بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/11/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{المقدمة\الدلالات اللفظية\الوضع\الحقيقة والمجاز}

الجلسة الـ25، السبت 26/11/1430 (=14/11/2009)

مرآتية دلالة اللَّفْظ عَلَىٰ المعنى

ودلالة اللَّفْظ عَلَىٰ المعنى مرآتية بمعنى أن الإنسان لما ينتقل من اللَّفْظ إِلَىٰ المعنى كأنه يجعله مرآةً لتصور المعنى كالإنسان الَّذِي لا ينظر إِلَىٰ المرآة حينما يريد رؤية نفسه، فتكون المرآةُ فانيةً، وكذلك الأمر في باب استعمال الألفاظ في المعاني.

وهذا بحث عادة ما يدرسه الأصوليون بالمناسبة عند البحث عن استعمال اللَّفْظ كاللفظ المشترك في أكثر من معنى فقالوا بِأَنَّهُ حيث أن استعمال اللَّفْظ يقتضي تصور اللَّفْظ عَلَىٰ نَحْوِ المرآتية فلا يمكن الاستعمال في المعنيين ثم بحثوا عنه بالتفصيل بِأَنَّهُ هل الاستعمال متقوم بأن يُتصور اللَّفْظ عَلَىٰ نَحْوِ المرآتية والآلية ويتصور المعنى عَلَىٰ نَحْوِ الاستقلالية أو لا يتقوم الاستعمال بذلك؟

إِلاَّ أن الموضع الصحيح لهذا البحث ليس هناك وإن بحثوا عنه هناك بالمناسبة؛ لأَن مرآتية اللَّفْظ ترتبط بأصل الدَّلاَلَة اللفظية الْوَضْعِيَّة لا باستعمال اللَّفْظ، أي: توجد مرحلة قبل مرحلة الاستعمال وهي مرحلة الدَّلاَلَة التَّصَوُّرِيَّة والوضعية لِلَّفْظِ عَلَىٰ المعنى عَلَىٰ نَحْوِ المرآتية. أي: أن المستعمِل حينما يستخدم اللَّفْظ ينتقل عادة من تصور اللَّفْظ إِلَىٰ تصور المعنى فيجعل الفظ مرآة لتصور المعنى وكذلك السَّامِع عند سماع اللَّفْظ يتصور المعنى ابتداءً والتفاتُه إِلَىٰ اللَّفْظ التفات مرآتي وليس اِسْتِقْلاَلِيّاً، إذن هذا ليس من شؤون الاستعمال وَإِنَّمَا من شؤون أصل الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة التَّصَوُّرِيَّة، ومن هنا حَتَّىٰ لو سمعنا اللَّفْظ من الحائط ننتقل إِلَىٰ المعنى مباشرة ويكون الشعور باللفظ عندنا شعوراً مِرْآتِيّاً وَانْدِكَاكِيّاً في المعنى، وكأن المعنى ألقي في الذهن ابتداء.

مُضَافاً إِلَىٰ أن بالإمكان أن يتصور الْمُتَكَلِّم اللَّفْظ مُسْتَقِلاًّ وهذا ما سيأتي في باب الاستعمال أَيْضاً، ومثاله متعلم اللغة الَّذِي ما تمكّن من اللغة بعدُ حيث يتصور اللَّفْظَ قبل الاستعمال مُسْتَقِلاًّ حَتَّىٰ يرى هل أن اللَّفْظ موضوع لهذا المعنى أم لا؟ أو الموارد الَّتِي يتردد فيها الْمُتَكَلِّم بين اختيار لفظ من لفظين أو ثلاثة ألفاظ فَحِينَئِذٍ يمرّر تصور الألفاظ في ذهنه.

