بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/28

بسم الله الرحمن الرحیم

وصلنا إلى صحيحة أبي أيّوب الخزّاز، التي كانت تخيّر بـ (أو) بين البريدين وبياض اليوم.
ولا فرق بين قوله: يوم، وبين قوله: بياض يوم؛ لأنّ اليوم في اللّغة هو البياض.
وكنّا قد ركّزنا في البحث السابق على التخيير، فالرواية من هذه الجهة تنافي الروايات السابقة التي هي أصحّ منها سنداً وأكثر عدداً وعملاً؛ إذ لا نعرف عاملاً بهذه الرواية بحسب ظاهرها الذي يقضي بأنّ تحقّق أيٍّ منهما يكفي للتقصير، والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، كما هو واضح. قد يمشي الإنسان بريدين على البغلة السفواء والدابّة الناجية في نصف يوم، وقد لا يمشي في اليوم الكامل نصف هذه المسافة، وقد يتطابقان، كما هو الغالب في القطار.
وفي مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يكون التخيير تخييراً واقعيّاً؛ إذ المسافة سواء حُدّدت بالزمان أم بالمكان، لا بدّ لها من تحديد، أمّا تحديدها بأمرين قد يتوافقان وقد يختلفان، فإنّ مقام التحديد الذي لا محالة يتكوّن له مدلول التزاميّ نافٍ، ينافي ما يدلّ عليه المدلول المطابقيّ في الآخر، فلو تنزّلنا عن عدم حجّيّة الرواية الفعليّة، إن من جهة عدم العامل بها أصلاً بحسب ظاهرنا، وتنزّلنا عن ردّها بمخالفتها للروايات الأصحّ منها سنداً والأوضح منها دلالةً والأكثر منها عدداً وعملاً، في مقام الترجيح ـ مثلاً ـ، فلا بدّ ـ والله العالم ـ من حملها على ما حملها عليه الشيخ الأنصاريّ&  في بعض تعليقاته المرتبطة بصلاة المسافر التي كتبها إمّا على الشرائع وإمّا على الإرشاد على ما ببالي؛ إذ حمل هذه الرواية ـ ولها بعض النظائر كما سيأتي، كالرواية 11 من هذا الباب ـ حملها على التخيير العلميّ، لا على التخيير في مقام تحديد الموضوع الواقعيّ، فلا يكون فيها تعرّض للموضوع الواقعيّ، فيكون الموضوع الواقعيّ ما نصّصت عليه الروايات السابقة وبعض الروايات الآتية، من أنّ الموضوع واقعاً هو مسيرة يوم للقوافل وقطار الجمال، وأنّ الثمانية فراسخ هي تحديد لمسيرة اليوم المتعارفة، فلا تعرّض للرواية إلى هذا، بل نتيجة عدم التحديدات الدقيقة في كثير من الطرق التي كان يسلكها القوم، فمن عرف أنّه مشى بريدين، قصَّر، ومن لم يعرف أنّه مشى بريدين، وشغل يومه بالسفر المتعارف، ولم يدرِ أنّه زاد على بريدين أو أنقص من بريدين، أو مشى بريدين بالدقّة، فهو يستطيع من باب الأمارة أن يعتمد على ظاهر المسير في يومٍ أنّه يبلغ فيه المسافة المطلوبة والمحدّدة، فيستطيع أن يقصّر، فيكون التخيير بحسب العلم، بحسب تعبيره. وهذا التعبير أوجب التباساً تعرّض له المحقّق الأصفهانيّ&  في صلاة المسافر، لكنّ هذا هو مقصود الشيخ الأنصاري&، بمعزل عن الالتباس وجوابه، فيكون مقصوده (خصوصاً بلحاظ تلك الأزمنة)، أنّ الإنسان إذا علم بثمانية فراسخ فلم يعد مهمّاً بالنسبة إليه أن يُكمل مسيرة اليوم، وإن لم يعلم بثمانية فراسخ وشَغَل يومه بسفره، فأيضاً يستطيع أن يقصّر، فالعلم الوجدانيّ بقطع الثمانية فراسخ ليس مطلوباً، يكفي فيه الأمارة الناقصة التي تورث الظنّ في العادة فيمن مشى مسيرة يوم.
