30/11/27
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\الدلالات اللفظية\الوضع\الحقيقة والمجاز}
الجلسة الـ26، الأحد 27/11/1430 (=15/11/2009)
قلنا إنه بعد البحث عن الوضع والدلالة الْوَضْعِيَّة يقع البحث بتبعه في الدَّلاَلَة عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ وفي المسائل المرتبطة بِالدَّلاَلَةِ عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ ومصحح المجازات والاستعمالات المجازية، وقلنا أَيْضاً إن الأنسب أن يقع البحث الإثباتي في ذيل هذا البحث أَيْضاً وَالَّذِي بحث عنه الخراساني في موضع آخر تحت عنوان آخر؛ ذلك لأَن البحث الإثباتي هو هذا المعنى الحقيقي والدلالة الْوَضْعِيَّة اللفظية وهي البحث عن الوضع وحقيقته وكيفية تحقق الْعُلْقَةِ الْوَضْعِيَّةِ مع المعنى الحقيقي وبتبعه تتحقق الْعُلْقَة بين المعنى الحقيقي والمعنى الْمَجَازِيّ، وهذا بحث تحليلي ثبوتي انتهينا منه، فالأنسب تناول الجانب الإثباتي لهذا البحث الثبوتي في المقام أَيْضاً وقد جعلنا موضعه هنا في التقسيم المقدمي الَّذِي ذكرناه في بداية البحث، أي: كيف نحدد أن المعنى المستفاد من اللَّفْظ أو المعنى الَّذِي يستعمل فيه اللَّفْظُ معنى حَقِيقِيّاً، وأن هذه الدَّلاَلَة دلالة وضعية وليس معنى مجازياً؟ وهذا بحث إثباتي يتناول كيفيةَ إثبات المعنى الحقيقي والموضوع له، فيكون هذا البحث مرجعاً للشك والترديد في معنى اللَّفْظ ويثبت به المعنى الحقيقي. وهذا ما يعبر عنه بالبحث عن علامات الحقيقة والمجاز.
طَبْعاً هناك بحث آخر يذكر في ذيل البحث عن علامات الحقيقة والمجاز وهو بحث يتعلق بهذا الجانب الإثباتي أَيْضاً وهو بحث مختصر يعبرون عنه بالبحث عن تعارض الأحوال، وَالَّذِي يُعَدُّ بَحْثاً إِثْبَاتِيّاً لتحديد كيفية استعمال الْمُتَكَلِّم. أي: أن المعنى الحقيقي والمجازي لِلَّفْظِ محدد ومشخص ولكن يشك في المعنى المستعمَل فيه بين أن يكون استعمالاً في المعنى الحقيقي (بأن يكون فيه إضمارٌ) أو استعمالاً في المعنى الْمَجَازِيّ. أي: التعارض بين أصالة الحقيقة وأصالة عدم الإضمار أو عدم النقل وأمثالهما، ويأتي تفصيل الحديث فيه.
ومن الضروري البحث عنهما؛ إذ الواقع أنهما من البحوث الإثباتية لتحديد الظهور؛ فَإِنَّ تحديد الظهور في حقيقته تحديدٌ لصغرى حُجِّيَّة الظهور، وبحوث الظهور الإثباتية تحظى بأهمية بالغة وهي صالحة للتوسع أَيْضاً؛ فَإِنَّ من الأنسب والأفضل دراسةُ موارد الترديد والإجمال والشك في الظهورات الَّتِي هي مورد الابتلاء فِقْهِيّاً في المعاني والدلالات اللفظية والتوسع فيها عَلَىٰ نَحْوِ يشمل جميع مناشئ الشك في الظهورات ويُحصي جميع أسباب التشكيك في الدلالات اللفظية ويبيّن أساليبَ علميةً وطرقاً تُسهّل تحديد الظهورات، ولا يكتفى بهذين البحثين الإثباتيين المختصرين.
اعتراض العراقي:
وقد اعترض المحقق العراقي & عَلَىٰ هذا البحث أَنَّهُ لغو لا طائل منه بتوهم أن المقصود من هذا البحث هو تحديد المعنى الموضوع له؛ لأَنَّهُ تعنون بعنوان >علامات الحقيقة والمجاز< ومن هنا قال: ما هي الثمرة الْمُتَرَتّبَة عَلَىٰ هذا البحث؟ فإن افتراض فهمنا أو عدم فهمنا للمعنى الموضوع له (بأن الواضع لأي شيء وضع اللَّفْظَ) مِمَّا لا يترتب عليه أثر؛ ذلك لأَن ما هو حجة ليس المعنى الموضوع له، وَإِنَّمَا الظهور حجة. أي: ظهور كلام الْمُتَكَلِّم في مراده والظهور تَصْدِيقِيّ قد يكون عَلَىٰ خلاف المعنى الموضوع له، بل قد يستعمل اللَّفْظ مع القرينة في المعنى الْمَجَازِيّ، سواء كان المعنى الحقيقي لِلَّفْظِ مَعْلُوماً أم كان مجهولاً أو مجملاً.