والحاصل أَنَّهُ كثيرة تلك الموارد الَّتِي يلتفت فيها إِلَىٰ اللَّفْظ في عالم الاستعمال التفاتاً اِسْتِقْلاَلِيّاً، إذن لا الاستعمال متوقف عَلَىٰ اللحاظ الآلي حيث يحصل من دون اللحاظ الآلي ولا موارد الآلية وَالْمِرْآتِيَّة مختصة بموارد الاستعمال.

وعليه فإن البحث عن الْمِرْآتِيَّة من شؤون أصل الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة التَّصَوُّرِيَّة ويصب في خانة انسباق المعنى من اللَّفْظ الَّذِي هو العلقة الْوَضْعِيَّة، ونحن نرى أن هذا الانتقال التَّصَوُّرِيّ يمتاز عن سائر موارد الانتقال من تصور شيء إِلَىٰ شيء آخر في الموارد الأخرى من الدلالات التَّصَوُّرِيَّة، كموارد تداعي المعاني حيث ينتقل الإنسان من تصور إِلَىٰ تصور آخر، ولكن كلا التصورين يقومان في ذهنه بالاستقلال وليس الأمر عَلَىٰ هذا النحو عادة في باب الألفاظ والمعاني، إِلاَّ بالعناية وفي الموارد الَّتِي يهمنا اللَّفْظ نفسه، وإلا فإن الذهن يعبر اللَّفْظ وكأنه يفنيه في المعنى، وهذا هو حالة الْمِرْآتِيَّة أو اندكاك اللَّفْظ في المعنى.

وَحِينَئِذٍ يصل الدور إِلَىٰ البحث عن نكتة هذه الْمِرْآتِيَّة وتخريجها وتحليلها وأنه لماذا تحصل هذه الحالة لِلَّفْظِ والمعنى ولا يكون في سائر الموارد تداعياً للمعاني؟ علماً أن هذه الْمِرْآتِيَّة نفسها هي السبب في أن يقول بعض القائلين بمسلك الاعتبار بأن الواضع وضع اللَّفْظ فانياً في المعنى ومتحداً مع المعنى أو أَنَّهُ يوجِد علاقة هوهوية بين اللَّفْظ والمعنى ويجعل اللَّفْظ عين المعنى.

وأيضا هذه الْمِرْآتِيَّة الَّتِي السبب في القول بأن حسن المعنى وقبحه ينتقل إِلَىٰ الألفاظ والمعنى القبيح يقبّح اللَّفْظ وَبِالتَّالِي يشمئز الإنسان من اللَّفْظ وينفر منه أَيْضاً كما أَنَّ حسن المعنى ينتقل إِلَىٰ اللَّفْظ ويصبح اللَّفْظ حسناً، وهكذا الأمر في حب المعنى وبغضه حيث ينتقل إِلَىٰ اللَّفْظ فيكره الإنسانُ اسمَ عدوّه مثل اسم >شمر< الَّذِي يكره الجميع، وكذلك العكس. هذا كله من آثار وبركات الْمِرْآتِيَّة والاندكاك، فيقع البحث الأول في معنى هذه الْمِرْآتِيَّة وأنه ما هو التخريج والتحليل الصحيح لفناء اللَّفْظ في المعنى، علماً أن هنا توجد احتمالات أو تفاسير وتقريبات متعددة نذكرها فيما يلي:

التقريب الأول لتفسير الْمِرْآتِيَّة

وهو أن الْمِرْآتِيَّة هي ما نذكرها في باب المفاهيم والعناوين ونقول بأن العناوين فانية في المعنونات.

