30/11/13
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\الدلالات اللفظية\الواضع وتقسيمات الوضع}
الجلسة الـ18، الأحد 13/11/1430 (=01/11/2009)
النقطة الثالثة: المراد من التبعية
انتهينا في البحث عن تَبَعِيَّة الدَّلاَلَة اللفظية للإرادة إِلَىٰ النقطة الثالثة وهي أن يكون المراد من تبعية الدَّلاَلَة للإرادة هو أن تقع الإرادةُ قَيْداً لمعنى اللفظ بأن يكون اللفظ موضوعاً للمعنى المراد بما هو مراد حَتَّىٰ تكون إرادة المعنى الحقيقية مستفادةً من الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة، والمقصود من ذلك أن يكون المعنى مراداً وليس مفهوم الإرادة.
إشكالات الخراساني:
والخراساني صاحب الكفاية ذكر هذا المعنى لتبعية الدَّلاَلَة للإرادة ثم أورد عليه ثلاثة إشكالات ثبوتية بِأَنَّ من المستحيل أن نجعل الإرادةَ قيداً للمعنى الموضوع له ونقول بأن اللفظ وضع للمعنى المراد بما هو مراد:
الإشكال الأول:
أَنَّهُ يلزم منه أن لا يعود المعنى بهذا القيد صالحاً للصدق والجري عَلَىٰ الخارج؛ لأَنَّهُ مُقَيَّد بقيد موجود في عالم النفس؛ لأَن الإرادة موجودة في عالم نفس المريد وليست في الخارج عن عالم النفس، فإذا كانت الإرادة قَيْداً للمعنى يكون المعنى الموضوع له اللفظ مُقَيَّداً بقيد ذهنيّ ويصدق عَلَىٰ الخارج مجازاً ومن باب إطلاق اسم الْمُقَيَّد أو الحركة عَلَىٰ جزئه، وهذا هو الإشكال الَّذِي يذكرونه في اللحاظين الآلي والاستقلالي في المعنى الحرفي والاسمي بِأَنَّهُ إذا كان اللحاظ الآلي أو الاستقلالي قَيْداً للمعنى يرد عليه هذا الإشكال فلا يمكن للأسماء والحروف أن تصدق عَلَىٰ الخارج إِلاَّ مجازاً.
الإشكال الثَّانِي:
أَنَّهُ يلزم منه التهافت أو الدور المحال في مقام الاستعمال؛ لأَن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي هو إرادة المعنى وقصده العارض عَلَىٰ المعنى، فإذا كان معنى اللفظ مُقَيَّداً بالإرادة وبكونه مُراداً يلزم منه أن تتعلق الإرادةُ بالإرادة أو قل: يلزم منه تقدم الإرادة عَلَىٰ الإرادة وهو محال؛ لأَنَّهُ يلزم منه تقدم الْمُتَأَخِّر في فرض كونها إرادةً واحدة، وفي فرض كونها إرادتين فمن الواضح أن الإرادة لا تتعلق بالإرادة ولا تحصل غير إرادة واحدة، وَأَسَاساً تعلق الإرادة بالإرادة محال وإن الإرادة من الصفات ذات الإضافة وهي تُضاف إِلَىٰ المُراد لا إِلَىٰ الإرادة.
الإشكال الثَّالِث:
وهو أَنَّهُ يلزم منه (أي: من وقوع الإرادة قَيْداً للمعنى الموضوع له) أن يكون وضع جميع الألفاظ من باب الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ؛ لأَن كل إرادة غير سائر الإرادات، وهذا مِمَّا لا يحتمل أَبَداً؛ لأَنَّ من المقطوع به وجود الوضع الْعَامّ والموضوع له الْعَامّ في اللغة.
طَبْعاً لا يعد هذا الإشكال الثالث مَحْذُوراً عَقْلِيّاً ولٰكِنَّهُ مخالف للوجدان بأن نقول مَثَلاً بعدم وجود الوضع الْعَامّ والموضوع له الْعَامّ وأن جميع الأوضاع اللغوية تكون من قبيل الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ.
