بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/11/06

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{المقدمة\الدلالات اللفظية\الواضع وتقسيمات الوضع}

الجلسة الـ14، الأحد 06/11/1430 (=25/10/2009)

انتهينا من الحديث عن حقيقة الوضع واستخلص منه أن الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة دلالةٌ تَصَوُّرِيَّةٌ بمحض الإحساس باللفظ فيها يَتُِمّ تصور المعنى إثر الاقتران المؤكد النوعيّ بين اللفظ والمعنى. فتكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة عَلَىٰ هذا الأساس تَصَوُّرِيَّة وليست تَصْدِيقِيَّةً كما هو الحال وَفق مسلك التَّعَهُّدِ. وهذا يُعَدُّ فارقاً كبيراً ونتيجة مهمة جِدّاً نستفيد منها في مواضع شتى من البحوث القادمة حيث تكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة تَصَوُّرِيَّةً بِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَىٰ مسلك القرن الأكيد، وَتَصْدِيقِيَّةً بِنَاءً عَلَىٰ مسلك التَّعَهُّد. وليست الدَّلاَلَةُ التَّصَوُّرِيَّةُ إِلاَّ أنس ذهني بحت بين اللفظ والمعنى، وحيث سلك المشهورُ مسلك التَّعَهُّد تكون الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة عندهم تَصَوُّرِيَّة وليست تَصْدِيقِيَّة، وسوف نقول إن شاء الله بأن الدَّلاَلَة التَّصْدِيقِيَّةَ مبنية عَلَىٰ أساس الظهور الحالي والطبعيّ، ومن هنا عرّف الخراسانيُّ الوضعَ بهذا الاختصاص والتلازم التصوريّ بين اللفظ والمعنى، ونص كلامه: >نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى< فيلزم من تصور اللفظ خطورَ المعنى إِلَىٰ الذهن.

إِلاَّ أن تعريف الخراساني ناقص؛ لأَنَّ هذا الاختصاص والاقتران والتلازم التصوري من نتائج الوضع وليس الوضع نفسه، إِلاَّ أن يكون الخراساني بصدد بيان سنخ الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة وليس في مقام إعطاء تعريف لحقيقة الوض

الجهة الثانية: من الواضع؟

ويقع البحث في الجهة الثانية وفق التقسيم المتقدم في معرفة الواضع، فهل الله تعالى هو الواضع أم البشر؟ نحن نعتقد بأن هذا البحث من البحوث الزائدة والاشتغال به يضيع علينا العمر؛ فَإِنَّهُ لا شك في أن الواضع هو البشر، طَبْعاً قد وهب الله تعالى للإنسان تلك القدرة والقوة لإدراك الألفاظ والاستفادة منها في مجال النطق وإيجاد المفردات والكلمات، ولعله تعالى هدى الإنسان عبر الأنبياء ^ إِلَىٰ التحاور بالألفاظ كما أَنَّهُ تعالى أخذ عَلَىٰ نفسه هدايتهم في شتى المجالات، ولكن ذلك لا يعني إلـٰهيَّة الوضع، ومن الواضح أَيْضاً أَنَّ تعدّدُ اللغات والأوضاع اللغوية والمتغيرات الطارئة عليها مدى التأريخ ومسائل أخرى لا نرى حاجة لبيانها، كل ذلك يشهد أَيْضاً عَلَىٰ كون الإنسان واضعاً للغة.

تقسيمات الوضع:

وقد ذكر الأصوليون أربعة تقسيمات للوضع نذكرها فيما يلي:

التقسيم الأول: تقسيم الوضع بلحاظ تصور المعنى الموضوع له، سواء كانت حقيقة الوضع عبارة عن الاعتبار أم التَّعَهُّد؛ ذلك لأَنَّ لحاظ المعنى أمر ضروريّ، ومن هنا في مقام الوضع من حيث كيفية لحاظ المعنى قسّموا أَوَّلاً المعنى المتصور للوضع والمعنى الَّذِي يخصصون له اللفظ إِلَىٰ أربعة أقسام:

الأول: الوضع الْعَامّ والموضوع له الْعَامّ.

الثَّانِي: الوضع الْخَاصّ والموضوع له الْخَاصّ.

الثالث: الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ.

الرَّابِع: الوضع الْخَاصّ والموضوع له الْعَامّ.

