بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الشرط الثاني من شرائط التقصير.
وتقدّم أنّه ـ نظريّاً ـ يمكن أن يكون شرط قصد قطع المسافة هو الموضوع التامّ، ما دام القصد قائماً. نظير نيّة إقامة عشرة أيّام، فسواء أقامها بعد ذلك أم لا، فإنّ الآثار ـ من حيث التكليف الفعليّ ـ تترتّب على النيّة والقصد الفعليّ. وعليه: فلا يكون قد فاته شيء من الواقع حينئذٍ فيما لو ظهر له بعد ذلك العكس؛ لأنّ واقع تكليفه موضوعه هو القصد.
الاحتمال الثاني: أن يكون مبنيّاً على قطع المسافة، إمّا بنحو الشرط المقارن أو المتأخّر، بمعنى: أنّه لا يقصّر إلّا بعد قطع المسافة. وأمّا كونه من قبيل الشرط المتأخّر، فهو بمعنى: أنّه يقصّر ولكن بشرط أن يقطع المسافة بعده، فإذا ظهر لسبب من الأسباب أنّه لن يقطع هذه المسافة، كما لو رجع عن قصده، أو منعه مانع، ينكشف أنّ ما صلّاه قصراً لم يكن هو الوظيفة، وأنّ وظيفته كانت هي التمام.
الاحتمال الثالث: أن يكون المركّب منهما، أي: القصد مع قطع المسافة، ولو بنحو الشرط المتأخّر (نقيّد بالشرط المتأخّر؛ لأنّه من المسلّم في محلّه جواز التقصير عند الوصول إلى حدّ الترخّص.
كان البحث في هذا الأمر.
وذهب المحقّقون، بل ادُّعيت الإجماعات في هذه المسألة على أنّ قصد المسافة مع الوصول إلى حدّ الترخّص بشرط الإكمال بعد ذلك هو الموضوع لوجوب التقصير واقعاً، ولم يحصل خلاف في هذه المسألة إلّا في الجزء الأخير. حيث وقع كلام في لزوم أو عدم لزوم الإعادة فيمن بلغ حدّ الترخّص وصلّى قصراً ثمّ عدل عن نيّته، أو منعه مانع عن الإكمال.
لكنّ الكلام كلّ الكلام ـ كما لعلّنا قدّمناه ـ في إتمام هذا الذي اشتهر، بل تُسولم عليه تقريباً، وطفحت الكلمات بدعاوى الإجماع ونفي الخلاف عنه بالدليل الاجتهاديّ.
وكنّا بصدد استعراض الروايات.
وقد استعرضنا موثّقة عمّار. وتقدّم الكلام فيها.
وأمّا رواية صفوان، فقد تقدّمت أيضاً، وهي الرواية الأُولى، فيمن ذهب إلى النهروان مسترسلاً. وهي واضحة، لكنّ مشكلتها تكمن في السند بين إبراهيم بن هاشم وصفوان؛ فإنّها مرسلة قبل صفوان. وهذا لا مصحّح له.
الرواية الثالثة، وهي صحيحة زرارة، والتي قد يُدّعى في نتيجتها أنّ العبرة بالقصد، ولا يلزم قطع المسافة.
وهي الرواية الواردة في الباب 23 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1، وهي:
محمّد بن عليّ بن الحسين، بإسناده عن زرارة، قال: سألْتُ أبا جعفرٍ ع [وفي بعض النسخ في التهذيب والاستبصار، الموجود: سألْتُ أبا عبد الله ع] عن الرجل يخرج مع القوم في السفر يريده، فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين، فصلّوا وانصرف بعضهم في حاجة، فلم يُقْضَ له الخروج، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال: تمّت صلاته ولا يُعيد.[1]
سند الشيخ الصدوق ره إل ى زرارة صحيح ولا شكّ فيه، وقد تعرّضنا له قريباً.
وهي تدلّ على أنّ الإنسان إذا قصد قطع المسافة، ووصل إلى حدّ الترخّص (الرواية تحدّثت عن فرسخين، وهناك روايات تحدّثت عن حدّ الترخّص)، فوظيفته الفعليّة هي القصر.