رد هذا التفسير

إِلاَّ أن هذا التفسير لا يمكن الرضوخ له في الْمِرْآتِيَّة؛ لأَن اللَّفْظ والمعنى مقولتان مستقلتان عن بعضهما حَتَّىٰ في عالم التصور واللحاظ، بينما فناء العنوان في المعنون يتعقل فيما إذا كان العنوان والمعنون في عالم المفهوم والتصور شيئاً واحداً ومن مقولة وماهية واحدة. واللفظ هنا كيف مسموعٌ وتصوره تصورٌ لكيفٍ مسموع، والمعنى أمر منتزَع من الخارج كالإنسان والحيوان والتصور وماهيته تختلف عن المسموع. إذن، إنهما تصوران مستقلان وماهيتان منفكان عن بعضهما وفناء العنوان إِلَىٰ المعنون بحاجة إِلَىٰ العينية والوحدة في الماهية والمتصوَّر اللذين ينحصر الخلاف بينهما في الوجود العيني، بمعنى أن انتزاع مفهومٍ من الخارج عن معنونه إِنَّمَا يَصِحُّ فيما إذا لم يكن هذا المفهوم أكثر من مفهوم واحد منتَزَع، ولكن الذهن نظر إليه بنظرتين أحدهما نظرة الحمل الأوليّ وثانيهما نظرة الحمل الشائع، مَثَلاً لما ينتزع مفهومَ الإنسان من الخارج فَحِينَئِذٍ تارة ينظر إليه الذهن بما هو مفهوم وأخرى ينظر إليه بما عرض في الذهن. ولو لاحظ ذاك المفهوم المنتزَع من الخارج ومن خلاله نظر إِلَىٰ الخارج لرأى المتصور الَّذِي هو الحيوان الناطق في الخارج، وهذه النظرة الأولى هي الَّتِي يصطلح عليها بالحمل الشائع الصناعي والنظرة الثانية بالحمل الأولي. وهذه العينية إِنَّمَا هي لأجل التوحد الماهويّ بين العنوان والمعنون اللذان ليسا مقوليتين وماهيتين مستقلتين عن بعضهما كما هو الشأن في اللَّفْظ والمعنى، ولا يمكن لصرف وضع اللَّفْظ للمعنى واعتبار اللَّفْظ للمعنى خلق هذه الوحدة في الماهية والعنوان بينهما؛ لأَن هذه الوحدة أمر تكويني وحقيقي وقد تقدم أَنَّهُ لا يمكن بالوضع والاعتبار إيجاد الأمور الواقعية وَالْحَقِيقِيَّة.

مختار الشهيد الصدر في الْمِرْآتِيَّة

والمعنى الثَّانِي للمرآتية هو ما ذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & من المنطق الوضعي والتحققي حيث كان يواجه مشكلة مع المنطق القديم في مبحث المفاهيم الكلية وكيفية انتزاعها، فقيل بِأَنَّهُ & أنكر المفهوم الكلي؛ لأَنَّهُ يجعل الحس والتجربةَ مصدراً ومنبعاً للإدراكات والإحساس إِنَّمَا يتعلق بالجزئي دَائِماً ومن هنا أرجع الكلي إِلَىٰ شيفرات لجزئياته المتعددة الَّتِي يواجهها الإحساس، ولا يقدر الذهن الإنساني أن يمتلك تَصَوُّراً غير تلك المحسوسات. أي: حينما نقول >الإنسان< نتصور إنساناً ذا صفات خاصة فنتصور زيداً مَثَلاً ولكن لا عَلَىٰ سبيل البدل وبلا تعيين، عدم التعيين هذا إِنَّمَا يَصِحُّ عن طريق التشفير ووضع الألفاظ حيث يضع اسماً كُلِّيّاً لأحدها لا عَلَىٰ سبيل البدل، ويجعل الاسم الجزئي (الأعلام) لِكُلّ واحد منها تعييناً وبالخصوص، وبهذه الطريقة تُشفّر وترمز إِلَىٰ تلك المعاني الجزئية المنتزَعة من الخارج بواسطة الألفاظ. فهذا التفسير للكلية والجزئية في اختلاف الشيفرة لا أن يكون معنى كُلِّيّاً غير المعنى الجزئي.

وَحِينَئِذٍ إن آمنا بهذه النظرية في المنطق يمكن القول بأن الألفاظ فانية في المعاني؛ لأَنَّهَا بدائل للمعاني الكلية وبواسطة ترميز وضع اللَّفْظ للمعنى ينتقل الذهن من ذاك اللَّفْظ إِلَىٰ المعنى.

