30/10/29
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\الدلالات اللفظية\الأول: الوضع}
الجلسة الـ11، الاثنين 29/10/1430 (=19/10/2009)
مسلك التعهد
يعتقد أصحاب هذا المسلك بأن الدلالة الوضعية نوع من التعهد بين أبناء لغةٍ، حيث أن ابن اللغة لا يستعمل اللفظ إِلاَّ إذا قصد معنى معيناً، وعلى أساس هذه القضية التعهدية يَدُلُّ اللفظ عَلَىٰ المعنى. وهذا التعهد له أمثلة عرفية كثيرة كالتعهد بدق الجرس في المدارس لبدء الحصة الدراسة والانتهاء منها، فيدل هذا الجرس حين دقّه عَلَىٰ شروع الحصة الدراسية أو انتهائها. وَحِينَئِذٍ يقال في باب الألفاظ بأن أبناء اللغة يتعهدون في لغتهم أن يستعملوا اللفظ كُلَّمَا قصدوا معنى معيناً، فيتعهدون في كل لغة باستعمال كل لفظ في معنى خاص. ويمتاز هذا التحليل والتفسير (الَّذِي يُرجع حقيقةَ الوضع إلى التعهد وتلك القضية الشرطية التعهدية) بميزات وخصائص نذكرها فيما يلي:
ميزات مسلك التعهد:
الميزة الأولى: أن الوضع قضية شرطية تعليقية تعهدية تحصل بين أمرين، أحدهما استعمال اللفظ، والآخر قصد تفهيم المعنى وإخطاره إلى ذهن المخاطب. وفعل الإنسان يشكّل كلا طرفي هذه القضية الشرطية، وحيث أن الإنسان فاعل مختار ومريد يمكنه أن يوجِد بنفسه هذا التلازم بين فعلين من أفعاله، فإن التزم وتعهد بذلك يكون هذا الالتزام منشأ لارتباط ودلالة بين ذينك الأمرين، ومن الطبيعي أن هذا التلازم يؤدي إلى حدوث أنس ذهني وتلازم تصوري بين اللفظ والمعنى، ولكن ليس هذا التلازم التصوري حقيقة الوضع، وَإِنَّمَا الوضع هو تلك القضية التعليقية التعهدية.
الميزة الثانية: أن الدلالة الوضعية في هذا المسلك دلالة تصديقية، أي: توجد ملازمة بين الفعلين بِأَنَّهُ كُلَّمَا استعمل الْمُتَكَلِّمُ اللفظَ قصد إفهام ذاك المعنى الْخَاصِّ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَىٰ تصديق السَّامِع بأن الْمُتَكَلِّمَ أراد بهذا الكلام أن يخطر المعنى إلى ذهن السَّامِعِ، وهذه دلالة تصديقية كدلالة رؤية الدُّخَّانِ عَلَىٰ وجود النار. وبناءً عَلَىٰ هذه الميزة يكون المدلول الوضعيُ مُتَّحِداً مع المقصود الاِسْتِعْمَالِيِّ، ومن هنا يجب أن يكون اِسْتِعْمَالِيّاً حَتَّىٰ تحصل دلالة وضعية في المقام، ولو لم يكن هناك مستعمِل كما إذا سمعنا اللفظ من الحائط أو من اصطكاك حجر بحجر (حيث يتصور ذاك المعنى في الذهن) لا تكون الدلالة وضعية، وَإِنَّمَا هي أنس ذهني تصوري؛ لأنها تفتقد إِلَىٰ قصد الإفهام. إذن، بِنَاءً عَلَىٰ هذا المسلك لا تكون الملازمة بين تصور اللفظ والمعنى دلالةً وضعية، بل هي دلالة وضعية تَصْدِيقِيَّة.
الميزة الثالثة: أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ أن يتعهد بهذا التعهد النوعي والعام؛ لأَنَّهُ ما لم يتعهد به لا تتشكل هذه الدَّلاَلَةُ، وحيث أن لِكُلّ إنسانٍ تعهده والتزامه الَّذِي يكشف عن قصده فيعتبر كلُّ مستعمِل مُتَعَهِّداً وَوَاضِعاً سواء كان بالأصالة أم بالتبع.
