بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/05

بسم الله الرحمن الرحیم

7) الرواية السابعة: وبإسناده عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد الله بن بكير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القادسيّة أخرج إليها أُتمّ الصلاة أم أقصّر؟ قال: وكم هي؟ قلت: هي التي رأيت، قال: قصّر.[1]
أي: إسناد الشيخ الطوسيّ & إلى أحمد بن محمّد، وهو أحد الأحمدين، إمّا الأشعريّ أو البرقيّ.
السند واضح كونه معتبراً. ولا كلام في عبد الله بن بكير من جهة وثاقته في الحديث، وإنّما الكلام في مذهبه، وأنّه فطحيّ أو لا. بل هو أحد أصحاب الإجماع.
القادسيّة بلد يبتعد عن الكوفة 15 فرسخاً على ما قيل. الكلام هنا ليس في تحديد مسافة السفر حتّى يُقال من لم يبلغ مستوى القادسيّة لا يقصّر.
ويُحتمل هنا أنّ السائل لم يكن يعرف مسافة السفر، على مستوى الشبهة الحكميّة. والقول بأنّ السائل هو من الأجلّاء محلّ تأمّل؛ إذ من قال إنّه حين سؤاله هذا للإمام الصادق عليه السلام كان من الأجلّاء، ربما صار لاحقاً من الأجلّاء في الرواية.
وربما كان لا يعرف المسافة على مستوى الشبهة الموضوعيّة، وإن كان يعرفها على مستوى الشبهة الحكميّة، فسأل الإمام عليه السلام العارف بهذه المناطق.
والظاهر: أنّ الإمام الصادق عليه السلام لم تكن له زيارات متكرّرة إلى تلك المناطق. الرحلة الوحيدة المعروفة له عليه السلام إلى الكوفة والنجف هي الرحلة التي أظهر فيها قبر أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن كان قد عُفّي ما يقرب من 100 عام. وقد لا يكون قول عبد الله بن بكير (هي التي رأيت) ناظراً إلى سفرٍ حصل له الآن مع الإمام عليه السلام؛ إذ لم يُشَر في شيءٍ من الآثار إلى أنّ عبد الله بن بكير كان مع الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرحلة. فيُحتمل أن يكون المراد (التي رأيت في سفرك الآنف). وهذا لا يؤثّر على كلّ حال في فهم الرواية.
الذي يهمّنا هنا أنّه لا ينبغي أن يُتوهّم أنّ هذه الرواية تفيد أنّ مسافة السفر 15 فرسخاً؛ ذلك أنّ الإمام عليه السلام ليس في مقام تحديد المسافة أصلاً، بل هو في مقام جواب سؤال السائل في أنّه إذا خرج من الكوفة إلى القادسيّة فهل عليه أن يقصّر أم لا؟
كما أنّ احتمال الشبهة الموضوعيّة أيضاً لا نستوجهه كثيراً، فقد يكون الشبهة عند السائل في ذلك الوقت حكميّة. والله العالم.
فقول الإمام عليه السلام: (قصّر)، أي: أنّ حكمك التقصير، وأمّا أنّه ما هو حكم من قطع ما دون هذه المسافة، كنصفها ـ مثلاً ـ؟ لا إشارة في الرواية إلى ذلك؛ لأنّها أجنبيّة عن تحديد المسافة مطلقاً، إلّا من جهة أنّ مسافة التقصير ليست أكثر من 15 فرسخاً، وهذا من بديهيّات الفقه إبّان ذلك.