رد الاعتراض:
ويرد عَلَىٰ كلامه أَنَّهُ إشكال لفظي؛ لأَنَّهُ ليس المقصود من البحث عن علامات الْحَقِيقِيَّة والمجاز تحديدُ الوضع بما هو وضع ولا أن الواضع ماذا وضع؟ وَإِنَّمَا المقصود هو تحديد تلك الْعُلْقَة الْوَضْعِيَّة، بمعنى أَنَّ هذا اللَّفْظ من دون القرينة يكون ظاهراً في أي معنى؟ حَتَّىٰ يكون الموضوع حجة فيما إذا لم يكن في الكلام قرينة أو ما يحتمل كونه قرينةً؛ لأَنَّ الاستعمال حِينَئِذٍ يكون ظَاهِراً في إرادة المعنى الحقيقي، وكذلك البحث عن تعارض الأحوال.
أقسام الدَّلاَلَة اللَّفْظِيَّة:
قلنا فيما سبق إن للدَّلاَلَة اللَّفْظِيَّة ثلاث مراحل:
الْمَرْحَلَة الأولىٰ: هي تلك الدَّلاَلَة التَّصَوُّرِيَّة الْوَضْعِيَّة الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا في مسلكي المشهور والصحيح بِالْعُلْقَةِ الْوَضْعِيَّةِ أو الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّةِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَة: هي ذاك المدلول التَّصْدِيقِيّ الاِسْتِعْمَالِيّ الأول الَّذِي يعتقد القائلون بمسلك التَّعَهُّد أَنَّهُ مدلول وَضْعِيّ، فهم يحذفون هذه الْمَرْحَلَة الثَّانِيَة. ويقولون بأن قصد الْمُتَكَلِّمِ >أَنَّهُ يريد إخطار أي معنى إِلَىٰ ذهن السَّامِع< ظهور حالي وهو نوع من التَّعَهُّد لدى أصحاب مسلك التَّعَهُّد، والمشهور يقولون بِأَنَّهُ ظهور حالي ومطابق لِلْمُتَكَلِّمِ، وإن كان عَلَىٰ أساس التَّعَهُّد يكون هذا التَّعَهُّد خارجاً عن الوضع وهذا التَّعَهُّد يخص مرحلةَ الاستعمال، وكيف كان فظاهر حال الْمُتَكَلِّم أو المتعهِّد أَنَّهُ كُلَّمَا استعمل هذا اللَّفْظ من دون القرينة أراد منه ذاك المعنى الَّذِي ارتبط به اللَّفْظُ في اللغة فيريد إخطارَه، فيتشكل الظهور التَّصْدِيقِيّ عَلَىٰ أساس تلك الْعُلْقَة الْوَضْعِيَّة الَّتِي نعتقد بِأَنَّهَا دلالة وَضْعِيَّة ويعتقد المتعهِّدةُ بِأَنَّهَا أنس ذهنيّ. إذن، إن تحديد المعنى المنسبَق من اللَّفْظ عند استعماله من دون القرينة هو المبنى لهذا الظهور التَّصْدِيقِيّ الاِسْتِعْمَالِيّ.
الْمَرْحَلَة الثالثة: هي تلك الدَّلاَلَةُ التَّصْدِيقِيَّةُ الثَّانِيَةُ أو المرادُ الْجِدِّيُّ؛ فَإِنَّ حال الْمُتَكَلِّم بعد ظهوره في أَنَّهُ يريد إخطارَ معنى من المعاني، يكون مُخَالِفاً للظهور لو كانت إرادته هذه من دون قصدٍ جِدِّيّ، بمعنى أن حالَه ظاهر في أَنَّهُ لا يمزح وليس في مقام التقية أو الامتحان وأمثالها، بل هو في مقام الجد ويوجد لديه قصد الإخبار أو الإنشاء.
وعليه، فإن تحديد المعاني (سواء معاني المفردات أم الهيئات وسواء المعاني الإنشائية أم الأخبارية) مهم وضروري جِدّاً وهو الحجر الأساس لتحديد الظهورات الَّتِي هي موضوع لحجية الظهور. وَبِالتَّالِي لا يَصِحُّ أن نتوهم أن البحث عن علامات الحقيقة والمجاز وأمثالهما لغوٌ.
