بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

المسألة 23:
* قال الماتن!: لو تردّد في الأثناء ثمّ عاد إلى الجزم، فإمّا أن يكون قبل قطع شيء من الطريق أو بعده. ففي الصورة الأُولى يبقى على القصر إذا كان ما بقي مسافة، ولو ملفّقة. وكذا إذا لم يكن مسافة في وجه. لكنّه مشكل، فلا يُترك الاحتياط بالجمع. وأمّا في الصورة الثانية، فإن كان ما بقي مسافة، ولو ملفّقة يقصّر أيضاً، وإلّا، فيبقى على التمام. نعم، لو كان ما قطعه حال الجزم أوّلاً مع ما بقي بعد العود إلى الجزم بعد إسقاط ما تخلّل بينهما ممّا قطعه حال التردّد مسافةً، ففي العود إلى التقصير وجه، لكنّه مشكل، فلا يُترك الاحتياط بالجمع.[1]
قوله ره: لو تردّد في الأثناء، أي: لو حصل له تردّد بما يخلّ بالمسافة المقصودة، لا شخصها، بل أصل المسافة. أي: تردّد في المسافة إلى اللّامسافة.
وما ذكره ره في الصورة الأُولى واضح، بل لا معنى لبقائه على القصر، على جميع الأقوال، حتّى لو قلنا بأنّ التردّد قد قطع ما قبله؛ فإنّ الباقي مسافة لوحده، فهذا سفر جديد. بل سواء قلنا بأنّ ما بقي كان استمراراً للسفر الأوّل أم كان إنشاءاً لسفرٍ جديد. فهذا غير داخل في محلّ البحث أساساً.
وكذا الحال فيما ذكره في الصورة الثانية إذا كان ما بقي مسافة.
قوله ره: وإلّا بقي على التمام، يريد: التمام الذي صار وظيفته عندما تردّد. فقد لا يكون هذا الشخص قد صلّى تماماً عندما تردّد، فمقصوده: أنّه يبقى على حكم التمام، أي: يبقى على الحكم الذي نفذ بالنسبة له عندما تردّد؛ فإنّه عندما تردّد زال السفر الأوّل، وصارت وظيفته الفعليّة هي التمام.
قوله: ففي العود إلى التقصير وجه... أي: فالحكم هو الحكم السابق. وإن كان هناك مجال ـ نظريّاً ـ للقول بالفرق.
ولا بدّ في بداية الأمر من إيقاع البحث في مباني المسألة. فنقول: في المسألة صور.
أمّا الصورة الأُولى، فهي ما لو كان الباقي بعد العود إلى العزم المتعقّب للتردّد مسافة، امتداديّة أو تلفيقيّة. فهذا لا بحث فيه؛ فإنّه سفر جديد على كلّ حال، سواء قلنا بكونه استتباعاً للسفر السابق أم إنشاءاً لسفر جديد، فهو على كلّ حال مسافة. نعم، يقع البحث حينئذٍ في أنّه متى تصبح وظيفته هي التقصير؟ فإنّه إن كان استمراراً للسفر السابق، فهو يقصّر مباشرةً. وإن كان سفراً جديداً، فيُقال: يجب عليه أن يبدأ به ويُنشئه فعلاً حتّى يقصّر؛ فإنّ حيث كان سفراً جديداً فهو لم يبدأ به بعد، وقصد السفر من دون إنشائه فعليّاً لا يستوجب التقصير. وإذا شرع فيه، فمتى يبدأ بالتقصير؟ لا تشمله أدلّة التقصير عند بلوغ حدّ الترخّص؛ لأنّ هذه الأدلّة ناظرة للذي يكون في وطنه، لكنّ هذا حيث لم يكن في وطنه أصلاً، فإنّ نفس صدق السفر عليه يكفي، فبمجرّد التحرّك يكفي.
المهمّ في المقام أنّ هذين الأمرين، أعني: إنشاء السفر، وكونه يبدأ بالتقصير بمجرّد إنشائه، يرتبطان بالقول بأنّ ما بعد التردّد يُعدّ سفراً جديداً.
