاظ الشرط السابق؛ إذ ليس سفره في معصية، وهذا واضح، وليس سفراً في سبيل باطل. ومن الواضح: أنّ سفره في مثالنا هو في سبيل حقّ في حدّ نفسه.
وإنّما الكلام فيما لو كان سافر بقصد الفرار عن الأداء، فهنا، هل هذا السفر يصبح حراماً أم لا؟ أي: الفعل المقصود بالنيّة، وهذا له نظائر، كما أشرنا. فمن نظائره: أن يسافر إلى مكانٍ بقصد حقٍّ، لكنّه يعلم أنّ سفره إلى ذلك المكان سيكرهه على فعل الحرام، فهو لا يسافر لغاية الحرام، ولا يريد الحرام، ولا يقصد التوصّل إلى الحرام.
وهنا في المقام يوجد أمران، فتارةً تكون غايته هي الحرام، وقد يفعله وقد لا يفعله، فهل يصبح نفس العمل محرّماً أم لا، بل إنّما يوجد في المقام قبح فاعليّ؟ وأمّا القبح الفعليّ فإنّما يلزم لو فعل الغاية المحرّمة.
المعروف طبقاً للقواعد الصناعيّة، أنّه ما لم يقع القبيح فلا يوجد قبح فعليّ هنا، وأمّا القصد والنيّة فإنّ الله لا يعاقب عليهما. وهما غير محرّمين في نفسيهما، فلا يُثبتان حرمةً على فعلٍ مقرونٍ بهما.
لكن ذهب السيّد الخوئي ره بصراحة، وتوجد إشارات لهذا في كلام غيره، إلى أنّه لا بدّ من القول بحرمة هذه الأعمال التي نعلم بأنّها تنتهي بنا إلى الوقوع في الحرام، وإن لم تكن في نفسها حراماً، ولا مقدّمات توليديّة، أو الأفعال التي كانت غايتنا من فعلها هو الحرام، وإن لم يكن نفس الفعل ينطبق عليه عنوان محرّم.
وعمدة ما ذُكر في وجه ذلك: أنّ العقل يستقلّ بقبح الفعل الذي يُعلم أنّ عاقبته ذلك، وأنّ العقل يستقلّ بقبح الفعل الذي يُقرن بغايةٍ كذلك. ولازم كذلك: أنّه كذلك سواء تعقّبه ذلك أم لا؛ لأنّه إنّما جاء بالفعل بهذه الغاية. كفتح الدكّان بقصد الإضرار بالجار، فهو إنّما يتصرّف في دكّانه، وفي أمواله، ولا يوجد فيه تعدٍّ على حقوقه بشكلٍ مباشر، فيما يرتبط بالحقّ العينيّ والمادّيّ له، لكن فتح الدكّان فقط لأجل قصد الإضرار به، فنفس هذا الفعل عند السيّد الخوئي ره يستقلّ العقل بقبحه، وهو يفتي بهذا، وإن كان في بعض الأحيان احتاط احتياطاً وجوبيّاً فيه.
وعمدة دليله على هذا: أنّ العقل يستقلّ بقبح الفعل المقرون بهذه الغايات.
