بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/11/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{المقدمة\الدلالات اللفظية\الواضع وتقسيمات الوضع}

الجلسة الـ17، السبت 12/11/1430 (=31/10/2009)

تبعية الدَّلاَلَة للإرادة

البحث الجديد هو البحث عن مسألة معروفة دخلت إِلَىٰ البحوث الأصولية بمناسبة النقاش المعروف الَّذِي حصل بين الخواجة الشيخ نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي وتعنون البحث بعنوان >تبعية الدَّلاَلَة للإرادة وعدم تبعيتها لها< بِأَنَّهُ هل الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تابعة للإرادة أم لا؟ وتأريخ هذا البحث هو أن الخواجة الطوسي كان يقسم الدلالات اللفظية بالتقسيم المنطقي المعروف، أي: الدَّلاَلَة المطابقية عَلَىٰ تمام المعنى والدلالة التضمنية عَلَىٰ جزء المعنى والدلالة الالتزامية عَلَىٰ الخارج من المعنى. فأشكل العلامة عليه بأن ذلك ينتقض بما إذا كان اللفظ كلفظ >الإنسان< دالاًّ عَلَىٰ الحيوان الناطق أَيْضاً حيث يَدُلُّ عَلَىٰ الناطق بالدلالة التضمنية، ويطلق في اللغة أَيْضاً عَلَىٰ خصوص الناطق الَّذِي دلالته عَلَىٰ الناطق دلالة مطابقية، وَحِينَئِذٍ يلزم منه أن يكون الناطق مدلولاً مطابقياً إِلَىٰ جانب كونه مدلولاً تضمّنياً أَيْضاً. فتتداخل هذه الأقسام فيما بينها وليست مستقلة عن بعضها وقسيما لبعضها.

هنا أجاب بأن الدلالتين التضمنية والمطابقية لا تجتمعان مع بعضهما، بل هما تابعتان لإرادة الْمُتَكَلِّم؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّم في مقام استعمال كلمة >الإنسان< إما تتعلق إرادتُه بالحيوان الناطق في استعمال واحد وفي دلالة واحدة، وإما أَنَّهُ يريد الناطق. وَحِينَئِذٍ إذا كان مقصوده الحيوان الناطق تكون الدَّلاَلَة تضمنيةً ولا تكون مطابقيّة، وإذا كان مقصوده من الإنسان هو الناطق فحسب المشترك معه، يُعَدُّ هذا من الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ ولا تعود مدلولاً تضمنياً، وحيث أن الْمُتَكَلِّم لا يوجد لديه في كل استعمال أكثر من إرادة استعمالية واحدة فمن الطبيعي حِينَئِذٍ أن تكون الدَّلاَلَة إما تضمنية أو مطابقية.

إذن، إن الألفاظ المشتركة بين المركب وجزئه دلالتها في مرحلة الاستعمال إما مطابقية وإما تضمنية؛ لأَن الدَّلاَلَة تابعة لإرادة الْمُتَكَلِّم بِأَنَّهُ في أي واحد من هذين المعنيين المشتركين استعمل اللفظ؟ فلا يجتمعان مع بعضهما في دلالة واحدة، وَبِالتَّالِي لا يرد النقض.

وهذا البحث في محله بحث صحيح، بمعنى أَنَّهُ أَوَّلاً أن مقصوده هناك من المراد هو المراد الاِسْتِعْمَالِيّ ومن الدَّلاَلَةِ الدَّلاَلَةُ الاستعماليةُ بِأَنَّهُ في أي شيء تم استعماله؟ وما ذكره من التقسيم لِلدَّلاَلَةِ اللفظية إِلَىٰ المطابقية والتضمنية والالتزامية في المدلول الاِسْتِعْمَالِيّ وكونه تابعاً للإرادة، إِنَّمَا يقصد به أن تشخيص أن هذه الدَّلاَلَة هل هي تضمنية أم مطابقية يرجع إِلَىٰ أن نرى أن الْمُتَكَلِّم في كل استعمال لا يوجد لديه أكثر من استعمال واحد وإرادة استعمالية واحدة، بِنَاءً عَلَىٰ عدم إمكان الاستعمال في أكثر من معنى أو عدم عرفيته. وَحِينَئِذٍ نقول بأن معرفةَ أن الْمُتَكَلِّم استعمل اللفظ في أي واحد من المعنيين المشتركين تابعةٌ للإرادة الاستعمالية لِلْمُتَكَلِّمِ، والمقصود من التبعية أَنَّهُ طالما أن الإرادة الاستعمالية لا يمكنها أن تكون موجودة في لفظ واحد أكثر من هذه الإرادة، والمتكلم إما يريد إفهام وإخطار المركب وإما يريد إفهام جزء المركب، ومن هنا تكوّن الدَّلاَلَة وتشكّلها تابعة للإرادة بِأَنَّهُ لو قصد إفهام أيّ منهما لا توجد أكثر من دلالة مطابقية أو تضمنية ولا تجتمع الدلالتان مع بعضهما ولا يرد النقض.