دراسة هذا التقريب:

إِلاَّ أن هذا الكلام غير صحيح؛ لأَنَّهُ يمكن تصور المعنى الكلي ولا يعود ذلك إِلَىٰ ترميز اللَّفْظ إِلَىٰ المصاديق عَلَىٰ سبيل البدل، وحتى لو صَحَّ ذلك لا يفسّر الْمِرْآتِيَّة؛ لأَن الترميز والتشفير لا يتنافى مع الاستقلال في اللحاظ الذهني والعلامة والرمز يمكن إدراكه بالاستقلال أَيْضاً كسائر العلامات، وَأَسَاساً يُعَدُّ ذاك البحث بحثاً منطقياً يتناول نفي المعاني الكلية في الذهن، وأن جميع المعاني والتصورات جزئية؛ لأَن مصدرها هو تجربة الإنسان وحسه وهو أمر ينحصر في الجزئيات وإنكار وجود المعنى الكلي لا يستلزم الفنائيةَ وَالْمِرْآتِيَّةَ بل يستلزم جزئيةَ المعنى وهذا المطلب يختلف عن مِرْآتِيَّة اللَّفْظ وفنائيته.

التقريب الثالث:

وقد يقال بأن اللَّفْظ مثل المقدمة الأداة لتصور المعنى حيث ننتقل بواسطة اللَّفْظ إِلَىٰ المعنى وهذا الاندكاك إِنَّمَا يعني أن اللَّفْظ آلة لإخطار المعنى إِلَىٰ الذهن وليس معناه إفناء العنوان عَلَىٰ المعنون.

دراسة التقريب الثالث:

ولكن لا يمكن مساعدة هذا التقريب أَيْضاً؛ لأَن الآلية والأداتية ليست خاصة بباب اللَّفْظ والمعنى بل هي موجودة في العلامات الأخرى، حيث أن العلامة وسيلة للانتقال إِلَىٰ ذي العلامة؛ فإننا مَثَلاً نشاهد إشارات ولافتات في الطرق هي علامات عَلَىٰ الطرق وهي مثل الآلة أو المقدمة للانتقال إِلَىٰ تحديد المسارات ولكن من دون أن نشعر فيها بالفنائية وَالْمِرْآتِيَّة، وتلحظ تلك الشفرات والعلامات مستقلةً ولا توجد فنائية في البين، خِلاَفاً للألفاظ والمعاني الَّتِي كأنها ليست أكثر من شيء واحد، فلا توجد أكثر من مجرد المقدمية والآلية وَالْمِرْآتِيَّة.

التقريب الرابع:

