30/10/28
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\الدلالات اللفظية\الأول: الوضع}
الجلسة الـ10، الأحد 28/10/1430 (=18/10/2009)
مسلك الاعتبار:
أَمَّا مسلك الاعتبار فيفسِّر وضعَ الأمر الاِعْتِبَارِيّ والإنشائي بالجعل والافتراض والاعتبار حيث يحدث في طول هذا الاعتبار والإنشاء، انسباقُ المعنى من اللفظ أو الدلالةُ اللفظية أو الاختصاصُ وترابطُ الملازمة التصورية بين اللفظ والمعنى. طَبْعاً، اختلف الأصوليون في صياغة هذا الأمر الإنشائي والاعتباري وذكروا صيغاً مختلفة منها أن معنى >وضع اللفظ عَلَىٰ المعنى< هو أن الواضع جعل اللفظ عَلَىٰ ذاك المعنى كما تُجعل إشاراتُ المرور في الطريق لتدل عَلَىٰ اجتياز عدة فراسخ مَثَلاً، وكذلك الواضع حيث يقوم بعملية الوضع اعتباراً من عنده، وليس حقيقة، ومثاله الآخر وضع كلمة >زيد< في أسماء الأعلام عَلَىٰ المولود الجديد. ومن الطبيعي أن علامات المرور أمور حقيقية توضع في أماكن من العالم الخارجي لتدل عَلَىٰ مسافة أو خطورة أو ما شابههما، بينما الأمر اِعْتِبَارِيّ في ما نحن فيه؛ فَإِنَّ الاعتبار يعني وضع اللفظ عَلَىٰ الوجود الخارجي للمعنى، وهذا ما تحصل منه الدلالةُ.
والبعض الآخر أعطى تصوّراً آخر عن الصيغة الاعتبارية حيث قالوا: إن اعتبار اللفظ عَلَىٰ المعنى إيجاد لنوع من الوحدة بين اللفظ والمعنى، فيتصور الواضع في ذهنه اللفظَ عين المعنى ويُحدث الهوهوية والعينية بينهما؛ لأَنَّنَا حينما نلقي اللفظ نشعر كأننا ألقينا المعنى ويكون اللفظ مغفولاً عنه وقد اتحد مع المعنى، فالواضع نزّل اللفظ منزل المعنى وأراد بهذا البيان أن يقول: إن الارتباط بين اللفظ والمعنى يفوق هذا التلازم؛ فَإِنَّ بينهما حالة من التوحد والعينية، فأرادوا بذلك أن يبرّروا ما يقال مَثَلاً بأن حسن المعاني وقبحها ينتقل إلى اللفظ، والألفاظ ذات المعاني القبيحة يصبح اللفظ فيها قَبِيحاً أَيْضاً؛ لأَنَّهُ تم اعتبار الوحدة والعينية بين اللفظ والمعنى.
وهناك تعبير آخر في التقريرات (حظي في الآونة الأخيرة ببالغ الاهتمام) وهو أن الوضع عبارة عن جعل اللفظ علامة عَلَىٰ المعنى، فكأن الواضع يقوم بعملية وضع العلامة والإشارات، أي: أَنَّهُ يعتبر أن هذا اللفظ علامة أو أداة لفهم المعنى وتصوّره، فيكون الوضعُ أَمْراً اِعْتِبَارِيّاً.
ومما يؤسف عليه أن البحوث الأصولية ابتليت بهذه التعابير الشكلية ولم يلتفت فيها إلى لبّ المطلب، ونحن نشير فيما يلي إلى تلك الإشكالات عَلَىٰ نَحْوِ الإجمال حَتَّىٰ يتبيّن أنها إشكالات هامشية تخص القالب دون المضمون:
الإشكال الأول:
أن إحداث الهوهوية والوحدة والاتحاد بين اللفظ والمعنى (بأن يكون اللفظ وجوداً ثَانِياً للمعنى) معنى دقيق يفوق هذا المعنى الدقيق سقف الوضع الَّذِي هو عملية ساذجة غير معمّقة ولا تشوبه تلك الدقة الموجودة في نوع الأمور الاعتبارية، ومن المعلوم أن اللغة تم إيجادها مِنْ قِبَلِ أن تتعرّف البشر عَلَىٰ هذه المسائل الاعتبارية والصياغات الدقيقة، وَبِالتَّالِي لا يمكن لعملية الوضع أن تكون عبارة عن هذا الاعتبار الدقيق.