ولكن هذا الكلام تسرّب فيما بعد إِلَىٰ كلمات الأصوليين وتغير البحث وتحول إِلَىٰ بحث آخر حيث بحث الأصوليون عن أساس تبعية الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة اللفظية (لا الدَّلاَلَة الاستعمالية) للإرادة، أو أن الإرادة هل يمكنها أن تكون قَيْداً للمعنى ويكون اللفظ موضوعاً للمعنى المراد بما هو مراد الَّذِي هو إرادة المدلول وقيد للمعنى الموضوع له أم لا يمكن ذلك؟

والواقع أن البحث يدور في ثلاثة محاور:

الأول: هل أن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة دلالة تَصَوُّرِيَّة أم دلالة تَصْدِيقِيَّة، وإن قلنا بأن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصَوُّرِيَّة كيف تكون الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة ومن أي شيء تُستفاد؟

الثَّانِي: أَنَّهُ هل يمكن للدَّلاَلَةِ الْوَضْعِيَّة (سواء كانت تَصَوُّرِيَّة أم تَصْدِيقِيَّة) أن تكون متوقفة عَلَىٰ الإرادة وتابعة لها، بمعنى أَنَّهُ يجب إحراز وجود الإرادة لدى الْمُتَكَلِّم حَتَّىٰ تتشكل الدَّلاَلَةُ أم لا؟

والبحث الثالث: في إمكان أخذ الإرادةِ قَيْداً للمعنى والقول بأن اللفظ وُضع للمعنى المراد بما هو مراد. أي: أننا تارة نشترط الإرادةَ في تحقق الدَّلاَلَة فيكون هذا هو البحث الثَّانِي، وأخرى نشترط الإرادةَ قَيْداً لمدلول اللفظ فيكون البحث الثالث.

الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصَوُّرِيَّة أم تَصْدِيقِيَّة

أَمَّا البحث الأول فقد توضّح مِمَّا تقدم أَنَّ مسلك التَّعَهُّد يبتني عَلَىٰ أن المدلول الوضعي مدلول تَصْدِيقِيّ؛ لأَن التَّعَهُّد قضية شرطية تَصْدِيقِيَّة بين فعلين أحدهما استعمال اللفظ والآخر قصد إخطار معنى معين من ذاك اللفظ إِلَىٰ ذهن المخاطب، وهذان الطرفان لِلدَّلاَلَةِ ليسا إِلاَّ أمرين تصديقيين، كما أن التَّعَهُّد في الفاعل المختار يُؤَدِّي إِلَىٰ الكشف التَّصْدِيقِيّ والانتقال من تحقق الشَّرْط إِلَىٰ تحقق المتعهد به، وفي طول هذا التَّعَهُّد كُلَّمَا رأينا أن المستعمِل استخدم الفعل الأول نكشف عن الفعل الثَّانِي كسائر الالتزامات العقلائية الَّتِي تكون منشأ لِلدَّلاَلَةِ التَّصْدِيقِيَّة، ومن هنا إذا تصوّرنا اللفظَ أو سمعناه من اصطكاك حجر بحجر من دون أن يستعمله أحدٌ فلا تتشكل الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة. ومن الطبيعي أن بإمكان الذهن أن ينتقل انتقالاً تصورياً إِلَىٰ المعنى ولٰكِنَّهُ أنس ذهني يحصل بين تصور اللفظ وتصور المعنى وليس وضعاً أو مدلولاً وضعياً، والدلالة الْوَضْعِيَّة هي تلك القضية التعهدية التعليقية التَّصْدِيقِيَّة. إذن، وَفْقاً لهذا المسلك تكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصْدِيقِيَّة، وبناء عليه يصل الدور إِلَىٰ الحديث عن البحث الثَّانِي والثالث بِأَنَّ ذلك مشروط بوجود الإرادة فتتضح التبعيةُ بالمعنى الأصولي (لا بالمعنى المراد لدى الخواجة الشيخ نصير الدين الطوسي &).

