30/11/15
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\الدلالات اللفظية\الواضع وتقسيمات الوضع}
الجلسة الـ20، الثلاثاء 15/11/1430 (=03/11/2009)
انتهينا في البحث عن تبعية الدَّلاَلَة للإرادة إِلَىٰ الإشكالات الثلاث الَّتِي ذكرها الخراساني حيث قال بأن اللفظ إذا كان موضوعا للمعنى المراد بما هو مراد وبقيد الإرادة يلزم منه أن لا تكون الألفاظ صالحة للجري والإسناد في الخارج؛ لأَن قيدها أمر نفسي ووجود ذهني، وَالْمُقَيَّدُ بالقيد الذهني لا يصدق عَلَىٰ الخارج، هذا أَوَّلاً.
وَثَانِياً: حيث أن الاستعمال قوامه بالإرادة والقصد فيلزم منه تعدد الإرادة أو تعلق الإرادة بنفسها في مرحلة سابقة، وهو أمر محال أَيْضاً.
وثالثاً: يلزم منه أن تصبح معاني جميع الألفاظ من قبيل الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ مِمَّا يخالف الوجدان([1] ).
دراسة إشكالات الخراساني الثبوتية:
قلنا أَوَّلاً: لا حاجة إِلَىٰ هذه الإشكالات، والإشكال الأساس هو أن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة دلالة تَصَوُّرِيَّة بين تصور اللفظ والمعنى ومن هنا يأبى التقييدَ بأمر تَصْدِيقِيّ.
وَثَانِياً: لو صرفنا النظر عن هذا الإشكال فيمكن دفع إشكالات الخراساني كالتالي:
أَمَّا الإشكال الأول الَّذِي قال فيه بأن المعنى الموضوع له إذا كان معنى مراداً بما هو مراد لا يجري اللفظ عَلَىٰ الخارج، فجوابه أن القيد خارج عن المعنى والتقيد بالقيد داخل في المعنى والتقيد بالقيد يعني أن إرادة هذا المعنى متصفة بكون الإرادة قد تعلقت بها، وصفة الإرادة كصفة العلم من الصفات ذات الإضافة إِلَىٰ الخارج، وله إضافة أخرى إِلَىٰ الخارج هي بالعرض وبالمجاز، ومن هنا نقول: إن ذاك الأمر الخارجي معلوم لدي أو أَنَّهُ مراد عندي، مع أن الإرادة والعلم لا يعرضان عَلَىٰ الخارج حقيقةً، وهذا هو التعلق والإضافة بالعرض الَّذِي يمكنه وقوعه قَيْداً والمعنى الْمُقَيَّد به يجري عَلَىٰ الخارج؛ لأَنَّهُ صادق عَلَىٰ الخارج حقيقةً كما نقول بأن الخارج معلوم ومراد لي، أي: بالعرض.
وَأَمَّا إشكاله الثَّانِي فجوابه أن ما يجب قصده وإرادتُه في مقام الاستعمال هو قسم من معنى اللفظ الَّذِي يتشكل به القسم الآخر أَيْضاً ولا يعود بحاجة إِلَىٰ إرادة أخرى أو تعلق الإرادة بنفسها. أي: بِنَاءً عَلَىٰ إمكان تقييد المعنى بقيد تَصْدِيقِيّ تكون الإرادةُ قسماً من المعنى التَّصَوُّرِيّ للفظ وهذا القسم نفسه بحاجة إِلَىٰ القصد والإرادة في مقام الاستعمال وليس القسم الآخر الَّذِي هو تَصْدِيقِيّ وهو الإرادة نفسها. إذن، لا حاجة إِلَىٰ أكثر من إرادة إخطار ذاك القسم التَّصَوُّرِيّ من معنى اللفظ حَتَّىٰ يلزم محذور تعلق الإرادة بالإرادة؛ لأَن قوام الاستعمال إِنَّمَا هو بقصد إخطار المعنى التَّصَوُّرِيّ وهذا إِنَّمَا يوجد في القسم التَّصَوُّرِيّ للمعنى، وَأَمَّا القسم الآخر فحيث أَنَّهُ تَصْدِيقِيّ والمفروض أننا آمنا بإمكان أن يكون قيد المدلول التَّصَوُّرِيّ تَصْدِيقِيّاً، إذن إن قصد إخطار ذاك القسم الأول يحقِّق بنفسه القسمَ الثَّانِي، وحيث أن هذا القسم الثَّانِي تَصْدِيقِيّ لا يحتاج إِلَىٰ قصد الإخطار وَإِنَّمَا قصد الإخطار يتعلق بالقسم الأول فحسب، والاستعمال يتقوم بهذا المقدار لا أكثر، كما أن القسم التَّصْدِيقِيّ يتشكّل بهذا القصد والإرادة، ويحصل قيد المعنى وَبِالتَّالِي لا يلزم منه إشكال الدور أو تعلق الإرادة بنفسها.
وَأَمَّا إشكاله الثالث فأوَّلاً يرد عليه أَنَّهُ لا يحظى بالأهمية، فلتكن جميع الأوضاع اللغوية من باب الوضع الْعَامّ والموضع له الْخَاصّ.