وهذا وجه لا بأس به، لكن لا نصير إليه؛ لأنّ فيه شيئاً من التبرّعيّة، وليس واضحاً في مقام الاستظهار من هذه الرواية. هذا إنّما صير إليه لكيلا تكون هذه الرواية منافيةً لبقيّة الروايات.
أقول: إن قبلناه واستظهرناه، فلا بأس، يكون لدينا فائدة جديدة في مقام الفتوى، وهي أنّ مسيرة يومٍ متعارفة للشاكّ في أنّه قطع الثمانية فراسخ أو لم يقطعها تكفي، فيكون من باب الأمارة التعبّديّة، كحسن الظاهر في باب العدالة.
وإن لم نقبله ـ ولا نميل كثيراً إلى قبوله، وإن كان محتملاً ـ فحينئذٍ: يكفينا غائلة هذه الرواية أنّه لا عامل بها بحسب ظاهرها.
فما ثبت لدينا لحدّ الآن بحسب الروايات المتقدّمة هو أنّ المسافة في الواقع مسيرة يوم متعارفة حدّدها الشارع بثمانية فراسخ، ببريدين، بأربعةٍ وعشرين ميلاً.
8) الرواية الثامنة:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد عن الحسين عن الحسن عن زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن المسافر، في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ.[1]
هذا السند معروف.
أحمد هو أحمد بن محمّد بن عيسى، شيخ القمّيّين، والشيخ الطوسيّ& له إليه طرق في مشيختي التهذيبين، وطرقه إليه صحيحة لا كلام فيها.
الحسين هو الحسين بن سعيد الكوفيّ الأهوازيّ.
والحسن هو أخوه الحسن بن سعيد الكوفيّ الأهوازيّ، الذي مات شابّاً، وكان شريكاً لأخيه في تصنيف الكتب.
زرعة هو زرعة بن محمّد الحضرميّ، وهو من عُمَد الواقفة، لكنّه موثَّق.
سمّاعة، ثقة بالاتّفاق، وهناك كلام في وقفه أو عدم وقفه، ولا شكّ في وقفه. وقول السيّد الخوئي& : إنّ الشيخ الطوسيّ& قد انفرد بنسبة الوقف إليه، ليس في محلّه؛ إذ قد صرّح الشيخ الصدوق& في مشيخة الفقيه بأنّه من الواقفة.
وهذا السند معروف.
وفي الرواية إضمار، لكنّ مضمرات مشاهير الثقات تُحمل على الموصول.
وأمّا الدلالة، فالرواية ظاهرة في كونها بصدد التحديد، وهي تؤكّد ما استفدناه، من أنّ الموضوع الواقعيّ هو مسيرة اليوم التي حُدّدت في الشرع بثمانية فراسخ؛ لأنّه التحديد المنضبط.
9) الرواية التاسعة:
وعنه، عن أبي جميلة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لا بأس للمسافر أن يتمّ الصلاة في سفره مسيرة يومين.[2]
أمّا السند:
قوله في السند: وعنه: أي: عن محمّد بن الحسن، عن أحمد، عن الحس بن محبوب
أبو جميلة هو المفضّل بن صالح، وهناك ما يدلّ على توثيقه، وهناك ما يشير إلى تضعيفه. عمدة ما قيل في تضعيفه نشأ من جهة أنّه في ترجمة جابر بن يزيد الجعفيّ ذكر النجاشيّ أنّ الرجل غير مطعون فيه، وإنّما روى عنه جماعة غُمز فيهم وضُعّفوا، وعدّ منهم: المفضّل بن صالح. وأمّا ما قيل: من أنّه أكذب البريّة، فهذا خلط، فهذه المقولة قيلت في حقّ وهب بن وهب أبي البختريّ، لا في حقّ المفضّل بن صالح.
وفي المقابل، يمكن توثيق المفضّل بن صالح من خلال القواعد العامّة، حيث إنّ غير واحدٍ من الثلاثة الذين لا يروون إلّا عن ثقة، ومن أصحاب الإجماع، رووا عنه، وبشكلٍ ملفت.
