بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/27

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدّمت الروايتان الأُولى والثانية، وهما رواية واحدة ذُيّلت بهذا الذيل في بعض المصادر.
وربما احتُمل أن تكون هذه الزيادة في العلل وعيون الأخبار توضيحاً من الشيخ الصدوق رحمه‌الله؛ إذ من المهمّات في علم الحديث أن نعرف أنّ الشيخ الصدوق رحمه‌اللهعُرف بأنّه يعقّب على الروايات في الجملة، وقد يلتبس الأمر في جملةٍ من الحالات، في أنّ بعض العبائر في أذيال الروايات هل هي من تتمّة الرواية أم من تعقيبات الشيخ الصدوق رحمه‌الله عليها؟ وهذا موجود في الفقيه، وأُثير في كلمات المحقّقين، وبنوا على أنّه ما لم يَثبت أنّه أُضيف فالأصل أن يُحمل على أنّه من تتمّة الرواية؛ إذ عليه أن ينصّص.
لكنّ هذا الأصل محلّ تأمّل؛ وذلك للاستقراء؛ فإنّنا إذا استقرأنا نفس الروايات المتكرّرة في كتب الشيخ الصدوق رحمه‌الله كالفقيه والعلل وعيون الأخبار، ووسّعنا دائرة الاستقراء للمقارنة مع الروايات في الكافي المعروف بتقيّده بحاقّ ألفاظ الروايات، وإذا ما أضاف إليها نادراً شيئاً فمن الواضح أنّه ينبّه على أنّه من إضافاته. وكذلك الشيخ الطوسيّ رحمه‌الله، فإنّه واضح في مقام التعليق على الروايات، وفصل تعليقاته عن متون الروايات. إذا استقرأنا المشتركات، وجدنا فيما بين هذه الكتب جميعاً أنّ الشيخ الصدوق رحمه‌الله ينفرد بشكلٍ معتدّ به بعبائر زائدة، وبالأخصّ في كتاب الفقيه. وفي مثل هذه الحالة قد لا يمكننا إجراء أصلٍ إجمالاً من دون مقارنة، بل قد نشكّك في موارد شكّنا في أصل إجراء هذا الأصل، يعني: حتّى في الموارد التي لا نجد لها معادلاً في بقيّة المصادر.
وللأسف الشديد، فإنّ هذا ممّا لا يُراعى عادةً، وهذا من نتائج إهمال الاستقلاليّة في دراسة علوم الحديث؛ لأنّ الفقيه عادةً في أثناء البحث الفقهيّ لا يفرغ لمثل هذه الأمور، وخصوصاً بعد تصنيف مثل الوسائل والوافي، فضلاً عن كتاب جامع أحاديث الشيعة؛ فإنّ معظم المحقّقين في الغالب باتوا يكتفون في الفقه بهذه المصادر المتأخّرة، مهما بلغت مكانتهم العلميّة، من دون الرجوع إلى المصادر الأصليّة، إلّا حيث يشكّون شكّاً معتدّاً به، وهو حالة نادرة.
وكيف كان، فإنّنا لذلك نحتمل هنا، وبدرجةٍ معتدٍّ بها، أنّ هذا الذيل ربما كان من إضافات الشيخ الصدوق رحمه‌الله نفسه. ولكن على كلّ حال، ففي محلّ كلامنا لا يُفرَّق.
حصيلة ما انتهينا إليه من الرواية أو الروايتين المتقدّمتين استفادتان:
الاستفادة الأُولى: أنّ ظاهر الرواية أنّ الموضوع في السفر هو مسيرة يوم، وأنّ الثمانية فراسخ وإن كانت تحديداً لا يلتبس كمسيرة يوم، ذُكرت معرّفاً للموضوع الذي هو مسيرة يوم، عندما قال عليه السلام: ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم. فصار الموضوع هو مسيرة اليوم، واليوم في اللّغة هو البياض، وسيأتي التصريح بذلك في روايةٍ معتبرة أو صحيحة؛ إذ عند العرب اليوم والليلة هو الأربع وعشرون ساعة، وأمّا اليوم وحده فهو البياض خاصّةً (لا الـ 12 ساعة).