أَمَّا بِنَاءً عَلَىٰ المسلكين الآخرين فالمسألة واضحة على مسلك القرن الأكيد وقد قلنا بأن هذه الدَّلاَلَة الَّتِي تحصل عَلَىٰ هذا الأساس تَصَوُّرِيَّة بحتة وهو كذلك وَفْقاً لتعريف الخراساني عن الوضع بالاختصاص بأن تكون نتيجة الوضع عَلَىٰ نَحْوِ اسم المصدر؛ لأَنَّهُ وَفْقاً له يكون الوضع أَمْراً تكوينياً وتلازماً تصورياً بين تصور اللفظ وتصور المعنى عَلَىٰ أننا لو سمعنا اللفظ من الحائط لانتقلنا إِلَىٰ المعنى أَيْضاً، وهذا الاختصاص والتلازم تصوري.

وكذلك الأمر بِنَاءً عَلَىٰ مسلك الاعتبار؛ لأَن القائلين به يقصدون بالاعتبار جعل الدَّلاَلَة التَّصَوُّرِيَّة للفظ عَلَىٰ المعنى في نفسه وبمعزل عن إرادة الْمُتَكَلِّم بنحو يَدُلُّ اللفظ عَلَىٰ المعنى في نفسه.

إذن، الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة للفظ عَلَىٰ المعنى تكون تَصَوُّرِيَّةً وَفْقاً لغير مسلك التَّعَهُّد (ولا تكون تَصْدِيقِيَّةً) فننتقل إِلَىٰ المعنى حَتَّىٰ من اصطلاك حجر بحجر، وهذا هو الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة.

نشوء الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة

أَمَّا الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة فتنشأ حينما يقوم الْمُتَكَلِّم باستعمال لفظ في معنى ونحن نكشف منه التصديق من القصد الاِسْتِعْمَالِيّ (أَيْ: قصد إفهام المعنى والقصد الجدي، أي: إرادة الإخبار أو الإنشاء)، وهذا ما لا يرتبط بالدلالة الْوَضْعِيَّة واللغوية وَإِنَّمَا الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة مجرد آلية وأداة لديه. أَمَّا الدلالة التَّصْدِيقِيَّة عَلَىٰ قصد الاستعمال والجد فهي من باب الظهور الحالي والطبعي لمقام الاستعمال حيث أن الإنسان العالم بالأوضاع اللغوية والملتفت إِلَىٰ الدَّلاَلَة التَّصَوُّرِيَّة للألفاظ عَلَىٰ المعنى حينما يستعمل تلك الألفاظ في مقام التحاور يقصد إفهام المعنى البتة، ومن ورائها يرمي إِلَىٰ المراد الجدي الإخباري أو الإنشائي، وهذه كلها كشوفات أو دلالات تَصْدِيقِيَّة تنشأ من ظهور حال الْمُتَكَلِّم في مقام التحاور. وإذا كانوا يطلقون عليها اسم >الدَّلاَلَة اللفظية< أو >الظهور اللفظي< إِنَّمَا يريدون به أن هذه الظهورات الحالية قائمة بالمتكلم باللفظ في مقام التحاور، لا أن تكون الدَّلاَلَة اللغوية للفظ عَلَىٰ المعنى الَّتِي تحصل بالوضع اللغوي هي هذه الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة نفسها؛ فَإِنَّ الوضع إِنَّمَا يخلق تلك القابلية والدلالة التَّصَوُّرِيَّة بين اللفظ والمعنى لكي يتأتّى لِلْمُتَكَلِّمِ في مقام التحاور أن يستخدمها كآلةٍ وأداةٍ ويقصد إخطار المعنى إِلَىٰ ذهن المخاطب، ولكن الكاشف عن وجود ذاك القصد إِنَّمَا هو ظهور حال الْمُتَكَلِّم وجريه عَلَىٰ وفق النظام اللغوي والدلالات التَّصَوُّرِيَّة.

إذن، وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد تكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصْدِيقِيَّة وَوَفْقاً لمسلك المشهور ومسلك القرن الأكيد تكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصَوُّرِيَّة وتحتاج الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة عَلَىٰ قصد الْمُتَكَلِّم إِلَىٰ كاشف آخر هو تلك الظهورات الحالية والسياقية الموجودة في مقام التحاور.

والمهم هو البحثان الثَّانِي والثالث المرتبطان بتبعية الدَّلاَلَة للإرادة.