الإشكال الثَّانِي:
بأن الوضع لو كان عبارة عن اعتبار اللفظ عَلَىٰ المعنى كوضع إشارات المرور وعلائمه في مكان حقيقي (والحال أن المواضع هنا اعتبارية) لكان عَلَىٰ المعنى أن يكون موضوعاً عليه، لا موضوعاً له، كما نقول هناك بأن ذاك المكان وضعت العلامة عليه، مع أننا نقول للمعنى >الموضوع له< ولا نعبر عنه بـ>الموضوع عليه<؛ فَإِنَّ اللفظ هو الموضوع والمعنى هو الموضوع له وليس موضوعاً عليه.
وعبّروا عن ذلك بتعبير آخر هو أن في وضع العلامة توجد ثلاثة أمور:
الأول: علامة الموضوع.
الثَّانِي: المكان الَّذِي يقع فيه ذاك الوضع (أي: الموضوع عليه).
الثالث: ما تدلُّ عليه تلك العلامة الموضوعة في ذاك المكان، بِأَنَّنّا اجتزنا مسافة فرسخ.
إذن، توجد لدينا أمور ثلاثة هي الموضوع والموضوع عليه والموضوع له، بينما في باب اللفظ لا يوجد أكثر من أمرين هما اللفظ والمعنى، فلا يَصِحُّ تشبيه هذين البابين ببعضهما، ولا يمكن للوضع أن يكون من باب العلامات والنصب الموضوعة.
الإشكال الثالث:
هو أن عملية الوضع الَّتِي يقوم بها الواضع (وهي اعتبار اللفظ عَلَىٰ المعنى أو جعله متحداً مع المعنى) يجب أن تكون لأجل ترتب الآثار الوجودية للمعنى عَلَىٰ اللفظ، وذلك مَثَلاً بأن يوجد ذاك المعنى بتلفظ اللفظ في الخارج أو في الذهن أو يترتب عليه أثره، وهذا ما لا يحصل؛ فإننا حينما نلقي اللفظ لا نجد وجوداً للمعنى لا في الذهن ولا في الخارج، وَأَسَاساً لا دلالة للفظ عَلَىٰ الوجود، فيكون هذا الاعتبار لغواً؛ لأَنَّهُ لا يترتب عليه أثر وجودي.
الردّ عَلَىٰ الإشكالات:
إِلاَّ أن الجواب عن جميع هذه الإشكالات واضح وذلك كالتالي:
جواب الإشكال الأول:
أن المعاني الاعتبارية قد يكون بيانها وتحليلها دقيقاً ولكن أصل الاعتبار ليس أَمْراً دقيقاً؛ فَإِنَّ الدقة أكثر ما ترد في التعابير العلمية والاصطلاحية، وإلا فإن أصل الاعتبار ووضع شيء لشيء من أبسط الأمور وَالَّذِي يمكن تعقّله وحصوله في المجتمع البشري البدائي.
جواب الإشكال الثَّانِي:
ويرد عَلَىٰ الإشكال الثَّانِي (القائل بأن عَلَىٰ المعنى أن يكون موضوعاً عليه، لا موضوعاً له) بِأَنَّ المقصود هنا هو المعنى، واعتبار اللفظ عَلَىٰ المعنى إِنَّمَا هو لأجل الدلالة عَلَىٰ المعنى نفسه. والواقع أن للمعنى جهتين وحيثيتين:
الأولى: أن اللفظ جعل عليه، وبهذه الحيثية يصبح المعنى موضوعاً عليه.