لكنّ الملفت للنظر أنّ الشيخ الطوسيّ & عدّ هذه الرواية في ضمن الروايات التي أفادت أنّ المسافة أربعة فراسخ، وهي الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث. مع أنّ القادسيّة بعيدة عن الكوفة 15 فرسخاً، لا أربعة فراسخ، وليس في الرواية أيّة إشارة إلى المحلّ الذي سأل عبد الله بن بكير فيه الإمام الصادق عليه السلام، ولا المحلّ الذي يخرج منه، فلا ندري ما هو السبب في عدّ الشيخ الطوسيّ & إيّاها في ضمن روايات الأربعة فراسخ. إلّا أنّ يكون الشيخ الطوسيّ & عارفاً بالمكان الذي يقصده عبد الله بن بكير! مع أنّ عبد الله بن بكير كان كوفيّاً برهةً من الزمن، فظاهر السؤال ابتداءاً أنّه يخرج من بلده أو مقرّه إلى القادسيّة، فإذا كانت القادسيّة بعيدة جغرافيّاً 15 فرسخاً، فهي قريبة من ضعف المسافة الامتداديّة أصلاً، فما هو السبب في عدّها في ضمن روايات الأربعة فراسخ؟
عموماً، فالرواية أجنبيّة عن محلّ بحثنا.
8) الرواية الثامنة:
وبإسناده عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن رجل،  عن صفوان، عن الرضا عليه السلام ـ في حديثٍ ـ أنّه سأله عن رجل خرج من بغداد فبلغ النهروان، وهي أربعة فراسخ من بغداد، قال: لو أنّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً لكان عليه أن ينوي من اللّيل سفراً والإفطار، فإن هو أصبح ولم يَنوِ السفر فبدا له بعد أن أصبح في السفر قصّر ولم يفطر يومه ذلك.[2]
صفوان هنا هو ابن يحيى؛ لأنّه يروي عن الرضا عليه السلام، وليس صفوان الجمّال الذي يروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الرواية كلّ رجالها رجال الصحيح، مشكلتها الرجل الذي بين إبراهيم بن هاشم وبين صفوان. لو كان هذا الرجل واقعاً بين صفوان بن يحيى والإمام الرضا عليه السلام، كان هناك حلّ له؛ لأنّ صفوان هو أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، فيصبح البحث مبنائيّاً حينئذٍ. لكن إبراهيم بن هاشم لم يدَّعِ أحد أنّه لا يروي إلّا عن ثقة، وإن كان جليلاً في نفسه.
لا علاقة لنا هنا بما ورد في الرواية ممّا يرتبط بالصوم.
بالنسبة للصلاة لا يُشترط في التقصير تبييت النيّة، كما هو واضح.
واضح جدّاً أنّ الرواية تدلّ على أنّه في الأربعة فراسخ ذهاباً والأربعة فراسخ إياباً يوجد تقصير، لكن إذا كان الذهاب ثلاثة وكان الرجوع خمسة، أو كان الذهاب ستّة والرجوع اثنين، أو أيّة حالة من حالات التلفيق الأُخرى، فهل تنفي الرواية التقصير فيها أم لا؟ نقول: الرواية أجنبيّة عن ذلك، فهي لا تثبته ولا تنفيه، لكنّها دلّت على أنّه في الأربعة من الطرفين (الذهاب والإياب) تقصير، وأمّا لو تغيّر التلفيق بغير هذا، فإنّ الرواية أجنبيّة، لا تُثبت ولا تنفي؛ لأنّ السؤال إنّما كان عن قضيّة خارجيّة، والإمام عليه السلام لم يبيّن وجه الحكم بالتقصير، فلا يُستفاد منه إلّا مع حفظ حيثيّاته الخارجيّة.
9) الرواية التاسعة:
وبإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أحمد بن الحسن، عن أبيه، عن عليّ بن الحسن بن رباط، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن التقصير، قال: في بريد. قال: قلت: بريد؟ قال: إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه.[3]
عليّ بن الحسن بن فضّال يروي عن أخيه أحمد، الذي يروي عن أبيه، وهو الحسن بن عليّ بن فضّال. ينقل الشيخ النجاشيّ & عن عليّ بن الحسن بن فضّال أنّه كان عمره 18 سنة عندما توفّي أبوه، وكان يروي عن أبيه، وسمع الحديث منه، إلّا أنّه لصغر سنّه ترك الرواية عنه إلّا بواسطةٍ بينه وبينه، والواسطة في العادة هي أحد أخويه: إمّا أحمد أو محمّد؛ لأنّ عليّاً كان أصغرهم سنّاً. وهؤلاء وإن كانوا فطحيّين، لكن لا كلام في كونهم جميعاً من الثقات، بل عبّر عنهم حمدويه بن نصير الكشّي بأنّهم من أجلّة الثقات.