تبعية الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة للإرادة

تقدم في المسألة الثانية أن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تابعة للإرادة بمعنى أَنَّهُ ما لم يحرز وجود الإرادة لدى الْمُتَكَلِّم لا يكون لدلالة اللفظ عَلَىٰ المعنى أيّ معنى، وهذا مقبول به وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد. أَيْ: أَنَّهُ قابل للطرح البدوي. أعني: لقائل أن يقول: إن هذه الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة التَّصْدِيقِيَّة وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد تابعة لوجود القصد وطالما لا توجد إرادةٌ وقصد في البين لا تتكوّن هذه الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّة، كما إذا كان الْمُتَكَلِّم نائماً أو هازلاً فاقداً للقصد، فتكون هذه الدَّلاَلَة تابعة للقصد والإرادة، وَحِينَئِذٍ نقول: يوجد في هذه المسألة احتمالان كلاهما مبتليان بالإشكال:

احتمالان في المسألة وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد

الاحتمال الأول: أن يدعي أحدهم التبعية بمعنى أَنَّ دلالة اللفظ عَلَىٰ المعنى تابعة لإحراز أن الْمُتَكَلِّم أراد إفهام هذا المعنى نفسه، وهذا واضح البطلان؛ لأَن المفروض أَنَّهُ يريد إفهام المعنى المدلول والمعنى الموضوع له، أي: أَنَّهُ طرف للتعهد والاستعمال يكشف عنه، ولا يمكن أن يكون متوقفاً عليه. أي: أَنَّهُ جزاء لتلك القضية التعهدية ولازم للملزوم الَّذِي يقع طرفاً لِلدَّلاَلَةِ التَّصْدِيقِيَّة، فلا يمكن أن يكون متوقفاً عليه؛ لأَنَّنَا لو أحرزنا أَنَّهُ أراد إفهام هذا المعنى في مرحلة سابقة، فقد حصلت الدَّلاَلَة وباتت من توقف الدَّلاَلَة عَلَىٰ الدَّلاَلَة وهو دور محال.

الاحتمال الثَّانِي: أَنَّهُ يحتمل أن يكون مقصودهم من هذا المسلك توقف الدَّلاَلَة عَلَىٰ القصد وإرادة المعنى المعين عَلَىٰ أصل وجود الإرادة لديه إجمالاً، سواء إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي أو أي معنى آخر يجب إحرازه في مرحلة سابقة بأن الْمُتَكَلِّم في مقام إخطار المعنى وأن أصل إرادة معنى من المعاني موجودة لديه حَتَّىٰ نستطيع أن نقول: حيث أَنَّهُ تعهد بذاك التَّعَهُّد نكشف أَنَّهُ يريد إفهام ذاك المعنى الحقيقي في المورد الَّذِي لا توجد فيه قرينة عَلَىٰ المجاز. وهكذا تتوقف الدَّلاَلَة عَلَىٰ إرادة المعنى الحقيقي وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد عَلَىٰ الإرادة بمعنى أصل الإرادة ووجود قصد الإفهام لديه، خِلاَفاً لموارد يكون الْمُتَكَلِّم فيها نائماً أو هازلاً أو ساهياً؛ فَحِينَئِذٍ لا يوجد لديه أصل إرادة الإفهام.

وهكذا لا يلزم الدور ولا اللغوية؛ لأَن ما يَدُلُّ عليه اللفظ هو إرادة المعنى الحقيقية خاصةً وما هو متوقف عليه هو امتلاك أصل قصد الإفهام والإخطار، فهذا لا يكون لا دوراً ولا لغواً، بل هو لازم وضروري أَيْضاً؛ لأَنَّهُ وَفْقاً لمسلك التَّعَهُّد العقلاء الَّذِي تعهدوا بهذا التَّعَهُّد إِنَّمَا يتعهدون به فيما إذا كانوا في مقام التحاور وإخطار المعاني، أَمَّا لو كانوا يهذون أو كانوا نائمين ولم يكونوا في مقام التحاور فَحِينَئِذٍ لا يمكن التَّعَهُّد؛ فَإِنَّ التَّعَهُّد إِنَّمَا هو فيما إذا كان ملتفتاً ومختاراً وفي مقام التحاور. إذن، إن القضية التعهدية الْوَضْعِيَّة مُقَيَّدة ومضيقة ذاتاً بالموارد الَّتِي يوجد فيها أصل التحاور وإرادة الإفهام وهذا هو معنى تبعية الدَّلاَلَة للإرادة. وقد ذكر هذا الوجه لتبعية الدَّلاَلَة للإرادة بِنَاءً عَلَىٰ مسلك التعبد، وَبِالتَّالِي ما لم يحرز أن الْمُتَكَلِّم يوجد لديه أصل الإرادة والقصد الاِسْتِعْمَالِيّ لا تَتُِمّ هذه الدَّلاَلَة التعهدية.