إشكاليات مسلك التعهد:
ولكن هذا التفسير وَالتَّحْلِيل لحقيقة الوضع واللغة مِمَّا لا يمكن قبوله، وتوجّه إشكالات عديدة إِلَىٰ هذا المسلك يمكن ذكرها في قسمين:
القسم الأول من الإشكالات:
وهو أن مسلك التعهد عاجز عن تفسير كل ما يراد من الوضع واللغة؛ لأَنَّهُ لو كانت القضية التعهدية هي المنشأ للغة وَلِلدَّلاَلَةِ الْوَضْعِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يمكن تصوير هذه القضية التعليقية وتنظيمها في صُور وأشكال لا يَتُِمّ شيء منها:
الشكل الأول: أن يكون طرفا القضية التعهدية هكذا: >كُلَّمَا قصد المعنى جاء باللفظ<، فكلما أراد إخطار >الحيوان المفترس< يتعهد أَنَّهُ يستعمل كلمة >الأسد< من دون أية قرينة. فيكون الشَّرْط في هذا الشكل هو >قصد إفهام المعنى< والجزاء >استعمال اللفظ والتلفظ به<، فإذا كان التعهد عَلَىٰ هذا النحو فسوف لا يكشف هذا التعهد عن قصد المعنى للسامع؛ لأَنَّ الْمُتَكَلِّم تعهّد أَنَّهُ كُلَّمَا قصد المعنى يأتي باللفظ، لا أَنَّهُ كُلَّمَا أتى باللفظ يقصد المعنى. أي: أن قصد المعنى يصبح شرطاً وملزوماً للفظ الَّذِي هو اللازم، وقد يكون اللازم أعم من الملزوم. وإذا عكسنا الكلام وقلنا بأن مفاد القضية التعهدية هو أَنَّهُ كُلَّمَا أتى باللفظ قصد إفهامَ المعنى بأن يكون الإتيان باللفظ شرطاً وقصد الإفهام جزاءً ولازماً والملزوم يكون مُسَاوِياً أو أخص من اللازم، فَحِينَئِذٍ كُلَّمَا يتواجد الملزوم يتواجد معه اللازم أَيْضاً، وَبِالتَّالِي كُلَّمَا يأتي باللفظ يكون قاصداً لإخطار المعنى، فيرتفع الإشكال.
إِلاَّ أن هذا الشكل يواجه مشكلة أخرى؛ لأَنَّهُ:
أَوَّلاً: أن عكس هذه القضية يصدق عادةً في المتكلمين، أي: أن الْمُتَكَلِّم أَوَّلاً يقصد إفهام المعنى ثم يستخدم اللفظ لهذا الغرض، لا أَنَّهُ يقصد تفهيم المعنى تبعاً لإتيانه باللفظ.
ويرد عليه أن المستعمِل يتعهد بالجانب السلبي لتلك القضية، أي: يتعهد بأن لا يأتي باللفظ أَبَداً ما لم يقصد تفهيم المعنى، وهكذا يندفع ذينك الإشكالين.
ولكن يفسح المجال هنا أمام بحث آخر وهو أَنَّ الالتزام بهذه القضية التعهدية (بِأَنَّهُ لن يستعمل اللفظ إِلاَّ إذا أراد تفهيم المعنى) يُلزم المتعهد أن لا يستعمل اللفظ في المعنى المجازي من دون قرينة؛ لأَنَّهُ خلاف للتعهد المذكور، مع أن اللغة مليئة بمثل تلك الموارد؛ لأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ في بعض الموارد يهدف إِلَىٰ الإجمال أو الإبهام أو التورية وأمثالها، أو أَنَّهُ يعتمد عَلَىٰ قرائن منفصلة، علماً أن جميع تلك الاستعمالات صحيحة وتحظى بالقبول لدى أهل اللغة.
وقد يجيب عنه أصحاب هذا المسلك بِأَنَّنَّا في مثل تلك الموارد نلتفت إِلَىٰ قيدين وشرطين هما:
الأول: أن لم يكن ذاكراً للقرينة المتصلة.
الثَّانِي: أن لا يقصد الإجمال والإبهام؛ لأَنَّهُ بنفسه غرض لغوي أَيْضاً.
ولكن حيث أن هذا القصد قليل ونادر ومخالف لظاهر حال الْمُتَكَلِّم أَيْضاً، فيتيسر إحراز هذين القيدين، وحينما يستعمل الْمُتَكَلِّمُ اللفظَ من دون أن يردفه بالقرينة، نكشف عن أَنَّهُ قصد المعنى الحقيقي.
إِلاَّ أن طريقة الحل هذه تعني عدمَ الحاجة إِلَىٰ التَّعَهُّد في مقام الكشف عن المقصود الاِسْتِعْمَالِيّ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَإِنَّمَا الظهورات الحالية تكشف عنه. أي: كما يُنفى بالظهور الحالي قصدُ الإجمال والإبهام والتقية وغيرها، كذلك نكشف عن أصل قصد المعنى الحقيقي بتلك الظهورات الحالية ولا نعوز التعهدَّ؛ فَإِنَّ وجود تلك الملازمة التصورية الْوَضْعِيَّة بين اللفظ والمعنى واقتضاء اللفظ لإخطاره إِلَىٰ الذهن وقصد المحاورة والتفهيم والتفهم يكفي لانعقاد الظهورات الحالية الكاشفة عن القصد الاِسْتِعْمَالِيّ والقصد الجدي لِلْمُتَكَلِّمِ.
وعليه، فإن الإجابة المذكورة تُغنينا عن مسلك التعهد من أساسه وتهدم مبناه؛ لأَنَّهُ لا وجه حِينَئِذٍ للاعتقاد بتصديقية الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة وافتراض كل مستعمل واضعاً.