الثانية: أن يَدُلُّ عليه، لا عَلَىٰ شيء آخر، وبهذه الحيثية يصبح موضوعاً له، كمن يجعل علامةً عَلَىٰ مكان ليستدل بالعلامة عليه لا عَلَىٰ شيء آخر.
فبات المعنى موضوعاً عليه وموضوعاً له أَيْضاً. وبعبارة أخرى نقول: إن اللفظ وُضع عَلَىٰ الوجود الخارجي ومصداق المعنى حَتَّىٰ يَدُلُّ عَلَىٰ تصور ذاك المعنى. إذن، إن الموضوع عليه هو الوجود الخارجي للمعنى والموضوع له هو تصور ذاك المعنى أو الماهية وذاته في الذهن.
جواب الإشكال الثالث:
ويدفع إشكال اللغوية بِأَنَّهُ يَتُِمّ فيما لو لم يحمل أي أثر تكويني في طول الوضع، ولكن المفروض حصول الاختصاص والعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى وانسباق المعنى من اللفظ في طول الوضع، وهذا هو المقصود الأصلي والهدف الأساس للواضع، أي: أن الواضع يريد أن يوجِد انسباق اللفظ من المعنى من خلال هذا الارتباط بين تصور اللفظ وتصور المعنى.
الإشكال الرابع:
أَمَّا الإشكال الأساسي فهو أن الوضع لو كان مجرد الاعتبار ومحض الإنشاء والافتراض لما أمكن تفسير اللفظ به حقيقةً، ولما وقع لفظ >زيد< لواقع زيد، بل كان مجرد افتراض، وأياً كان المعتبِر لهذا الأمر الفرضيّ الاعتباري، يقابله هذا السؤال >ما هو المقصود من هذا الوضع<؟ هل الواضع يريد أن يخلق علاقة بين اللفظ وبين واقع وجود المعنى بِأَنَّهُ كُلَّمَا ذُكر اللفظ كشف ذلك عن أن واقع ذاك المعنى موجود في الخارج. أي: هل المقصود هو الدلالة التصديقية بين وجود اللفظ والمعنى؟
لا شك في أن الواضع لا يريد هذا المطلب قَطْعاً؛ لأَنَّهُ لا توجد هكذا دلالة في باب الألفاظ واللفظ لا يَدُلُّ عَلَىٰ وجود المعنى لا بالوجود الذهني ولا بالوجود الخارجي، فلا يُخلق واقع زيد بمجرد تلفظ >زيد< ولا يصبح الأكل مَوْجُوداً عندما نقول: >الأكل<، والعلاقة بينهما ليست كالعلاقة بين وجود النار ووجود الدخان حيث يحصل العلم بوجود النار ما إن نشاهد الدخان. والحاصل أن الدلالة التصديقية ليست مقصودة لدى الواضع.
وإن قلت: إن مقصود الواضع من عملية الوضع هو إيجاد الدلالة التصديقية بها، بِأَنَّهُ كُلَّمَا يصدر لفظ من متكلم يكشف السامع أن المتكلم أراد تفهيم معنى خاص إلى ذهنه وقصد إخطار المعنى إلى ذهنه، لا وجود المعنى في الخارج.
قلت: إن إيجاد مثل هذه الدلالة مِنْ قِبَلِ الواضع متوقف عَلَىٰ أن يلتزم ويتعهد الواضع بِأَنَّهُ كُلَّمَا تلفظ باللفظ الفلاني أراد منه ذاك المعنى، أو أن يكون هناك برهان يَدُلُّ عَلَىٰ ذلك، بينما لا يَدُلُّ عليه برهان ولا يوجد مثل هذا الالتزام والتعهد لدى الواضع، ولا تحصل الدلالة التصديقية بمحض الإنشاء والاعتبار ما لم يتبعها تعهد والتزام. ومن هنا ذهب البعض في البحث عن حقيقة الوضع إلى التعهد والالتزام، وهذا ما يأتي بالتفصيل في شرح مسلك التعهد إن شاء الله تعالى.