إذن، إذا كنا نتصور معنى من المعاني في مقام الوضع وكان كُلِّيّاً أو جزئياً يوضع لذاك المعنى فيكون الوضع عاماً والموضوع له عاماً أو الوضع خَاصّاً والموضوع له خَاصّاً، وإذا تَمَّ الوضع عبر تصور معنى عام وكليّ لأفراد خاصة، وأخيراً إذا تم وضعه عبر الكل وكان ذلك ممكناً يُسَمَّىٰ ذلك بالوضع الْخَاصّ والموضوع له الْعَامّ.

ولا يوجد كلام في إمكان، بل في وقوع القسمين الأولين، كالأسماء والأجناس والطبائع وأسماء الأعلام، وَإِنَّمَا وقع الحديث والكلام في إمكان القسمين الثالث والرابع والمشهور اختار إمكان القسم الثالث وامتناع القسم الراب

التقسيم الثَّانِي: تقسيم الوضع بلحاظ كيفية لحاظ اللفظ الموضوع، فَإِنَّهُ لو تم وضع لفظ محدَّد وخاص لمعنى من المعاني يكون الوضع شخصياً، أَمَّا لو وضع نوع لفظٍ كهيئة >الفاعل< (القابلة للانطباق عَلَىٰ المواد الكثيرة من أسماء الأحداث والمبادئ) لفاعل ذاك الحدث يكون الوضع نوعياً، وكذلك وضع مادة >ض ر ب< في كل مشتق من المشتقات، ولا يجب حِينَئِذٍ أن يضع لذاك المعنى مادة الماهية لِكُلّ مشتق معين.

التقسيم الثالث: وهو تقسيم الوضع بلحاظ منشأ الوضع إِلَىٰ التعييني والتعيني والوضع بالاستعمال؛ فَإِنَّ اللفظ في الوضع التعييني يوضع لمعنى معين، بينما في الوضع التعيني يتعين اللفظ بالتدريج في معنى من المعاني لكثرة الاستعمال ولو مجازاً وبالقرينة وتتحول شيئاً فشيئاً إِلَىٰ حقيقة في المعنى الجديد، ولعل أكثر الأوضاع اللغوية يدخل في الوضع التعيني.

والقسم الثالث ما أضفاه الأصوليون بأن الوضع قد يكون وضعاً بالاستعمال حيث يريد الواضع بالاستعمال الواحد أن يستعمل اللفظ في معنى من المعاني ويريد بهذا الاستعمال أَيْضاً أن يضع اللفظ للمعنى، وقد وقع البحث في إمكان أو امتناع هذا القسم أَيْضاً.

التقسيم الرابع: وهذا التقسيم الرابع ما يستفاد من كلمات الخراساني صاحب الكفاية وآخرين حيث لم يذكروه مُسْتَقِلاًّ ولكن يجدر أن يذكر كتقسيم مستقل وهو تقسيم الوضع أو العقلة الْوَضْعِيَّة إِلَىٰ الوضع المطلق والوضع الْمُقَيَّد والمشروط بقيد عَلَىٰ نَحْوِ يكون ذاك الشَّرْط قَيْداً للوضع لا أن يكون مَأْخُوذاً في الموضوع أو الموضوع له، وهذا القسم ما ذكره الخراساني قَيْداً في وضع المعاني الحرفية والاسمية وجعل استقلالية المعاني الاسمية والآلية للمعاني الحرفية قَيْداً للوضع؛ لأَنَّهُ لا يمكن للحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي أن يكونا قَيْداً للموضوع له، ولو وقع قَيْداً للموضوع له يلزم منه بعض المحاذير وَالَّتِي يقع البحث فيها بِأَنَّهُ هل يعقل هذا النحو من التقييد للوضع أو العلقة الْوَضْعِيَّة أم لا؟ إذن، هذا تقسيم رابع أَيْضاً.

دراسة أقسام الوضع بلحاظ تصور المعنى الموضوع له

أَمَّا التقسيم الأول (وهو تقسيم الوضع بلحاظ المعنى الموضوع له) فقد قلنا إن البحث عنه وقع في إمكان القسم الثالث والرابع حيث ذهب مشهور علماء الأصول إِلَىٰ إمكان القسم الثالث؛ لأَنَّ الْعَامّ يمكنه أن يكون وجهاً خَاصّاً وللأفراد ويُري خصوصية الفرد ولو بوجهه وعنوانه وهذا كاف للوضع، ولكن يستحيل القسم الرابع إِلاَّ إذا تحوّل من تصور الْخَاصّ إِلَىٰ تصور الْعَامّ؛ فَإِنَّ الْخَاصّ ليس وجهاً للعام، هذا مجمل الكلام الَّذِي ذكر في هذا التقسيم.