فلم يكن ينبغي ما توهمه عبارة تقرير السيّد الخوئي ره من أنّ هذا كأنّه مسلّم، ولم يربطه ره بمبناه الذي ذكره في الصورتين الثانية والثالثة، مع أنّ القول بلزوم البدء بالمسير حتّى يقصّر، وعدم لزوم تجاوز حدّ الترخّص، هذا إنّما يُفتح البحث فيه بناءاً على أنّ المتبقّي بعد التردّد هو مسافة جديدة. وأمّا لو بنينا على أنّه نفس السفر الأوّل، فحينئذٍ: لا شكّ في أنّه لا يتأتّى البحث في هذا؛ لأنّه يكون استكمالاً لنفس السفر، وقد توقّف العمل به في فترة التردّد، وعاد العمل به هو نفسه بعد التردّد؛ إذ هو لا يزال مسافراً.
لكن على فتوى الماتن ره، حيث إنّه احتاط في الفرضين الثاني والثالث، فيمن تردّد وعاد إلى متابعة السفر ولم يكن الباقي مسافة، أو قطع بينهما حال التردّد مقداراً لكن لم يكن الباقي مسافة. فحينئذٍ: لاحتياطه هنا، فهو مردَّد بين كونه سفراً جديداً أو السفر الأوّل، فيصحّ حينئذٍ ما علّقه السيّد الخوئي ره.
وأمّا من جزم بأنّه نفس السفر الأوّل، كمعظم المحقّقين ره الذين تعرّضوا للبحث، قبل العروة وبعدها، كصاحب الجواهر ره، فلا يتأتّى ما علّقه السيّد الخوئي ره. إذاً، فهو لا يتأتّى بناءاً على جميع المباني.
المهمّ في المقام هو تنقيح أصل البحث، فنقول:
لدينا عمومات فوقانيّة دلّت على أنّ المسافر يقصر من الصلاة، ولدينا أدلّة أخصّ منها حدّدت المسافة بأن تكون ثمانية فراسخ أو أربعة ملفّقة، ولدينا دليل يدلّ على لزوم القصد، بحيث لو استرسل غير قاصد لا يقصّر. ولو كنّا نحن ودليل القصد، فهو لا يدلّ إلّا على كون أصل السفر منشأً عن قصد ـ بنحو الحيثيّة التعليليّة ـ. ولو كنّا نحن والعمومات الباقية، فيكفي أن يصدق عليه أنّه مسافر، وأن يقطع المسافة فعليّاً، سواء تردّد أم لا، ما دام قد قصد مسافةً منذ البداية.
ولدينا دليل رابع مزعوم في المقام، وهو ما دلّ على لزوم استمرار القصد، وهو محلّ بحثنا هنا.
وقد اتّضح أنّه توجد بعض الروايات التي ناقشنا في دلالتها على هذا الشرط.
فحينئذٍ نقول: ليس لدينا دليل لفظيّ على لزوم استمرار القصد. ونحن لم نأخذ بالإجماعات؛ لما ذكرناه من أنّها ليست تعبّديّة. فعندنا أنّ استمرار القصد ليس شرطاً، بل يكفي عندنا استمرار السفر عرفاً، أي: يكفي أن يكون التردّد لا يضرّ بتسميته سفراً واحداً، وأمّا إذا لم يبقَ سفراً واحداً فلا تشمله عمومات السفر الظاهرة في الانحلال لكلّ سفرٍ سفرٍ. هذا هو السياق الصحيح للبحث.
لكن، تنزّلاً نقول: لنفترض أنّنا آمنّا بشرطيّة استمرار القصد، وهو نقطة الاشتراك بين المحقّقين المختلفين هنا في الفتوى، أي: بين من جزم بضمّ ما مضى إلى ما بقي مطلقاً في الفرضين، وبين من جزم بعدم ضمّ ما مضى إلى ما بقي مطلقاً في الفرضين، وبين من احتاط، كالماتن ره، وبين من فصّل بين الفرض الأوّل والثاني، كما هو البحث العلميّ للمحقّق النائيني ره في كتاب صلاته؛ فإنّ هذه الأقوال جميعاً تدور مدار القول بشرطيّة استمرار القصد، فإذا أنكرناه، فلا داعي للبحث أصلاً، بل حتّى المسافة المتخلّلة حال التردّد ندخلها في المسافة حينئذٍ؛ لأنّه لم يعد لدينا حينئذٍ إلّا شرط القصد حين ابتداء السفر، وتنطبق عليه العمومات؛ فإنّه يصدق عليه أنّه مسافر.