عليّ بن الحسن بن رباط، فطحيّ، لكنّه ثقة أيضاً بلا كلام.
العلاء هو العلاء بن رزين. من أجلّاء الطائفة. وكذلك محمّد بن مسلم الطائفيّ.
فالرواية موثّقة، في أعلى درجات الموثّق؛ لأنّ هؤلاء جميعاً هم من أجلّاء ثقات الرواة.
وهذه الرواية:
أوّلاً: تصلح مفسّراً للروايات التي اقتصرت على بريد.
وثانياً: تصلح شاهد جمع بين روايات البريد وروايات البريدين.
وثالثاً: تنصّص على أنّ الذهاب بريد والرجوع بريد، ولكن لا توجد فيها لغة شرطيّة واضحة. وليست كرواية معاوية بن عمّار التي ورد فيها: أقلّ ما يمكن فيه التقصير ذهاب بريد وإياب بريد.
وربما استشهد بهذه الرواية للقائلين بلزوم كون الذهاب بريداً على الأقلّ وعدم اشتراطهم البريد إياباً، وهي مقالة السيّد البروجرديّ والإمام الخميني والسيّد عبد الهادي الشيرازي وربما أعاظم آخرين+، لكن كيف يُستفاد ذلك؟ فأوّلاً: كيف يُستفاد لزوم البريد في الذهاب، وثانياً: كيف نرفع اليد عن لزوم البريد في الإياب، مع حفظ البريدين في المجموع؟
أمّا بالنسبة للذهاب، (سألته عن التقصير، قال: في بريد)، وهذا ظاهر في أنّه يجب أن يكون الذهاب بريداً امتداداً حتّى يقصّر. استغرب محمّد بن مسلم من البريد، وأنّ المركوز في الأذهان عن المسافة أن تكون بريدين، فأجابه الإمام عليه السلام: إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه.
صحيح أنّ لفظ الرجوع بريداً يفيد لزوم أن يكون الإياب بريداً، لكنّ هذا اللّزوم يمكن رفع اليد عنه، بالتعليل، وهو قوله عليه السلام: فقد شغل يومه؛ إذ بات الموضوع هو شغل اليوم، وبات البريد تطبيقاً لهذه الكبرى، والتطبيق لا يحكم الكبرى، وحملوا قوله عليه السلام: فقد شغل يومه، على العلّة، لا على الحكمة. حينئذٍ: يكون البريد مثالاً وتطبيقاً من تطبيقات ما يشغل اليوم، وإلّا، فإن شُغل اليوم بأقلّ من بريد، أو بأكثر من بريد في الإياب، مع كون الذهاب المنصَّص عليه في صدر الرواية بريداً، فلا يُرفع اليد عن هذا. وحينئذٍ: فيُقال: فقد شغل يومه، فالعلّة للتقصير موجودة.
وأمّا الإشكال عليهم بقوله عليه السلام: رجع بريداً، فهم دفعوه بأنّ الغالب عادةً في الذاهب إلى مكانٍ أن يرجع من نفس الطريق. فحُمل البريد الثاني على المثال، لا على التعيين الدافع لطريق آخر من طرق الرجوع. فأنتج هذا قولهم: إنّ المسافة التلفيقيّة في الذهاب لا بدّ وأن تكون أربعة فراسخ. لكن في الإياب لا يُشترط أن يكون بريداً إن تمّت المحافظة على أن يكون المجموع ثمانية فراسخ.