وهذا يلتقي مع كون قطع بقيّة المسافة شرطاً متأخّراً، وإلّا أعاد صلاته. ويلتقي مع عدم كون قطع بقيّة المسافة شرطاً متأخّراً، فلا يعيد صلاته.
على الأوّل، يكون القصد مع قطع المسافة. وظيفته تبدأ قبل أن يقطعها، لكنّ قطْعها شرط واقعاً للتكليف، فينكشف أنّه واقعاً لم يكن مكلَّفاً بالقصر، فيعيد.
وعلى الثاني، لا يكون قطع المسافة تكويناً دخيلاً في الحكم، بل يكفي أن يكون قاصداً قطعها؛ إذ ما معنى: (لا يُعيد) حينئذٍ، لو كان التكليف الواقعيّ بالصلاة يدور مدار قطعها، لا مجرّد قصدها؟
ولا ينبغي أن يُقال: إنّه حتّى لو قيل: (لا يُعيد)، فإنّ عدم الإعادة قد لا تكون مبنيّة على أنّه تكليفه الواقعيّ، بل قد يكون للإجزاء في الوقت؛ إذ يُبحث في الإجزاء خارج الوقت. وهناك اختلاف بين المحقّقين في الإجزاء خارج الوقت. كما لو بقي في المكان إلى أن انتهى الوقت، ولم تأتِ الرفقة، فقرّر عندها الرجوع. فإنّ جماعةً من المحقّقين ذهبوا إلى الإجزاء في خارج الوقت عملاً بصحيحة العيص بن قاسم، التي تقدّمت معنا، والتي قلنا إنّه سيأتي البحث فيها تفصيلاً في أحكام صلاة المسافر. وبنى عليها وأفتى بمضمونها جملة من المحقّقين، ومنهم السيّد الخوئي ره.
لا يُقال هذا الكلام لأنّه خلاف ظاهر الرواية هنا؛ فإنّ (لا يُعيد) ظاهر في أنّه عمل بوظيفته الواقعيّة، وخلاف ظاهر صحيحة العيص أيضاً هناك؛ إذ التفصيل بين الوقت وخارج الوقت واضح في أنّه لا يُقال بالإجزاء في الوقت.
وعليه: فظاهر الرواية الاكتفاء بالقصد حينئذٍ. فإذا اكتُفي بالقصد، فيكون نظير نيّة إقامة عشرة أيّام. وإذا دلّ الدليل على هذا المعنى فلا بأس.
لكنّ هذه الصحيحة معارَضة بصحيحة أُخرى موجودة، وهي صحيحة أبي ولّاد الحنّاط، في الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1، وهي:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد، قال: قلْتُ لأبي عبد الله ع: إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينةٍ إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحوٍ من عشرين فرسخا في الماء، فسرْتُ يومي ذلك أقصّر الصلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدْرِ أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: إن كنْتَ سرْتَ في يومك الذي خرجْتَ فيه بريداً فكان عليك حين رجعْتَ أن تصلّي بالتقصير؛ لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك، قال: وإن كنتَ لم تسِرْ في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام (من قبل أن تؤمّ) من مكانك ذلك؛ لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصّرت، وعليك إذا رجعت أن تُتمّ الصلاة حتى تصير إلى منزلك.[2]
أمّا السند:
فسند الشيخ الطوسيّ ره إلى أحمد بن محمّد سند صحيح لا شكّ فيه.
وأحمد بن محمّد هنا الظاهر أنّه الأشعريّ، بقرينة روايته عن الحسن بن محبوب؛ فإنّه هو الذي يروي عنه.
والحسن بن محبوب من مشيخة الطائفة وأجلّائها.
وأبو ولّاد هو الحنّاط، وهو إماميّ ثقة بلا شكّ.
فالرواية صحيحة السند.
الرواية على إطلاقها تشمل ما لو كان الباقي مع الرجوع ثمانية فراسخ. ولكن لن يكون الذهاب أربعة. وهذه تصلح مؤيّداً للذين رفضوا مقالة صاحب العروة ره وجماعة من الاكتفاء بمطلق التلفيق.