وإذا لم ننكره، فلا شكّ في أنّ عنوان ومفهوم استمرار القصد لم يرد في آيةٍ ولا رواية، بل استُنبط من الأدلّة المزعومة، وهي صحيحة أبي ولّاد، ورواية إسحاق بن عمّار، ورواية المروزيّ، وتقدّم الكلام في دلالة جميع هذه الروايات. والسيّد الخوئي ره حصر الدلالة في المقام برواية عمّار، التي هي غير دالّةٍ أصلاً، على أصل القصد، فضلاً عن الاستمرار. ولذلك لم يزجّ بها أحد من المحقّقين في شرطيّة استمرار القصد، وإن كان بعضهم استدلّ بها على أصل القصد.
وبالجملة: فلا شكّ بناءاً على عدم إنكاره في أنّ عنوان ومفهوم استمرار القصد لم يرد في آيةٍ ولا رواية، بل استُنبط من هذه الأدلّة والروايات.
وهذه الروايات ـ بناءاً على دلالتها على استمرار القصد ـ لا شكّ في أنّها ليست ظاهرة في أكثر من كون السفر سفراً واحداً، وأنّ المسافة التي يسيرها الإنسان يجب أن تكون مسافة مقصودة، ولا دلالة لها على أكثر من ذلك.
وحينئذٍ: فتكون النتيجة هي السؤال بأنّ من تردّد ولم يقطع مسافة، بل بقي مكانه، ثمّ عاد إلى الجزم، فهذا صحيح أنّ وظيفته حين التردّد، بناءاً على شرطيّة استمرار القصد، هي التمام، لا القصر. لكن بعد أن عاد إلى الجزم، فهل يصدق عليه فعلاً أنّه مسافر أم لا؟
لا شكّ في أنّه يصدق عليه أنّه مسافر.
سؤال ثانٍ: هل هذا السفر بنظر العرف يكون سفراً جديداً، أم هو نفس السفر الأوّل؟ (العرف لا ينظر إلى النوايا، بل إلى السفر الواقعيّ المحسوس).
ولا شكّ في أنّ العرف لا يراه إلّا مسافراً نفس السفر الأوّل.
فعنوان استمرار القصد هنا، بالمعنى الدقيق العقليّ، غير موجود، بل تخلّل فيه تردّد. لكنّنا قلنا: إنّ هذا العنوان لم يرد لا في آية ولا في رواية، فحينئذٍ: لا بدّ من الرجوع إلى الدليل ليُرى مقدار دلالته على هذا الذي سمّاه الفقهاء استمرار القصد.
فالمدّعى أنّ الدليل لا يدلّ على أكثر من أن يكون السفر سفراً واحداً، وأن يكون بالفعل هو قاصداً للسفر. وهو قد كان قاصداً إلى أن بلغ رأس الثلاثة فراسخ، ثمّ تردّد في مكانه، ثمّ قرّر بعد ذلك أن يستمرّ، فاستمرّ. فهذا لا يزال سفره هو السفر نفسه، وقد قطع الثلاثة فراسخ بقصد، وقطع البقيّة بقصد، وإن كان له قصد أوّل، وهذا قصد ثانٍ، لكنّ كلا القصدين متعلَّقه ذات السفر الواحد، لا سفران.
ومن هنا، فالقائل بأنّ التردّد في الوسط يضرّ، هذا كأنّه قائل بأنّ القصد السابق في الثلاثة فراسخ الأُولى، مشروط لكي يكون موجباً للتقصير بأن لا يحصل تردّد بعده. والقصد الثاني بعد التردّد مشروط لكي ينفع (إذ المفروض أنّ الباقي لم يكن مسافة) بأن لا يكون قد حصل قبله تردّد. لا معنى للقول بإضرار التردّد في الوسط إلّا هذا.
والجواب حينئذٍ: أنّ القصد السابق مع القصد اللّاحق، ما داما قصدين في سفرٍ واحد، فكونهما مشروطين بحاجة إلى دليل، وليس هناك دليل من هذا القبيل.