هذه هي الإشكالات الَّتِي أوردها الخراساني صاحب الكفاية في مبحث تبعية الدَّلاَلَة للإرادة وذلك بعد أن فسّر التبعية بإرادة تفهيم قيد المعنى الموضوع له. وقد بيّن هذا المطلب في الكفاية بالتفصيل، إِلاَّ أَنَّهُ لم يعجب المحقق العراقي ولا السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ &، فاعترضا عليه بما يلي:
اعتراض العراقي عَلَى كلام الخراساني
أَمَّا المحقق العراقي فقد آمن بأصل كلام الخراساني وتصدى للإشكالات الواردة عليه بما يلي:
الإجابة عن الإشكال الأول:
أَمَّا الإشكال الأول القائل بأن الإرادة إذا كانت قَيْداً فلا تجري في الخارج ولا تُحمل عَلَىٰ الخارج، فهذا الإشكال مِمَّا يمكن دفعه وَفْقاً لمبنى المحقق العراقي في باب الإطلاق والتقييد حيث يقول: إن لدينا نمطين من التقييد؛ فَإِنَّ التقييد:
تارة يكون القيد في التقييد داخلاً أو خارجاً وهو تلك التقييدات المعروفة.
وأخرى لا يكون القيد في التقييد لا دَاخِلاً في الْمُقَيَّد ولا في التقيد، وَإِنَّمَا ذات الْمُقَيَّد أخذ في موضوع الحكم، ولكن في الوقت نفسه تكون تلك الذات مُقَيَّدةً غير مطلقة لا تشمل الفرد الفاقد للقيد، وهذا ما يعبر عنه بالحصة المتوائمة أو القيد، وكأنها تشبه القضية الحينية لا القضية الشرطية الَّتِي يكون الزمان ظَرْفاً فيها لا القيد. وكذلك الأمر في المقام فتكون الحصة المتوائمة عبارة عن تلك الْحِصَّة من الجامع والطبيعي الَّتِي لا تصدق عَلَىٰ الحصص الأخرى؛ لأَنَّهَا متوائمة مع القيد لا أن يكون القيد أو التقيد مَأْخُوذاً فيها، ونحن نشير إِلَىٰ تلك الْحِصَّة بعنوان >الْمُقَيِّد< أو >التقييد< ولكننا نشير بذلك إِلَىٰ ذات تلك الْحِصَّة من دون أخذ القيد أو التقيد فيها؛ كالعنوانين المشيرة في مثل >خاصف النعل< المشار به إِلَىٰ الإمام علي × في تلك القضية المعروفة الَّتِي يعرّف فيها ابن العباس عن الإمام × من دون أن يكون لعنوان >خصف النعل< أي دخل في إمامة أمير المؤمنين علي ×.
وهو قد ذكر هذا المطلب في مواضع شتى وعلى أساسه حاول التصدي للإشكالات الواردة عليه الَّتِي يلزم منها أخذ القيد أو التقييد في حكم من الأحكام، كأخذ قصد الأمر في مبحث التعبدي والتوصلي حيث يذكر & البيان نفسه هناك بِأَنَّنا لو أخذنا قيد الأمر في متعلق الأمر يلزم منه الدور وبهذه الطريقة حاول حل المشكلة هناك، كذلك يقول في المقام بأن وضع اللفظ للمعنى المراد إِنَّمَا هو عَلَىٰ نَحْوِ التواؤُم، أي: أن الواضع يضع للمعنى المراد بقيد الإرادة ولٰكِنَّهُ يضع لذات تلك الْحِصَّة من المعنى المتوائمة مع هذه الإرادة، لا المتوائمة مع التقيد أو قيدها، وذات تلك الْحِصَّة صادقة عَلَىٰ الخارج ويمكن حملها عَلَىٰ الخارج، وَبِالتَّالِي يرتفع هذا المحذور.
دراسة هذه الإجابة:
أَوَّلاً: أن كبرى هذا الكلام غير سديدة؛ وهذا نقاش كلي معه حيث طرح الْحِصَّة المتوائمة في مطارح متعددة من البحوث الأصولية أو حَتَّىٰ في البحوث الفقهية حيث تصوّر القضية بنحو لا يكون القيد فيها دَاخِلاً في الْمُقَيَّد ولا التقيد ويكون كلاهما خارجان عنه، ولٰكِنَّهُ أمر لا يمكن تعقّله عَلَىٰ شرح يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التعبدي والتوصلي من أن خروج القيد والتقيد في المثال المذكور إِنَّمَا يَصِحُّ في الموارد الَّتِي يشير فيها الْمُقَيِّد إِلَىٰ حصة وجودية، أي: أن تكون تلك الْحِصَّة متشكلة وموجودة ومتشخصة مع قطع النظر عن عنوان الْمُقَيَّد، وهذا إِنَّمَا يَصِحُّ في القضايا الوجودية الخارجية، وَأَمَّا في المفاهيم والجوامع والطبائع فيستحيل أن يكون التقييد عَلَىٰ نَحْوِ خروج القيد والمقيد كلاهما؛ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ لا يوجد شيء غيرُ ذات المفهوم والجامع وَحِينَئِذٍ لا يُعقل التخصيص فيه. إذن، فقد حصل الخلط لديه & بين التقييد في عالم المفاهيم وبين العناوين الْمُقَيَّدة المشيرة إِلَىٰ الموجودات الخارجية.