الإشكال عَلَى الاحتمال الثَّانِي:

إِلاَّ أن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & أورد عَلَىٰ ذلك بأن هذا الكلام وإن كان معقولاً في عالم الثبوت إِلاَّ أَنَّهُ يهدم أساس مسلك التَّعَهُّد؛ لأَنَّنَا نتساءل أَنَّهُ كيف تحرزون قصد إخطار أصل المعنى؟ لأَن الدَّلاَلَة عَلَىٰ المعنى الحقيقي بات متوقفاً عَلَىٰ امتلاكه لإرادة جامع المعنى وقصده، وَحِينَئِذٍ بأي شيء تحرزونه حَتَّىٰ يمكنكم القول بوجود هذه الدَّلاَلَة التعهدية؟ لأَنَّهُ يجب إحرازه أَوَّلاً وما لم يَتُِمّ إحرازه لا يَتُِمّ إحراز شرط التَّعَهُّد وموضوعه وَبِالتَّالِي تنهدم الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة إذا كنتم تريدون إحرازها بالظهور الحالي وأمثاله والقول بِأَنَّهُ حيث أن الْمُتَكَلِّم في مقام البيان والتحاور وملتفت فيكون قاصداً لإخطار المعنى؛ فَإِنَّ معنى ذلك إمكانية كشف القصد والإرادة بالظهور الحالي، بل إننا بحاجة إِلَىٰ هذا الظهور الحالي دَائِماً حَتَّىٰ يمكننا الوصول إِلَىٰ الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة التعهدية، وَحِينَئِذٍ يقال: لطالما أمكن كشف أصل وجود الإرادة وقصد الإفهام بالظهور الحالي كذلك تحصل خصوصياته الَّتِي هي إرادة المعنى الحقيقي لا المجازي بهذا الظهور الحالي أَيْضاً، فلا حاجة حِينَئِذٍ إِلَىٰ مسلك التَّعَهُّد؛ لأَنَّهُ يقال حِينَئِذٍ بأن الْمُتَكَلِّم الملتفت والعالم بالمعنى التصوري للفظ إن لم يأت بقرينة عَلَىٰ المجاز يريد إخطار ذاك المعنى التصوري للفظ ليس إِلاَّ، وهذا الظهور الحالي يماثل ذاك الظهور الحالي الموجود في أصل الإرادة وقصد الإفهام، والتفكيك بينهما وقبول أحدهما وإنكار الآخر ليس إِلاَّ مكابرة، وهذا الإشكال واضح جِدّاً.

إن قلت: إنَّهُ بِنَاءً عَلَىٰ مسلك التَّعَهُّد إِنَّمَا يكشف اللفظ عن قصد المعنى فيما إذا كان صادراً من الْمُتَكَلِّم في حال الاختيار والتوجه والالتفات وفي مقام التحاور دون حال النوم أو النسيان أو الخطأ أو ما إذا لم يكن في مقام التحاور؛ فإنها خارجة عن القضية التعهدية.

قلت: هذا الكلام صحيح، إِلاَّ أَنَّهُ ليس من تبعية الدَّلاَلَة عن الإرادة، بل هو من اشتراط الاستعمال الاختياري والملتَفت إليه وفي مقام التحاور في جانب التَّعَهُّد والإرادة تكشف عنه، لا أن تتوقف الدَّلاَلَة عليه.

تبعية الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة للإرادة عَلَى الاعتبار والقرن الأكيد

ولكن لا تتعقل تبعية الدَّلاَلَة للإرادة بِنَاءً عَلَىٰ المسلكين الآخرين اللذين تكون نتيجة الوضع عَلَىٰ أساسهما تلازماً تَصَوُّرِيّاً وليس تَصْدِيقِيّاً؛ ذلك لأَن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة وَفْقاً لذينك المسلكين تَصَوُّرِيَّة والإرادة الَّتِي هي أمر تَصْدِيقِيّ يستحيل أن تقع قَيْداً وطرفاً لتلازمٍ تَصَوُّرِيّ، والدلالة الاستعمالية الَّتِي هي تَصْدِيقِيَّة وناشئة من ظهور حال الْمُتَكَلِّم تكشف عن الإرادة وليست متوقفة عليها، وَبِالتَّالِي وَفْقاً للمسلك المشهور والصحيح لا معنى لتبعية الدَّلاَلَة للإرادة.