الاستفادة الثانية: أنّ مسيرة اليوم ـ والتي من الواضح أنّها تلتبس، بحسب المركوب، وبحسب جدّة السير عند الراكب ـ لم تُترك سدىً، بل حُدّدت بأنّها مسيرة يوم متعارف. وللقوافل (التي تنقل ناساً) والأثقال (التي يُحمَّل عليها). يعود السائل فيسأل: أنّه حتّى مسيرة يوم للقوافل والأثقال قد يحصل تفاوت فيها أيضاً، وإن كان قليلاً؟ تماماً كما يحصل تفاوت بالوسيلة المتعارفة أيضاً.
فدفعاً لهذا الالتباس جُعل المعرِّف لمسيرة اليوم حتّى بحسب المتعارف، ضُيِّق، فليس المعتبر مسيرة يوم بأيّة وسيلةٍ كانت، ولا مسيرة يوم فعليّة؛ لأنّ الإنسان قد لا يمشي في اليوم 8 فراسخ، وقد يمشي فيه أكثر من 8 فراسخ، حتّى بحسب الوسيلة الغالبة والمتعارفة، فلأنّ الأمر يتردّد ويتفاوت حُدّدت مسيرة يوم بثمانية فراسخ لا أقلّ ولا أكثر. وهذا لا يُلغي أنّ مسيرة اليوم هي الموضوع، بنصّ الرواية، وأنّ الـ 8 فراسخ هي المعرِّف، فلم تعد مسيرة اليوم أيّ مسيرة يوم، بل مسيرة اليوم التي تنطبق وتُطبَّق على 8 فراسخ، لا تنقص ولا تزيد. ومع تعبير الرواية بـ (لا أقلّ ولا أكثر) لم يعد بإمكاننا القول بأنّه في ذلك الزمن لم يكن هناك علامات على الطرق تحدّد الفراسخ. بل نستطيع أن نقول إنّ العرب في الطرقات الرئيسة المتعارفة لديهم كانوا يعرفون هذه النقاط، ولو لم يكن تحديدهم لها تحديداً دقيقاً كما هو الشأن في زماننا، وفي العادة، أنّ القوافل والأثقال إنّما تسلك هذه الطرقات المتعارفة، لا الطرقات الفرعيّة والملتوية.
3) الرواية الثالثة: في الباب الأوّل من أبواب صلاة المسافر:
وبإسناده، (أي: الشيخ الصدوق) عن عبد الله بن يحيى الكاهليّ أنّه سمع الصادق عليه السلام يقول في التقصير في الصلاة: بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً، ثمّ قال عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: إنّ التقصير لم يُوضع على البغلة السفواء (السريعة) والدابّة الناجية (أي: السريعة، كناية عن نجاة من يكون على ظهرها إذا طُوردت) وإنّما وُضع على سير القطار (قافلة الجمال المحمّلة).[1]
أمّا السند:
فسند الشيخ الصدوق رحمه‌الله إلى عبد الله بن يحيى الكاهليّ سند صحيح لا غبار على صحّته، كلّه من أجلّاء الطائفة، ويروي أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ عن عبد الله بن يحيى الكاهليّ، وعبد الله بن يحيى الكاهليّ لا شكّ في أنّه كان جليلاً ثقةً عند الطائفة.
وأمّا المتن:
فالمستفاد من هذه الرواية نفس المستفاد من الرواية أو الروايتين السابقين، واضح من هذه الرواية: التحديد في قوله: (بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً)، والبريدان والأربعة وعشرون ميلاً هي نفسها الثمانية فراسخ. هذا أوّلاً.