هذا القول يمكن الإشكال عليه بما يُنتج القول الثالث، بأنّكم حيث رفعتم يدكم عن البريد الثاني والتحديد به بحجّة أنّ (فقد شغل يومه) بات هو العلّة، فنقول: كلّ سفر كان مجموعه ثمانية فراسخ فهو يشغل اليوم، فإذا باتت العلّة هي شغل اليوم، فليكن الذهاب كالإياب، مع التحفّظ على كون المجموع ثمانية فراسخ؛ لأنّ الشارع حدّد ما يشغل اليوم بالثمانية فراسخ بحسب الوسيلة المتعارفة والغالبة؛ لأنّ العلّة تعمّم وتخصّص، فجاز أن نرفع اليد عن البريد الأوّل كما رفعنا اليد عن البريد الثاني؛ لأنّ شغل اليوم الذي مجموعه ثمانية فراسخ هو العلّة، فنفس السبب الذي يجعلكم ترفعون اليد عن البريد الثاني يجعلكم ترفعون اليد عن البريد الأوّل. فإمّا أن لا ترفعوا اليد عن خصوصيّة البريد في الأمرين معاً، في الذهاب والإياب؛ لأنّه ذُكر البريد فيهما معاً، وإمّا أن ترفعوا اليد عن البريد في الصدر والذيل معاً. وبرفع اليد عن البريدين معاً، فيُنتج هذا قول صاحب العروة & والمحقّق الأصفهانيّ & من أنّ العبرة بالثمانية فراسخ كيفما اتّفق.
ومن البرودة بمكان الاستشكال على هذا الرأي الذي ذهب إليه العلَمان وغيرهما أيضاً بأنّ هذا يستلزم الاكتفاء بأيّ تلفيق، كالذهاب والإياب في محلٍّ واحد ثمانية فراسخ؛ لأنّه يشغل يومه بذلك.
وإنّما وصفنا هذا الإشكال بالبارد؛ لأنّ الروايات واضحة في لزوم المسافة والامتداد في المسافة بحيث ذُكر الإياب فرعاً عن الذهاب، وبعبارةٍ أُخرى: ذُكر إيابٌ وذهاب، لا إيابات وذهابات، بحسب تعبير المحقّق الأصفهانيّ &.
والغريب أنّ تلميذه السيّد الخوئي & أشكل بهذا الإشكال ولم يُشر من قريبٍ ولا بعيد إلى أنّ أستاذه تعرّض لنفيه في رسالة صلاة المسافر، ولو كان متنبّهاً إليه كان لا بدّ أن يذكر دفع أستاذه ويناقش فيه إن كان الأمر يقتضي ذلك.
يبقى أنّ هذه الرواية هل حقّاً تُحمل على العلّة؟ أم أنّها تُحمل على الحكمة؟ ولن نتعرّض لذلك هنا؛ لأنّنا هنا فعلاً لسنا بصدد الجمع بين الروايات، بل بصدد استعراضها والتعرّض لفقه الرواية للوقوف من خلال ذلك على كيفيّة استخراج الأقوال من هذه الروايات، بدل أن نبيّن الأقوال ونحمّلها على الروايات.
وإن حملْنا على العلّة، يبقى أنّ التلفيق كيف يُنتج إلغاء لزوم البريد ذاهباً والبريد آيباً؟ وإذا صحّ هذا الاستدلال في نفسه، فكيف نوفّق بين هذه الرواية وبين صحيحة معاوية بن وهب، التي قالت: أقلّ ما يُقصَّر فيه بريد ذاهباً وبريد آيباً، والذي هو نصّ في التحديد؟
يأتي ذلك وغيره بعد استعراض بقيّة الروايات.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص458، أبواب صلاة المسافر، باب2، ح7، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص468، أبواب صلاة المسافر، باب4، ح1، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص458، أبواب صلاة المسافر، باب2، ح9، ط آل البیت.