وإن لم يكن ذلك مراداً للقائل بمسلك الاعتبار أَيْضاً، بل كان يكتفي بأن الواضع يضع اللفظ فحسب، أي: يعتبر اللفظ بإحدى الصيغ الثلاثة، فيضع اللفظ عَلَىٰ المعنى أو يجعله عين المعنى أو علامة للمعنى، وبهذا الوضع والأمر الإنشائي البحت يحصل ذاك الارتباط التصوري بين اللفظ والمعنى، والظاهر أَنَّهُ مختار أكثر الأصوليين.
ولكن هذا المطلب وإن كان أصله صحيحاً في الجملة، أي: أن الدلالة التصورية إِنَّمَا تحصل بالوضع لا بالدلالة التصديقية، ولكن قلنا سَابِقاً إن الدلالة التصورية أمر تكويني وحقيقي وهي تلك الملازمة التصورية بين تصور اللفظ عند سماعه وتصور المعنى، حيث لا تحصل هذه الأمور الواقعية بمحض الاعتبار، بل تحتاج إلى سبب وَاقِعِيّ أو استلزام ذاتي ونفس أمريّ، ولا يمكن لنظرية الاعتبار المحض أن تحل هذه المشكلة. أي: أن هذا الاستلزام التصوري يحصل بعد عملية الوضع، وَبِالتَّالِي يوجد بينهما تلازم، وهو أمر تكويني وواقعي، ويجب أن يكون هذا التلازم إما ذاتياً (وهو كما قلنا لا يصلح في اللغة) وإما معلول لأمر تكويني وواقعي آخر، فَحِينَئِذٍ يحتاج إلى منشأ تكويني؛ لأَنَّهُ في نفسه من الأمور الواقعية ونفس الأمرية مِمَّا لا يمكنه إيجاد التلازمات بمجرد الفرض والاعتبار، وإلا لكنا قادرين عَلَىٰ إيجاد أي تلازم تصوري أو تصديقي بمجرد الاعتبار، ومن الواضح أن غير صحيح؛ لأَنَّنَا حينما نقول مَثَلاً: >الطواف بالبيت صلاة< نعتبر الطوافَ صلاةً، فهل يلزم من ذلك أننا كُلَّمَا قلنا: >الطواف< نتذكّر >الصلاةَ<؟ وهل يجب أن يحصل بين تصور >الطواف< و>الصلاة< ملازمةٌ واقعية تصورية أو تصديقية؟ لا شك أَنَّهُ غير صحيح؛ فَإِنَّهُ لا تحصل ملازمةٌ بين الوجود الواقعي للطواف أو قصده وبين الوجود الواقعي للصلاة أو قصدها، ولا تحصل أَيْضاً ملازمة بين الوجود التصوري للطواف والصلاة. إذن، يجب الفحص عن أمر حقيقي (وليس اِعْتِبَارِيّاً محضاً) يوضح لنا كيفية حدوث التلازم التصوري بين اللفظ والمعنى؛ فَإِنَّ الاعتبار لا يوجِد مثل هذا التلازم، وأحسن دليل عَلَىٰ ذلك أن مثل هذه الاعتبارات كَثِيراً ما تحدث بين الشيئين من دون أن يحصل بينهما تلازم لا في الوجود ولا في التصور. وَبِالتَّالِي يجب الفحص عن التحليل الصحيح لهذا المطلب في موضع آخر يأتي شرحه مُسْتَقْبَلاً إن شاء الله تعالى حيث سوف نشرح بالدقة منشأ هذا التلازم الَّذِي هو روح الوضع وحقيقته، والمشكلة الأساسية الَّتِي تقف بوجه مسلك الاعتبار هو أن محض الاعتبار لا يمكنه إيجاد هذا التلازم، وَأَمَّا سائر الإشكالات الموجهة إليه فهي إشكالات تنال شكله وقالبه.