ثانياً: قوله عليه السلام: (كان أبي يقول: إنّ التقصير لم يُوضع على البغلة السفواء...)، فكأنّ هذا الأمر كان مثاراً عند الأصحاب ويسألون عنه ويتحدّثون فيه، ولو كان الموضوع للمسافة هو الفراسخ، لم يكن هناك معنىً لقوله: لم يُوضع التقصير على كذا ووُضع على كذا، بل حينئذٍ المدار على قطع المسافة، قُطعت بيوم أو بساعة، بل الظاهر: أنّه كان مركوزاً في الأذهان مسيرة اليوم، فالقول بأنّه أربعة وعشرون ميلاً كان من الطبيعيّ أن يولّد مشكلةً، فالراكب على الفرس قد يمشي 20 فرسخاً في مسيرة يوم، وهكذا، لأنّ هذا يولّد مشكلة، وهو أنّ أغلب وسائل النقل لم تكن بحاجةٍ إلى مسيرة يوم لقطع أربعة وعشرين ميلاً، بل كانت تقطعها في أقلّ من يوم، فجاء جوابه عليه السلام جواباً عن هذه الشبهة: أنّ التقصير لم يوضع إلّا بحسب القوافل والأثقال.
4) الرواية الرابعة: وهي تتمّة للرواية الثالثة:
قال: وقد سافر رسول الله- إلى ذي خُشُب (في بعض معاجم الأمكنة ضُبطت هكذا بضمّتين)، وهو مسيرة يومٍ من المدينة يكون إليها بريدان، أربعة وعشرون ميلاً، فقصّر وأفطر فصار سنّة. [2]
هذه الرواية لم تذكر أنّ النبيّ- ظلّ يوماً حتّى وصل، لكن هذه هي مسيرة اليوم، وحتّى لا تضيع مسيرة اليوم وتُحمل على مسيرة يوم بالفعل، فكلّ وسيلةٍ بحسبها، حتّى لا يحصل هذا الالتباس، يكون إليها بريدان، أربعة وعشرون ميلاً، فقصّر وأفطر فصار سنّة. عبارة (فصارت سنّة) إشارة إلى أنّ تحديد المسافة جاء من قبل النبيّ الأعظمرحمه‌الله، وليس فرضاً من السماء. وليس المراد من السنّة هنا المستحبّ في مقابل الواجب، كما هو واضح.
وبما أنّ هذه الرواية تتمّة للرواية السابقة بحسب الظاهر، فهي أيضاً معتبرة السند.
5) الرواية الخامسة:
قال: وبإسناده (الشيخ الصدوق رحمه‌الله) عن زكريّا بن آدم، أنّه سأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن التقصير، في كم يقصّر الرجل إذا كان في ضِياع أهل بيته وأمره جائز فيها، يسير في الضياع يومين وليلتين وثلاثة أيّام ولياليهنّ، فكتب: التقصير في مسير يومٍ وليلة. [3]
زكريّا بن آدم من كبار الأجلّاء، والسند إليه صحيح، وهو من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، وعاش مع الرضا والجواد والهادي(، وقيل: إنّه أدرك الكاظم عليه السلام، وهو مدفون بقم، وقبره إلى الآن معلوم وشاخص في مقبرة (الشيخان) بقم.
هذه الرواية من الروايات المخالفة للمتّفق، وهذه الرواية لا شكّ في إعراض الأصحاب عن العمل بها.
وهي أيضاً ظاهرة في حدّ نفسها في مسيرة اليوم الفعليّة، ولم يعد للمسافة دور في التقصير. وحيث إنّ حجّيّة أخبار الآحاد متوقّفة على استفادة الوثوق منها، وإن كان سندها موثَّقاً، فهذه الرواية من الأصل تكون ساقطةً عن الحجّيّة.
وإن تنزّلنا وقلنا بحجّيّة خبر الثقة حدّاً، كما هي مقالة السيّد الخوئي رحمه‌الله وبعض من تبعه، فأيضاً لا يمكن الفتوى بهذه الرواية؛ لأنّها عارضت روايات أصحّ سنداً وأوضح دلالةً.
على أنّ أصل التعارض نشأ من جهة إضافة اللّيلة في التحديد، في إضافة اللّيلة إلى اليوم، لا من جهة دلالتها على مسيرة اليوم الفعليّ، وإلّا، فلولا إضافة ليلة إلى يوم، لكانت نسبتها إلى تلك الروايات نسبة الإجمال والتفصيل، فتقبل الحمل على بعض ما ورد في الروايات السابقة.
فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها. وقد حملها جماعة من المحقّقين، كالشيخ الطوسيّ رحمه‌الله، وغيره، ومنهم المحدّث العامليّ رحمه‌الله في وسائله معقّباً على الرواية، يقول: هذا محمول على من يسير في اليوم واللّيلة ثمانية فراسخ. لكنّ هذا حمل تبرّعيّ، وهو واضح.
بل هذا الحديث لا يقبل مثل هذا الحمل؛ لاشتماله على (يوم وليلة). فالتعارض مستحكم.
وبعضهم حملها على التقيّة، زاعماً أنّها توافق بعض العامّة، ولم أجده.
6) الرواية السادسة:
قال: وفي عيون الأخبار بأسانيد تأتي، عن الفضل بن شاذان (تقدّم الكلام فيه) عن الرضا عليه السلام: في كتابه إلى الميمون: والتقصير في ثمانية فراسخ فما زاد، وإذا قصّرت أفطرت. [4]
دلّت الرواية على أنّه فيما يقلّ عن ثمانية فراسخ لا تقصير، وعلى أصل التلازم بين التقصير والإفطار (عدا ما استُثني، كالسفر بعد الزوال). وهذا التلازم بين التقصير والإفطار هو من حيث المسافة كما هو واضح، وإلّا، فمن المتّفق عليه التفصيل بين السفر قبل الزوال والسفر بعد الزوال.
وعليه: فهذه الرواية واضحة في التحديد بـ 8 فراسخ، لكن لا تعرّض فيها لكون الثمانية فراسخ هي الموضوع للحكم أم أنّ الموضوع هو مسيرة اليوم، أصلاً هي لا تذكر مسيرة اليوم. وهنا يصحّ أن يُدّعى الإجمال والتفصيل، وأنّ الرواية هنا أشارت إلى النتيجة مباشرةً؛ إذ المأمون ليس فقيهاً يريد أن يستدلّ حتّى يكون كلام الإمام عليه السلام بصدد بيان الموضوع. فلا تعارض بين الروايات، وإنّما هناك إجمال وتفصيل.
 7) الرواية السابعة:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب، عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: سألته عن التقصير؟ قال: في بريدين أو بياض يوم.[5]
أمّا السند:
محمّد بن عليّ بن محبوب القمّيّ، أحد كبار أجلّاء القمّيّين باتّفاق الطائفة، وللشيخ الطوسيّ رحمه‌الله أربع أو خمس طرق في مشيخة التهذيبين وفهرسته، وكلّها صحيحة.
يعقوب بن يزيد ثقة إماميّ بالاتّفاق.
أبو أيّوب هو الخزّاز، واسمه إسماعيل بن نُعَيْم الخزّاز (بعضهم ضبطه بالراء المهملة ـ الخرّاز).
وأمّا الدلالة:
فظاهر الرواية أنّه يكفي مسيرة اليوم كيفما كانت مسيرة اليوم، ولو لم يقطع ثمانية فراسخ. وبما أنّ العطف بـ أو، فمن مشى بياض يومٍ قصَّر في صلاته ولو علم بأنّه لم يمشِ ثمانية فراسخ، ومن علم أنّه مشى 8 فراسخ (كما لو سار ساعاتٍ معيَّنة على الفرس) قصّر أيضاً ولو لم يمشِ بياض اليوم.
فهل يمكن حمل هذه الرواية على التخيير كما ربما أصرّ بعض المحقّقين؟ أم أنّنا نحتاج إلى معالجة فهمها. ولا شكّ في أنّ الظاهر الأوّليّ منها هو التخيير.
لكنّ هذا الظهور البدويّ ـ بمعزلٍ عن أنّه لا أحد من الفقهاء يأخذ به ـ هل يمكن الأخذ به فقهيّاً أم لا؟


[1] وسائل الشيعة، شيخ الحر العاملی، ج8، ص452، ابواب صلاة المسافر، باب1، ح3، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، شيخ الحر العاملی، ج8، ص452، ابواب صلاة المسافر، باب1، ح4، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، شيخ الحر العاملی، ج8، ص452، ابواب صلاة المسافر، باب1، ح5، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، شيخ الحر العاملی، ج8، ص453، ابواب صلاة المسافر، باب1، ح6، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج8، ص453، ابواب صلاة المسافر، باب1، ح7، ط آل البیت.