إذن، لا مكان للحصة المتوائمة في عالم المفاهيم وتقييد المفاهيم (وَالَّذِي يرتبط به باب الإطلاق والتقييد) ويستحيل تقييد مفهوم مطلق وطبيعي من دون أخذ التقيُّد بالقيد فيه، والمقام من هذا القبيل؛ لأَن الواضع يريد تقييد المعنى والمفهوم بقيدٍ لكي يخرجه من إطلاقه، ولا يمكن تقييد هذا المفهوم من دون أخذ التقيد بالإرادة؛ فَإِنَّهُ لو لم تؤخذ الإرادة ولا التَّقَيُّد بالإرادة، لا يبقى في البين إِلاَّ المفهوم والمعنى، وَحِينَئِذٍ لو لم تكن الإرادة موجودة أَيْضاً يكون ذاك المعنى مَوْجُوداً ويدل اللفظ عليه، ولا يكون الآخر دَالاًّ عَلَىٰ الإرادة، وَبِالتَّالِي لا يَصِحُّ أساسُ الْحِصَّة المتوائمة في باب تقييد المفاهيم.
وَثَانِياً: أن جوابه & لا يرفع المحذور الثَّانِي ولا الثالث، لا سيما المحذور الثَّانِي، كما أَنَّهُ لا يرفع الإشكال الثَّانِي فيما لو كان المقصود منه تلك الْحِصَّة الخاصة. فلنفرض أن التَّقَيُّد خارج عن المعنى الموضوع له ولكن حيث أُخذ التواؤمُ مع الإرادة قَيْداً ولو عَلَىٰ نَحْوِ الْحِصَّة المتوائمة، إذن ما لم يلحظ الإرادةَ قبل الاستعمال، لا يَتُِمّ منه الاستعمال في الْحِصَّة المتوائمة، فيبقى الإشكالان الثَّانِي والثالث عَلَىٰ حاليهما.
مناقشة السيد الخوئي لكلام الخراساني
وَالسَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & فقد ناقش توجيه الملاحظات الثلاث إِلَىٰ كلام الخراساني بأن الإرادة ليست قَيْداً للمعنى الموضوع له وَإِنَّمَا قيد للعلقة الْوَضْعِيَّة والتعهد كما تقدم، والمعنى الموضوع له أو المتعهَّد متقوم بذات المعنى لا بقيد الإرادة حَتَّىٰ يلزم منه تلك الإشكالات الثلاثة، فلا موضوع أَسَاساً للإشكالات الثلاثة وَفْقاً لتفسيره لتبعية الدَّلاَلَة للإرادة. ثم يقول &: إن هذا الكلام الَّذِي نقوله ليس فقط جارياً عَلَىٰ مسلك التَّعَهُّد بل عَلَىٰ المشهور أن يقول بمقولتنا، وإن لم يقولوا بها. أي: يجب عليهم أن يقولوا بأن العلقة الْوَضْعِيَّة الَّتِي تحدث من منطلق كون ذلك حقيقة للوضع إِنَّمَا هي مُقَيَّدة بما إذا توفرت الإرادة لدى الْمُتَكَلِّم وأراد أن يتحاور؛ لأَنَّنَا نتساءل عن أن الاعتبار الوضعي لأي شيء هو؟ فلا شك في أَنَّهُ لأجل المحاورة، فيحكم العقل حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ لا يعتبر ذاك الاعتبار والإنشاء أكثر من الهدف والإطلاق في الوضع ليس إِلاَّ لغواً. وَبِالتَّالِي يجب عليهم أَيْضاً أن يقولوا بأن هذا الاعتبار الوضعي إِنَّمَا هو في حدود غرض الواضع وهو عبارة عن دلالة اللفظ في مقام المحاورة والتفهيم، لا في مثل الغافل والنائم والساهي وأمثالها.