لكنّ هذا الكلام على إطلاقه محلّ تأمّل؛ إذ القصد في حدّ ذاته ليس محرّماً قطعاً، والفعل في حدّ نفسه من دون القصد ليس محرّماً، واقتران الفعل بهذا القصد، وإن كان مرجوحاً بلا شكّ، لكنّنا بحاجةٍ إلى دليلٍ يدلّ على حرمته. فمع عدم وجود الدليل فمن أين يستقلّ؟! فإن كان يُقصد من القبح مطلق المرجوحيّة فلا شكّ فيه، وهذا يكشف عن سوء سريرة، ولكن ليس كلّ سوء سريرة غير محرّمٍ في حدّ نفسه أُبرز بمبرِز فيكون هذا المبرِز محرّماً، بل لا بدّ من أن نبحث عن أنّ هذا المبرِز هل ينطبق عليه أنّه محرّم أم لا ينطبق عليه ذلك؟ (السيّد الخوئي ره لا يعبّر هنا بالمعصية، بل بأنّه قبيح عقلاً؛ لأنّ المعصية فرع وجود الأمر) ونقول: لا معنى للقول بوجود قبح عقليّ هنا إلّا بإرجاعه إلى مراعاة إرادة المولى وطاعة المولى، وإلّا، فلا يقبح تجاه المولى شيء عقلاً، إلّا إذا كان تركاً لطاعة، أو فعلاً لمعصية، كما هو واضح. وأمّا القبح بمعنى كونه مرجوحاً عقلاً، فمسلّم؛ إذ كلّ ما يتنافى مع القيم الأخلاقيّة العامّة فهو مرجوح عقلاً. فنحتاج إلى دليلٍ يدلّ على الحرمة ليستقبح العقل ذلك؛ فإنّ العقل لا يستقبح بمعنى حقوق المولويّة اللّازمة الإجراء إلّا إذا اكتشف أنّ المولى يحرّم هذا الشيء، فإن لم يعد هذا القبح العقليّ إلى دعوى حكم العقل العمليّ المستقلّ الذي هو بضمّ الملازمة يكشف عن حرمة هذا العمل، ومعه، فإنّما يكون معصيةً وليس شيئاً آخر. هذا في الشقّ الأوّل.
وفي الشقّ الثاني، هو يعلم بأنّه سيُكره على ذلك، أو سيُلجأ عليه، أو سيكون منه ذلك باختياره، فمن قال: إنّه يقبح عقلاً كلّ ذلك؟ نعم، هناك متعلّقات نعلم أنّ الشارع يبغضها ذاتاً وفي كلّ الظروف، وقد يكون منها هلاك النفس المحترمة، أو هتك الحرمات المقدّسة في الدين. فإذا علمْنا أنّ شيئاً يبغض الشارع أصل وجوده على كلّ حال، وكان هذا السفر يتسبّب بوجوده، فلا بأس. لكن إذا كان مطلق حرامٍ، فلا يُعلم أنّ العقل يستقلّ بتركه هنا.
لكن نسأل هنا: لماذا كلّ هذا البحث؟ فإنّ الداعي لهذا البحث هو عنونة هذا الشرط الخامس بشرط أن يكون سفر معصية، أو في معصية، مع أنّه ثبت في روايتين على الأقلّ أنّ السفر الذي لا يكون سبيل حقّ، أو يكون سبيل باطلٍ، لا يستدعي التقصير. وهي مرسلة ابن أبي عمير، وموثّقة عبيد بن زرارة. فينكشف بهذا أنّ كلّ مسيرٍ لا يصدق عليه أنّه مسير حقّ، أو يصدق عليه أنّه مسير باطل، ولو لم يكن حراماً في نفسه، فإنّه لا تقصر فيه الصلاة. ولا شكّ في أنّ من يسافر لغاية أن يفرّ من الدين، بحيث لا يكون له هدف آخر من السفر سوى ذلك، فلا شكّ في أنّ سفره هذا ينطبق عليه عنوان السفر الذي ليس في سبيل حقّ، بل في سبيل الباطل، وهو الفرار.
وعلى هذا الأساس، فالصحيح هو ما ذهب إليه الماتن ره من التفصيل، لكن بهذا التوجيه.
وأمّا الاحتياط في آخر المسألة، فإنّ الاحتياط حسن على كلّ حال.
لكنّنا لا نعرف له وجهاً. فهو احتياط استحبابيّ في أحسن الحالات، لكن لا داعي له؛ إذ لا يوجد تعارض أدلّة، ولا شهرة عظيمة في المقابل لكي نحتاط لأجلها، ولا غير ذلك. والأمر سهل، وخصوصاً أنّ الماتن ره جعله استحبابيّاً.


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص436، ط جماعة المدرسین.
[2] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص437، ط ج.