النكتة المهمّة هنا، أنّ السيّد الخوئي&  في عبارة النجاشيّ في ترجمة المفضّل بن صالح في معجم رجال الحديث، يقول: إنّ ظاهر كلام النجاشيّ&  التسالم على ضعف هؤلاء الذين رووا عن جابر بن يزيد الجعفيّ. ونحن بقدر تأمّلنا لم نفهم كيف للعبارة المبنيّة للمجهول أن تكون ظاهرةً في ما ذكره<. ولا سيّما أنّه في ذلك الزمان، كان يوجد اختلاف مبانٍ في الجرح والتضعيف، وبخاصّةٍ فيما يرتبط بظاهرة الغلوّ؛ فإنّ القمّيّين في تلك الحقبة كانوا يسارعون إلى رمي الرواة بالغلوّ، حتّى تسالمت جلّ الطائفة على أنّ معظم غمزهم كان بسبب الغلوّ؛ لأنّه كان لديهم مسلك خاصّ فيما يرتبط بالغلوّ.
فإذا بنينا على أنّ المبنيّ للمجهول لا يفيد التسالم، ولا يفيد التبنّي أيضاً من قبل النجاشيّ&  للتضعيف، حيث لم ينسبه إلى نفسه، فقد يكون هذا المجهول ممّن لا يُقبل طعنه، إمّا لأنّه لا يُعتمد في الجرح، وهذا بعيد، وإمّا لكونه له مسلك خاصّ غير مقبول في الجرح والتضعيف. وهذا محتمل جدّاً في المقام؛ لأنّ المشكلة في المفضّل بن صالح هنا بحسب ما يظهر من القرائن في ترجمته المفصّلة إنّما هي دعوى الغلوّ، فحينئذٍ: لا تكون حجّيّة التضعيف قويّة. فإذا بنينا على مبنى رواية ابن ابن أبي عمير أو أحد أصحاب الإجماع، فهذا توثيق له بالفعل، فيكون الرجل ثقةً.
وعليه: ففيما لو كان مفاد الرواية حكماً إلزاميّاً، لا يمكن ـ بعد البناء على وثاقته صناعيّاً ـ أن نتقحّم ونجري الأصول العمليّة الترخيصيّة على خلافها، فلا أقلّ من الاحتياط الوجوبيّ.
وأمّا الدلالة:
فحتّى لو بنينا على قبول سندها، فإمّا أن نحملها على ما حملها عليه الشيخ الطوسي&  من التقيّة؛ لأنّها تنافي عموم روايات الطائفة، وتنافي عموم عمل الطائفة أيضاً. وإمّا أن نوجّهها توجيهاً تبرّعيّاً، كأن يُقال: إنّ مسيرة اليومين أُخذت في الرواية بقدر مسيرة اليوم! لكنّه توجيه تبرّعيّ.
فحينئذٍ: نردّ علمها إلى أهلها. بل الإعراض عنها ـ لو كانت سليمةً ـ هو من أوضح أنواع الإعراض.
10) الرواية العاشرة:
وبإسناده عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يريد السفر، في كم يقصّر؟ قال: في ثلاثة برود.[3]
السند إلى أحمد بن محمّد بن عيسى واضح.
ابن أبي نصر، هو أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ.
وأمّا من حيث الدلالة:
فالكلام في هذه الرواية كالكلام في سابقتها. وحملها على القضيّة الخارجيّة بعيد، لقوله: (سألته عن الرجل..) الظاهر في القضيّة الحقيقيّة الكلّيّة.
الشيخ الطوسي&  عادةً يحمل مثل هذه الرواية على التقيّة.
فإذا كان مراده من التقيّة، موافقة ما عمل به العامّة، فإنّ بعض هذه الروايات حتّى العامّة لم يعملوا بها.