وَثَانِياً: لا يلزم منه ذلك، بمعنى أن ما هو مخالف للوجدان هو أن تكون المعاني التَّصَوُّرِيَّة للألفاظ من باب الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ وهذا مخالف للوجدان، ولكن لا يلزم منه ذلك؛ لأَن المعاني التَّصَوُّرِيَّة للألفاظ هي ذاك القسم الأول من المعنى الموضوع له الَّذِي يتصور بشأنه الوضع الْعَامّ والموضوع له العالم والوضع الْخَاصّ والموضوع له الْخَاصّ، وفي الواقع، وفي الحقيقة إن اختصاص الموضوع له إِنَّمَا هو بلحاظ قيد المعنى التَّصَوُّرِيّ الَّذِي هو واقع الإرادة الَّتِي هي أمر تَصْدِيقِيّ، وهذا المقدار من الاختصاص للمعنى بِنَاءً عَلَىٰ إمكان أخذ القيد التَّصْدِيقِيّ في معنى اللفظ ليس مُخَالِفاً للوجدان اللغوي إذا كان جزؤه التَّصَوُّرِيّ (أَيْ: ذات الْمُقَيَّد) عامّاً. وَبِالتَّالِي يبقى الوضع الْعَامّ والموضوع له الْعَامّ أو الوضع الْخَاصّ والموضوع له الْخَاصّ بالنسبة للمدلول التَّصَوُّرِيّ للألفاظ محفوظاً ولا يقتضي الوجدان اللغوي أكثر من هذا.
حصيلة البحث:
تحصّل مِمَّا تقدم إِلَىٰ الآن أَنَّهُ:
أَوَّلاً: أن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصَوُّرِيَّةٌ تحصل بواسطة وضع صلاحية إخطار المعنى تَصَوُّراً في الذهن بألفاظ لغوية.
وَثَانِياً: أن دلالة الاستعمال عَلَىٰ قصد إخطار المعاني الحقيقية أو المجازية إِنَّمَا هي من الألفاظ التَّصْدِيقِيَّة الَّتِي منشؤها هو الظهور الحالي والطبعي لِلْمُتَكَلِّمِ في مقام التحاور فيما إذا كان الْمُتَكَلِّم إنساناً ملتفتاً إِلَىٰ اللغة وعالماً بها.
وثالثاً: أن دلالة الكلام عَلَىٰ القصد الجدي للإخبار أو إنشاء الْمُتَكَلِّم دلالة تَصْدِيقِيَّة أخرى منشؤها ظهور حال أو طبع الْمُتَكَلِّم، وهي ما نعبر عنها بالمدلول التَّصْدِيقِيّ الثَّانِي أو القصد والمراد الجدي.
أَمَّا السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & فقد ذكر بعض تقريراته أن هذه الدَّلاَلَة عَلَىٰ القصد الجدي إِنَّمَا هي من باب الأصل العقلائي([2] )، ولكن هذا المطلب وإن كان يَصِحُّ عقلائياً ولكن ما هو منشأ عقلائيته؟ فإن العقلاء لا توجد لديهم أصول عقلائية كالاستصحاب والبراءة أو قاعدة الفراغ الموجودة في الشرع، بل إن الأصول العقلائية تعود دَائِماً إِلَىٰ الظهورات، أي: أنها ترجع دَائِماً إِلَىٰ الأمارات والكاشفات الظنية القوية وهي في باب المحاورة عبارة عن الظهورات الحالية والطبعية، أي: أن ظاهر حال الْمُتَكَلِّم في مقام التحاور هو أَنَّ لديه قصد اِسْتِعْمَالِيّ، وحينما يستعمل لفظاً يظهر منه أَنَّهُ جاد فيه؛ لأَنَّهُ ملتفت إِلَىٰ أَنَّهُ في مقام التحاور، فيصبح كلامه ظاهراً في أَنَّهُ يخبر إخباراً جدياً أو أَنَّهُ ينشئ إنشاء وليس يمزح أو يمحتن، وإن حالات الامتحان خلاف الطبع الظهور الأولي.
ولا يُعَدُّ شيء من هاتين دلالةً تصديقيةً وضعية؛ فَإِنَّ الوضع آلية لإمكان إخطار التَّصَوُّرِيّ في الذهن وهاتان الدلالتان التصديقيتان الأولى والثانية ناشئتان من الظهورات الحالية والسياقية، وموضوع الْحُجِّيَّة هو هذا الكشف التَّصْدِيقِيّ الثَّانِي من المراد الجدي؛ لأَن ما هو موضوع لأثر الإطاعة ومنجزيتها ووجوبها هو المراد والمقصود الجدي للمولى، وتلك الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة والاستعمالية إِنَّمَا تقع في طريق تكوّن الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة الجدية وَالَّتِي تكشف عن مراد المولى وهي حُجِّيَّة عقلائية شرعية.
وهذا بحث تحليلي عن الظهورات اللفظية وهو بحث أساسي ومهم للغاية نحتاج إليه في مواضع عديدة كالبحث عن القرينية وأنواعها وأن القرينية تَتُِمّ في أي نوع من هذه الظهورات؟ والبحث عن القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة والفرق بينهما والبحث عن الجمع العرفي بين دليلين مخالفين ومعارضين لبعضهما والبحث عن حُجِّيَّة الْعَامّ في الباقي بعد التخصيص وبحوث أخرى نذكرها في المستقبل إن شاء الله تعالى.