وهو بأن يقال بأن الواضع حينما يضع الألفاظ تُستخدم تلك الألفاظ في الاستعمالات ويؤدي ذلك إِلَىٰ انتقال أهل اللغة والسامعين عند سماعها إِلَىٰ تصور اللَّفْظ ومن تصور اللَّفْظ ينتقلون إِلَىٰ تصور المعنى الموضوع له. إذن، في الواقع يحصل انتقالان أحدهما الانتقال من الاحساس وسماع اللَّفْظ والانتقال إِلَىٰ تصور اللَّفْظ والآخر هو الانتقال من تصور اللَّفْظ إِلَىٰ تصور المعنى، فعلى سبيل المثال في كلمة إنكليزية يسمع الإنسان تلك الكلمة أَوَّلاً ممن يتكلم بالإنكليزية وينتقل إِلَىٰ تصور ذاك اللَّفْظ، ثم يقول: إن هذا اللَّفْظ وضع بخصائصه اللفظية في اللغة الإنكليزية للمعنى الفلاني فينتقل إِلَىٰ المعنى. إذن، بالدقة نرى أن هناك انتقالين: أحدهما الانتقال عند سماع اللَّفْظ إِلَىٰ تصور اللَّفْظ نفسه، والآخر الانتقال إِلَىٰ تصور المعنى، وهما في طول بعضهما، وَحِينَئِذٍ يُدعى في هذا التفسير الرابع بأن هذين الانتقالين يصبح انتقالاً وَاحِداً وذلك بالتدريج وعَلَىٰ أثر كثرة الاستعمال وصيرورة اللغة ملكةً لدى الإنسان، أي: تسقط هذه الواسطة فلا ننتقل من الإحساس باللفظ الأول إِلَىٰ تصور اللَّفْظ وبعد تصور اللَّفْظ إِلَىٰ تصور المعنى عَلَىٰ نَحْوِ تداعي المعاني، وَحِينَئِذٍ لا يوجد لدينا انتقالان، بل تُحذف تلك الواسطة وننتقل إِلَىٰ تصور المعنى عند سماع اللَّفْظ نفسه والإحساس السمعي به. أي: أن العقلة الْوَضْعِيَّة والدلالة التَّصَوُّرِيَّة المركبة من دلالتين طوليتين تتبدل إِلَىٰ دلالة تَصَوُّرِيَّة تحصل في الذهن عند سماع اللَّفْظ.

وهذه موهبة الذهن الإنساني والقوة الناطقة لدى الإنسان حيث تحصل فيه هذه الحالة. إذن، لا يتصور اللَّفْظُ بل يكون محسوساً به ومسموعاً، وننتقل من هذا الإحساس السمعي مباشرة إِلَىٰ المعنى، وهذا عَلَىٰ خلاف العلامة وذي العلامة حيث يجب أن نتصور العلامة أَوَّلاً ثم نصدّقها حَتَّىٰ ننتقل إِلَىٰ ذي العلامة. إذن، هذا هو معنى الْمِرْآتِيَّة، فلا نحتاج فيه إِلَىٰ تصور اللَّفْظ ومن هنا يقال بأننا ألقينا المعنى مباشرة في الذهن.

إشكال الشهيد الصدر عَلَىٰ هذا التقريب

وَأَمَّا سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فقد ذكر هذا التفسير ابتداء ثم أشكل عليه قائلاً: إن هذا الكلام صحيح في نفسه ولٰكِنَّهُ خاص بمورد الإحساس باللفظ، كما إذا سمعنا تلفظاً، مع أن الْمِرْآتِيَّة محفوظة في باب الانتقال من لفظ إِلَىٰ المعنى حَتَّىٰ لو لم نسمع اللَّفْظ، مثلما إذا تصورنا اللَّفْظ فتكون الْمِرْآتِيَّة محفوظة فيه أَيْضاً كمن يتحدث إِلَىٰ نفسه ولم يتأثر حس السمع عنده بالأمواج الصوتية؛ فَإِنَّهُ يتصور اللَّفْظَ أَيْضاً ويتفكر في عالم نفسه ويلاحظ الألفاظ في ذهنه عَلَىٰ نَحْوِ الْمِرْآتِيَّة. إذن، معنى ذلك أن الْمِرْآتِيَّة لا تتعلق باستماع اللَّفْظ، وهكذا يرد سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & هذا الاحتمال.

التقريب الخامس:

وهو احتمال يذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & من أن يكون معنى الْمِرْآتِيَّة هو أن تصور اللَّفْظ قد أُغفل عنه، أي: أن تصور اللَّفْظ يستدعي ويستلزم تصور المعنى ويؤدي في عالم التصور إِلَىٰ انسباق تصور المعنى، ولكن هذا التلازم التَّصَوُّرِيّ عَلَىٰ قسمين:

أحدهما: المورد الَّذِي يجب فيه تصور الملزوم تَصَوُّراً تَفْصِيلِيّاً حَتَّىٰ يتأتى للذهن الانتقالُ إِلَىٰ تصور اللازم.