وإذا كان مراده من التقيّة، المخالفة بين أصحابنا؛ فإنّ بعض أنحاء التقيّة كانت حتّى لا يُعرف أصحابنا برأيٍ واحد، فهذا ممكن. فعمل الطائفة القطعيّ هنا يُخرجنا من الالتباس بلا شكّ، فإنّنا لم نجد عاملاً بهذه الرواية على الإطلاق. بل وجدناهم يعملون بضدّها.
11) الرواية الحادية عشرة:
وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر (بن سويد)، عن عاصم بن حميد (الحنّاط)، عن أبي بصير، قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: في كم يقصّر الرجل؟ قال: في بياض يومٍ أو بريدين.[4]
رجال السند كلّهم من الثقات.
وطريق الشيخ الطوسيّ&  إلى الحسين بن سعيد واضح الصحّة.
والكلام في هذه الرواية كالكلام في الرواية السابعة التي اشتملت على تخيير.
12) الرواية الثانية عشرة:
وبهذا الإسناد مثله، وزاد: فإنّ رسول الله- خرج إلى ذي خشب فقصّر وأفطر، قلْتُ: وكم ذي خشب؟ قال: بريدان.
وقد تقدّم نظير لهذا الذيل.[5]
13) الرواية الثالثة عشرة:
وعنه، عن الحسن، عن زرارة، عن سماعة، قال: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ قال: في مسيرة يوم، وهي ثمانية فراسخ.[6]
توضيح السند: أي: الشيخ الطوسيّ&، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرارة.
ودلالتها واضحة.
14) الرواية الرابعة عشرة:
وبإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله ع: قال في التقصير: حدّه أربعة وعشرون ميلاً.[7]
سند الشيخ الطوسيّ& إلى ابن فضّال صحّحه السيّد الخوئي& في أواخر حياته، وصحّحناه نحن بطريقةٍ أُخرى أيضاً، ونقضنا التعويض الذي ذكره&، وقد أشرنا إلى هذا المطلب سابقاً لأهمّيّته. فالسند إلى ابن فضّال صحيح لا كلام فيه.
عبد الرحمن بن أبي نجران إماميّ ثقة بالاتّفاق.
صفوان بن يحيى من أجلّاء الطائفة.
وعيص بن القاسم ثقة بالاتّفاق.
والرواية ظاهرة في التحديد. وهي لا تنافي كون الموضوع الواقعيّ مسيرة يوم، وإنّما تدلّ على أنّ التحديد إثباتاً هو 24 ميلاً، وهي بريدان، فلا تنافي بينها وبين ما سبق.
15) الرواية الخامسة عشرة:
وعنه، عن محمّد بن عبد الله، عن هارون بن مسلم، جميعاً، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديثٍ قال: قلْتُ له: كم أدنى ما يُقصَّر فيه الصلاة؟ قال: جرت السنّة ببياض يوم، فقلْتُ له: إنّ بياض يوم يختلف، يسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم، قال: فقال: إنّه ليس إلى ذلك يُنظر، أما رأيت سير هذه الأميال بين مكّة والمدينة؟ ثمّ أومأ بيده أربعة وعشرين ميلاً يكون ثمانية فراسخ.[8]
توضيح السند:
وعنه، أي: الشيخ الطوسيّ&  بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضّال
محمّد بن عبد الله هو الحجّال المزخرِف (صنعته الزخرفة). ثقة.
هارون بن مسلم، ثقة.
فالرواية موثّقة من جهة عليّ بن الحسن بن فضّال، لكنّها معتبرة.
وفي الدلالة:
نحدس بوجود تصحيف، (أميال) بدلاً من (أثقال)، وإن كان لا يوجد نسختان هنا.
والدلالة واضحة.
16) الرواية السادسة عشرة:
وبإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن أبيه عليّ بن يقطين،
الشيخ الطوسيّ بإسناده عن سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ،
سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ له روايات عديدة عن أبي جعفر، وكلّما روى عن أبي جعفر فهو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ القمّيّ.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص453، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح8، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص453، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح9، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص454، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح10، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص454، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح11، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص454، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح12، ط آل البیت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص454، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح13، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص455، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح14، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص455، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح15، ط آل البیت.