والغريب في المقام نقض السيّد الخوئي ره بمن كان مسافراً وقطع ثلاثة فراسخ ـ مثلاً ـ ثمّ نوى إقامة عشرة أيّام في مكانٍ على رأس الثلاثة، ثمّ أراد بعد ذلك أن يكمل سفره، فهذا لم ينتفِ السفر بالنسبة إليه موضوعاً؛ إذ هو لم يمرّ على وطنه، وإن انتفى عنه السفر حكماً؛ لأنّ نيّة الإقامة قاطع تعبّديّ. فيقول السيّد الخوئي ره: فهذا يتمّ أثناء الإقامة، بلا شكّ، ولكن لو أراد أن يُتمّ المسافة بعد إقامة الأيّام العشرة، فهل هناك فقيه يقول بأنّنا يمكننا أن نضمّ الثلاثة فراسخ السابقة إلى الخمسة الجديدة؟! مع أنّ هذا أيضاً لا يزال مسافراً، وإنّما تعبّده الشارع حكماً بأن يصلّي تماماً في خلال العشرة أيّام. لا يقول أحد بذلك، بل يقولون بلزوم المسافة الجديدة. ففي حال التردّد الأمر كذلك. وهذا أدلّ دليل على أنّه في ارتكاز الفقهاء، ما بعد ما تقدّم من المسافة هو مسافة جديدة.
لكنّ هذا كما ترى؛ إذ الكلام هنا في أنّ الشارع قد حكم بقطع السفر بنيّة الإقامة عشرة أيّام، فهذا السفر لم ينقطع عرفاً، وإنّما حَكَم الشارع بقطعه تعبّداً، وبعد حكمه بقطعه، فحينئذٍ: ممّا لا شكّ فيه أنّه لا بدّ وأن يُنشئ سفراً جديداً بعد إقامة العشرة أيّام. وهذا هو الذي فرّق بين التردّد وبين عشرة أيّام منويّة. إلّا أن يُقال: إنّ الذي يقيم في مكانٍ عشرة أيّام لا يُسمّى ما بعده عرفاً تتمّةً للسفر السابق، بل يُسمّى سفراً جديداً. فإذا جزمنا بهذا، أو شككنا، فلا فرق بين الفرضين حينئذٍ، سواء بقي متردّداً عشرة أيّام أم نوى الإقامة عشرة؛ لأنّنا اشترطنا من الأساس أن يكون ما بعد التردّد يصدق عليه عرفاً أنّه نفس السفر الأوّل. وهذا بحث ثانٍ صغرويّ. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ السيّد الخوئي ره إمّا أن يكون ناظراً لمن قطع مسافة وأقام عشرة أيّام، أو لمن لم يقطع مسافة وأقام عشرة أيّام. فإن كان ناظراً إلى الأوّل، فهذا خارج عن محلّ بحثنا أصلاً؛ فإنّ هذا حينئذٍ كان قاطعاً لمسافة قبل ذلك، فكانت وظيفته القصر واقعاً وظاهراً، ثمّ صارت وظيفته بالتعبّد هي التمام. وإن كان ناظراً إلى الثاني، فإنّ تعبّد الشارع له بالصلاة تماماً عند نيّة إقامة العشرة يكشف عن كونه من الأساس لم يكن مشمولاً لأدلّة التقصير، حتّى فيما مضى؛ لأنّ هذا لم يُنشئ سفراً؛ لأنّ نفس أدلّة أنّ من يقيم في مكانٍ عشرة أيّام ينقطع سفره تضيف شرطاً إلى شرائط التقصير في الحقيقة، وهي أن لا يقيم في أثناء قطع المسافة عشرة أيّام. فحينئذٍ: في المكان الذي أقام فيه عشرة أيّام، وفي الثلاثة فراسخ الماضية، ينكشف أنّ وظيفته الواقعيّة كانت أيضاً هي التمام في الثلاثة فراسخ الماضية؛ لأنّ معنى شرطيّة استمرار القصد ـ على القول بها ـ أنّ عدم استمرار القصد قبل بلوغ المسافة يكشف عن أنّه من الأوّل لم يكن سفراً شرعيّاً يستوجب التقصير، لا أنّ وظيفته الواقعيّة تبدّلت، وكانت قصراً ثمّ صارت تماماً، بل هو يكشف عن أنّ وظيفته الواقعيّة لم تكن من الأوّل هي التمام.
هذا كلّه فيما يرتبط بأصل مباني المسألة.
بعد ذلك، لا بدّ من الحديث في بعض فروع المسألة.
فهل يوجد فرق بين الصورتين أم لا؟
وهل يُضمّ ما مشاه متردّداً، بحجّة أنّه سفر وحدانيّ، إلى ما مضى، أم لا؟
***


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص431، ط ج.