والرواية واضحة في أنّ عليه أن يُعيد ما صلّاه لأنّه عدل عن قصده، فالقصد وحده لا يكفي.
فإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فيما تعارضتا فيه، كما هو واضح.
لكن لم تتعارض الروايتان في نقطةٍ مهمّة؛ إذ من الواضح بعد التساقط أنّ الإنسان القاصد للمسافة يجوز له التقصير بمجرّد قصده وخروجه إلى حدّ الترخّص (كما هو ثابت في روايات أُخرى، وذكر الفرسخين هنا في هذه الرواية لم يكن على سبيل الشرطيّة من الإمام ع، بل إنّما ورد في كلام السائل)، فتصبح النتيجة: أنّ من خرج قاصداً للسفر، فإنّه يقصّر ولو لم يكن قد قطع المسافة بعد. فإذا عاد عن نيّته، فهل تجب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه؟
إن عُدمنا الدليل الخاصّ، واستحكم التعارض، فنعم، تجب الإعادة؛ إذ ينكشف بذلك أنّه لم يسافر السفر الشرعيّ، وإنّما قصده قصداً.
هذا. ولكنّ السيّد الأصفهانيّ ره، صاحب الوسيلة، (له تقرير مختصر لصلاة المسافر)، وربما جرى هذا الكلام في كلمات غيره، بعد أن لم يجدوا دليلاً واضحاً، استدلّوا على أنّ قصد قطع المسافة مع كون المسافة شرطاً بعد ذلك، هو المطلوب، لا مجرّد قطع المسافة، ولا مجرّد القصد، أنّ من بلغ حدّ الترخّص في الروايات فعليه التقصير، يكشف عن كون السفر القاصد، لا مطلق قطع المسافة، هو الذي يستدعي التقصير. وأنّ قطع المسافة وحده، من دون قصده، لا يكفي؛ إذ لا معنى لمن لم يكن قاصداً سفراً أن يبدأ بالتقصير عندما يبلغ حدّ الترخّص، فهذا يكشف عن أنّ السفر مع القصد هو الذي يستدعي التقصير.
وهذا الوجه تكرّر في بعض الكلمات. لكنّ الظاهر عدم تماميّته.
والسرّ في ذلك: أنّنا تارةً نريد أن نبحث في أنّه متى يجوز للمسافر أن يقصّر، وهنا يُجاب: إنّ لدينا أدلّةً تدلّ على أنّ المسافر الذي يعرف كونه مسافراً إذا بلغ حدّ الترخّص بدأ بالتقصير. وأُخرى نريد أن نسأل: أنّ قاطع المسافة من دون قصد هل يقصّر أم لا يقصّر عندما قطع المسافة وانتهى منها؟ فهنا لا يصحّ أن نقول: إنّه لا بدّ من القصد؛ لأنّ الروايات دلّت على أنّ من بلغ حدّ الترخّص يبدأ بالتقصير؛ إذ من حقّ أحدٍ أن يُجيب: إنّ الإنسان إذا كان قاصداً للسفر وبلغ حدّ الترخّص فيبدأ بالتقصير، لكنّ هذا لا يُلغي فرضاً آخر ثبوتاً، وهو أن يسافر الإنسان ثمانية فراسخ ويقصّر على رأس الحدّ، ولو لم يكن قاصداً من البداية للثمانية فراسخ. فإنّ أدلّة التقصير عند بلوغ حدّ الترخّص ليس فيها عموم وشمول بحيث يُقال: إنّ من لا يقصّر عند حدّ الترخّص لن يقصّر أبداً، وإنّما لدينا ما يُثبت حقّ المكلّف (عزيمةً لا رخصةً) في أن يقصّر إذا بلغ حدّ الترخّص. وهذا يستلزم أن يكون قاصداً للسفر. ومن الطبيعيّ جدّاً، أنّ من لا يكون قاصداً للسفر، فلا معنى بالنسبة إليه لأن يقصّر عند حدّ الترخّص. لكن ألا يمكن استئناف بحثٍ، وهو أنّ إنساناً سافر بالفعل ثمانية فراسخ، فهو مشمول لعمومات الثمانية فراسخ، فهل يقصّر بعد بلوغ الثمانية؟ فهذا لا يُقال له: لا يمكن لك التقصير لأنّك لست مشمولاً للأدلّة التي قالت عليك أن تقصّر إذا بلغْتَ حدّ الترخّص؛ إذ عدم شموله لقانون يقتضي التقصير عند بلوغ حدّ الترخّص لا ينافي شموله لقانون آخر، ولو كان هو العمل بعمومات المسافة، ليقصّر عند بلوغه الثمانية فراسخ.