والآخر: المورد الَّذِي يشتد فيه الاقتران جِدّاً بين تصور الملزوم وتصور اللازم إِلَىٰ مستوى ينتقل الذهن فيه إِلَىٰ تصور المعنى حَتَّىٰ لو كان تصور الملزوم مغفولاً عنه، وهذا شأن التلازم التَّصَوُّرِيّ في باب الألفاظ والمعاني؛ لأَن اللَّفْظ وقع آلةً للانتقال إِلَىٰ المعنى واشتدَّ هذا الاقتران بينهما وتأكّد إِلَىٰ درجة ينتقل الذهن من دون تصور اللَّفْظ إِلَىٰ المعنى، وتصور اللَّفْظ بات قنطرةً وجسراً للعبور إِلَىٰ المعنى، كمن يمد يده إِلَىٰ القلم ليمسكه ويكتب به، فَإِنَّهُ عادة ما لا يلتفت إِلَىٰ القلم وذهنه بالكامل مشغول بالكتابة. إذن، إن مِرْآتِيَّة اللَّفْظ تعني أن تصور اللَّفْظ لا يحتاج إِلَىٰ الالتفات واللحاظ التفصيلي، بل يكفي ذاك الوجود الارتكازي لِلَّفْظِ في ذهنه للانتقال إِلَىٰ المعنى، والحاصل أن هذا التقريب يركز عَلَىٰ كون تصور اللَّفْظ في الذهن مغفولاً عنه، إِلاَّ أَنَّ هذا التقريب الخامس مِمَّا يمكن مناقشته.

دعم التقريب الرابع:

ولكن التقريب الرابع الَّذِي رفضه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & صالح للأخذ به وذلك لأَنَّهُ:

أَوَّلاً: لماذا ليست سائر موارد تداعي المعاني من هذا القبيل ويكون الأمر خَاصّاً بهذا النوع من التلازمات التَّصَوُّرِيَّة؟ فإن هناك الكثير من الملازمات التَّصَوُّرِيَّة توجد فيها هذه المقدمة وهي ملازمات يكثر استخدامها مثل الانتقال من تصور إشارات المرور إِلَىٰ تصور معانيها من دون أن يكون شيء من تصورها مغفولاً عنه في الذهن ولا يلتفت إليه الذهن.

وَثَانِياً: أننا لا نشعر وجداناً بوجود انتقالين في الذهن، ولا نجعل تصور اللَّفْظ كتصور الصوت من الكيف المسموع، وَإِنَّمَا نتحدث في أنفسنا. أي: كأن تلك الألفاظ تحصل لدينا تحت عنوان تلفظ باطني وهو قسم من مقولة الفعل الباطني، ولعله هو المقصود من شعر:

وهو أمر صحيح، وَبِالتَّالِي الفعل هو المغفول عنه وليست التصورات الذهنية، ومثال القلم والكتابة أَيْضاً من باب الفعل المغفول عنه.

ومن هنا يتراءى لنا أن التقريب الرابع هو الصحيح ويُدفع الإشكال الموجه إليه بأن ما ذكر هناك من أن >الإحساس باللفظ يوجب الانتقال إِلَىٰ المعنى ولا يجب تصور اللَّفْظ في الذهن< كلام صحيح ولكن المقصود منه ليس الإحساس الخارجي باللفظ، فتكون الموارد الَّتِي لا يسمع فيها الإنسانُ اللَّفْظَ ويمررها في ذهنه من هذا القبيل، حيث أَنَّهُ يوجِد الإحساس بالذات باللفظ في باطنه ويقوم بعملية التفكير عبره، وهذا ضرب من الفعل الباطني والنفسي ومن هنا لا يحتاج إِلَىٰ وجود التلفظ في الخارج. وهكذا يَتُِمّ تفسير الْمِرْآتِيَّة تفسيراً صحيحاً وجذاباً يختص به باب الألفاظ والقوة الناطقة الإنسانية.