طَبْعاً إن الشك في المراد الْجِدِّيّ التَّصْدِيقِيّ لا يزول عن طريق تحديد المعنى الحقيقي فحسب (أي: قد يكون المعنى الحقيقي مَعْلُوماً ومُحَدّداً ويكون الشك ناشئاً من جهة أخرى كالقرينة المجملة المترددة بين المعاني المجازية المتعددة أو كأسباب أخرى توجب الإجمالَ في الظهورات)، فمن الأنسب أن تبحث عن كلياتها وفق نُظم خاصة في البحث عن صغرى الظهورات؛ فَإِنَّهُ يوضّح بعضها في البحث عن تعارض الأحوال، وهذا ما يدعو إِلَىٰ التوسع في البحث.
علامات الحقيقة والمجاز
بالنسبة إِلَىٰ البحث الأول ذكر الأصوليون ثلاث علامات هي:
الأولىٰ: التَّبَادُر.
الثَّانِيَة: صحة الحمل والسلب وعدم صحة الحمل والسلب.
الثَّالِثَة: الاِطِّرَاد.
العلامة الأولى: التَّبَادُر
أَمَّا التَّبَادُر فهو العلامة الأولىٰ الَّتِي تذكر عادةً للحقيقة، فيقال بأن المقصود من التَّبَادُر هو انسباق المعنى من اللَّفْظِ، بِأَنَّ المعنى الحقيقي هو المعنى الَّذِي ينسبق ويتبادر إِلَىٰ ذهن السَّامِع عند سماعه لِلَّفْظِ، وهذا ما يطلقون عليه اسم التَّبَادُر أو انسباق المعنى من اللَّفْظ.
ثم يقال بأنَّ هذا التَّبَادُر لو كان حاقّيّاً نابعاً من حاقّ اللَّفْظِ ومن دون القرينة يكون علامة للحقيقة، أَمَّا لو كان اللَّفْظ مقروناً بالقرينة فانسباق المعنى إِلَىٰ الذهن عند سماع اللَّفْظ المقرون بالقرينة أو المقرون بمحتمل القرينية لا يكون دَلِيلاً عَلَىٰ كون المعنى حَقِيقِيّاً؛ إذ قد يكون مستنَداً إِلَىٰ تلك القرينة أو محتمل القرينية.
وقلنا فيما تقدم إن دلالة الألفاظ عَلَىٰ المعاني ليست ذاتيةً، بل هي دلالة نابعة عَلَىٰ أثر الوضع أو القرينة، بمعنى أن المعنى إما يخطر بالبال بالقرينة وإما بدلالة اللَّفْظ عَلَىٰ ذاك المعنى، ولا يوجد لهما شق ثالث، وعليه كُلَّمَا استطعنا نفي انسباقِ ذاك المعنى من اللَّفْظ ونحرزَ أن لا قرينةَ في البين تكون الدَّلاَلَة حِينَئِذٍ دلالة لفظيةً ناشئةً من حاق اللَّفْظ، ويكون ذاك المعنى هو الموضوع لِلَّفْظِ والمعنى الحقيقي له.
الاعتراضات الموجهة إِلَى التَّبَادُر:
وبهذا الصدد وجّه المشهور اعتراضاً عَلَىٰ التَّبَادُر، كما أن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & أضاف إليه إِشْكَالاً آخر نذكرهما فيما يلي:
إشكال المشهور:
أَمَّا الإشكال الَّذِي أورده المشهور فهو إشكال عقليّ يقولون فيه بأن المقصود من التَّبَادُر هو استنادُ الإنسانِ الشَّاكّ بتبادر إنسانٍ عالمٍ باللغة بأن يسأله عن اللَّفْظ لكي يرى ما هو المعنى الَّذِي يتبادر إِلَىٰ ذهن العالم باللغة؛ فَإِنَّ هذا في واقعه رجوع إِلَىٰ قول اللغوي وهو خارج عن بحثنا.
وَأَمَّا لو كان المقصود من التَّبَادُر هو الشك في المعنى الحقيقي لِلَّفْظِ فهو مستحيل وغير معقول؛ لأَن المفروض أَنَّهُ شاك في المعنى الموضوع لِلَّفْظِ ولا يعلم مَثَلاً أن معنى لفظة >الأسد< هو مطلق الشجاع أم خصوص ذاك الحيوان المفترس؟ ومع فرض الشك لا يمكن حصول التَّبَادُر.
وبعبارة أخرى: أن التَّبَادُر الحاقي إِنَّمَا يحصل لأولئك العالمين بالمعاني الْحَقِيقِيَّة، وَحِينَئِذٍ لو أردنا أن نبني العلم بالمعنى الحقيقي عَلَىٰ التَّبَادُر يلزم منه الدور، وَبِالتَّالِي لا يمكن لتبادر المستعلِم (الَّذِي يشك في المعنى) أن يكون علامة للحقيقة ومنشأً للعم بالوضع.