اللّهمّ إلّا أن يُدّعى: أنّ ظاهر هذه الأدلّة التي وردت بصيغة (متى يقصّر المسافر؟) أنّ مطلق المسافر الذي عليه التقصير في سفره يقصّر إذا بلغ حدّ الترخّص. ما ينفي حينئذٍ أن يكون على المسافر الذي لا يقصّر عند بلوغ حدّ الترخّص، مهما قطع من مسافة، أن يكون عليه تقصير.
لكنّ هذا أوّل الكلام. بل ظاهر الروايات مبنيّ على الأعمّ الأغلب. وغالب الناس عندما يخرجون من بلدانهم فإنّما يخرجون قاصدين للسفر إلى مكانٍ محدّد. وغالب الأسفار هي أسفار قاصدة، لا أسفار ضائعة المقصد؛ فإنّ هذه قليلة نسبيّاً، إن لم نقل بأنّها نادرة بالنسبة إلى تلك. وعليه: فإنّ روايات التقصير إذا بلغ حدّ الترخّص تُحمل على المتعارف.
فالآن، بتنا في مكانٍ لا نملك فيه دليلاً اجتهاديّاً واضحاً على أنّ من لا يقصد السفر من البداية لا يقصّر. كلّ ما لدينا ـ من الروايات الواضحة ـ هو رواية صفوان، وهي مرسلة قبل صفوان كما أشرنا.
هذا. ولكن لا شكّ ولا ريب في أنّ هذه الفتوى ممّا لا خلاف عليه بين المحقّقين، ولم نرَ من خالف فيها. بل سيأتي أنّ الاستمرار على قصد قطع المسافة شرط عند كلّ المحقّقين والمفتين. فإمّا أن نؤمن بأنّ هذه المسألة العامّة البلوى هو فوق النصوص، وإجماع تعبّديّ، فيكون حجّةً من باب الإجماع. وإمّا أن نؤمن بأنّ هذه الشهرة شهرة فتوائيّة ـ ونحن آمنّا في علم الأصول بحجّيّة الشهرة الفتوائيّة في أصول المسائل، لا في التفريعات الاجتهاديّة؛ لأنّها دائماً تكشف لنا عن شهرة عمليّة بنصٍّ من النصوص، سواء وصل إلينا في كتب الرواية أم لم يصل ـ. وإمّا هي شهرة عمليّة لرواية صفوان، فيعطيها اعتباراً.
وعلى كلّ تقدير، فلا ينبغي التشكيك في أصل شرطيّة قصد قطع المسافة في التقصير.
لكنّ المسألة ظهر أنّها ليست بالوضوح الذي تعاطى معه المحقّقون المعاصرون ومن قارب العصر من شرّاح العروة.
هذا تمام الكلام في أصل قصد قطع المسافة.
بعد هذا هناك سطور للماتن ره، لكن ليس فيها أيّ جديد. قال فيها: إنّ من لا يكون قاصداً لقطع المسافة، فإن قصد من حيث هو، وبلغ ذهابه مع رجوعه ثمانية فراسخ قصّر مطلقاً.
وهذا منه مبنيّ على الاكتفاء بمطلق التلفيق. ويُعلَّق عليه من كلٍّ بحسب مختاره في تلك المسألة. كما هو واضح.
هذا تمام الكلام في أصل الشرط الثاني.
***


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص522، أبواب صلاة المسافر، باب23، ح1، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص469، أبواب صلاة المسافر، باب5، ح1، ط آل البیت.