ومن الطبيعي أن هناك اتجاه مخالف للمشهور كالذي اختاره الإيرواني & وَالَّذِي كان تلميذاً للخراساني أو معاصراً له حيث يصر عَلَىٰ استحالة القسم الثالث أَيْضاً، بينما يقول الشيخ عبد الكريم الحائري & في >الدرر< بإمكان القسم الرابع. ومعنى ذلك وجود المخالفين في كلا الطرفين.

أَمَّا الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ فيقصد به أننا نريد في بعض المعاني أن نضع الألفاظ لمعانٍ خاصة ولأفراد ذاك المعنى لا لذاك المعنى الْعَامّ والكلي، ولكن عبر ذاك المفهوم الأول الْعَامّ والكليّ، وهذا ما يوجد في المعاني الحرفية والمعاني النسبية وغير المستقلة؛ فَإِنَّ ما يحضر في الذهن بشكل مستقل يكون مفهوماً اسمياً ولكن اللفظ لا يوضع لهذا المفهوم الاسمي وَإِنَّمَا يوضع لمصاديقه الَّتِي هي مفاهيم غير مستقلة ونسبية تتكون وتتشكل بتصور أطرافها، كمفهومي >نسبة الظرفية< و >نسبة الابتدائية< الذَيْن يوضع عبره حرفي >في< و>من< للظرفية بين الماء والكوب والابتدائية بين السير والبصرة في مثالي >الماء في الإناء< و>صرت من البصرة<.

وهكذا يتبين المراد من الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ؛ فَإِنَّهُ لا يقصد أن يوضع عبر مفهوم الإنسان الجامع لزيد (الَّذِي هو من أفراده) حَتَّىٰ يقال: كما أن الفرد ليس عنواناً عاماً إِلاَّ عَلَىٰ نَحْوِ الانتقال من تصوره إِلَىٰ تصور الْعَامّ كذلك الْعَامّ لا يكون عُنْوَاناً للخاص إِلاَّ بإضافة الخصوصيات الفردية، بل المراد منه أَنَّهُ يوضع عبر العنوان الْخَاصّ بالحمل الأولي للخاص بالحمل الشائع ويوضع من خلال النسبة بالحمل الأولي لواقع النسبة بالحمل الشائع وهذا معقول كمفهوم النسبة أو مفهوم الْخَاصّ الَّذِي هو نسبة بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع، وبإمكان الواضع أن يقوم بعملية الوضع عبر ذلك لواقع المعاني النسبية والخاصة مع أن هذا المعنى نفسه ليس نسبةً وليس قائماً بالطرفين، ولكن حيث أَنَّهُ يُري عنوان النسبية يمكن عبره القيام بعملية الوضع لواقع النِّسَبِ فيكون موضوعاً لها.

وهذه ميزة تلك العناوين الَّتِي هي في عالم المفاهيم لا تتحد مع مصاديقها مع أنها تُري مصاديقها، كمفهوم الجزئي؛ فَإِنَّ الجزئي نفسه ليس جزئياً بل هو كلي وجامع للجزئي ومصاديقه مفهوم زيد وعمرو وهي مفاهيم جزئية، بينما مفهوم الجزئي نفسه مفهومٌ كليٌ، ومن هنا يصدق عَلَىٰ جزئيات كثيرة. ولكننا حينما نقول: >الجزئي لا ينطبق عَلَىٰ كثيرين< إِنَّمَا نقول ذلك بلحاظ واقع مفهوم الجزئي، فلا يصدق عَلَىٰ نفسه ولا يمكن القول بأن مفهوم الجزئي نفسه لا ينطبق عَلَىٰ كثيرين أَيْضاً، بل هو مفهوم كلي وينطبق عَلَىٰ كثيرين خِلاَفاً لمفهوم الكلي الَّذِي هو كلي أَيْضاً (أي: تتوفر فيها تلك الميزة الَّتِي تُري، بمعنى أن الكلي بالحمل الشائع كلي وصادق عَلَىٰ نفسه أَيْضاً خِلاَفاً للجزئي فهو كلي بالحمل الشائع وجزئي بالحمل الأولي.

والحاصل أن لدينا عناوين ومفاهيم عامة تحكي عن الْخَاصّ، أي: أنها تُري الخصوصيةَ وتكون وجهاً لها، وبهذه الطريقة يتكوّن الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ، فيمكن الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ، وهذا بيان لكيفية جعل الْعَامّ وجهاً للخاص وأنه كيف يمكن الوضع الْعَامّ والموضوع له الْخَاصّ، ولكن لا يمكن الوضع الْخَاصّ والموضوع له الْعَامّ إِلاَّ بالانتقال من تصور الْخَاصّ إِلَىٰ تصور الْعَامّ.