30/10/22
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\تقسيم مباحث علم الأصول}
الجلسة الـ8، الاثنين 22/10/1430 (=12/10/2009)
التقسيم الأول للشهيد الصدر:
انتهينا من ذكر التقسيم الأنسب لمباحث علم الأصول وذكرنا ميزات كل تقسيم وَالَّتِي كانت تحظى بطابع من الذوق، ولكننا نسير في دراستنا للبحوث الأصولية وفق التقسيم الموجود في كفاية الأصول بمعنى أننا سوف نتناول المباحث الأصولية في قسمين:
الأول: مباحث الألفاظ الشاملة للاستلزامات العقلية.
الثَّانِي: المباحث العقلية الشاملة للحجج والأمارات غير اللفظية.
ثم نتناول مبحث تعارض الأدلة.
أَمَّا القسم الأول فقد جرت العادة فيه بالبحث عن الدلالات اللفظية العامة والمشتركة إلى جانب البحث عن الاستلزامات العقلية (الَّتِي هي غير المستقلات العقلية)، وفي هذا السياق جمع الخراساني صاحب الكفاية في مقدمة مباحث الألفاظ أموراً تعتبر في واقعها مبادئ تصورية وتصديقية وإيضاحات وتعاريف لمباحث الألفاظ وَالَّتِي لها طابع المقدمية كالبحث عن حقيقة الوضع، والمعنى الحقيقي والمجازي وعلامات الحقيقية والمجاز، وأنواع الاستعمال وحقيقته وشروطه، ومعاني الحروف والهيئات، والصحيح والأعم، والحقيقة الشرعية، وقد جمع كل ذلك في ثلاثة عشر أَمْراً كمقدمة لعلم الأصول أو لمباحث الألفاظ من الأصول، وتحتاج هذه البحوث المقدمية إلى التنظيم والترتيب أَيْضاً. وبهذا الصدد اقترح سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & ترتيباً فَنِّيّاً حيث قال: إن هذه البحوث المقدمية ترتبط بدلالة اللفظ عَلَىٰ المعنى، ودلالة الألفاظ عَلَىٰ المعاني تارة ترتبط بالسامع والمخاطب وهي انتقاله من سماع اللفظ إلى المعنى، وأخرى ترتبط بالمتكلم وهي استعمال اللفظ في المعنى بقصد إخطار ذاك المعنى. وعلى هذا التحليل يمكن تقسيم الْمُقَدَِّمَات الثلاثة عشر في أربعة بحوث كالتالي:
البحث الأول: في أصل دلالة اللفظ والانتقال منه إلى المعنى وهذا ما يرتبط بالمخاطب، وهذا البحث يتناول منشأ تكوين هذه الدلالة عن طريق الوضع تارة وأخرى عن طريق المناسبة للمعاني المجازية والمصححة للمجاز، كما أن البحث عن إمكانية تعدد هذا المنشأ (أَيْ: إمكان الاشتراك والترادف) راجع إلى هذا البحث.
البحث الثَّانِي: ما يرتبط بالاستعمال أو البحث عن حقيقة الاستعمال وَالَّذِي يعبر عنه باستعمال اللفظ في المعنى وهنا يبحث عن حقيقة الاستعمال وشروطه وأنواعه (كالاستعمالات الإخطارية والإيجادية)، وكذلك يبحث هنا عن إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
البحث الثالث: وهو بحث إثباتي؛ فَإِنَّهُ بعد تحديد منشأ دلالة اللفظ عَلَىٰ المعنى في البحث الأول (وهو عبارة عن الوضع) يصل الدور إلى البحث الإثباتي بأننا لو شككنا في مقام الإثبات في حقيقية معنى من المعاني أو مجازيته، فهل توجد آليات وأمارات نثبت بها أن المعنى حقيقي أو مجازي أم لا؟ فهذا بحث إثباتي يتناول علامات تحديد المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي أو علامات الحقيقة والمجاز كالتبادر والاطراد وصحة السلب وصحة الحمل.
البحث الرابع: يتعلق بتحديد معنى بعض المواد والألفاظ الخاصة كالحروف والأسماء والهيئات والمشتقات والصحيح والأعم؛ فإنها بحوث عن تحديد معاني الألفاظ ودلالاتها كسائر مباحث الألفاظ المذكورة في علم الأصول كالبحث عن صيغة الأمر والنهي والجملة الشرطية وغيرها وتماثل هذه البحوث سنخاً، وقد جعل الخراساني تلك البحوث الأربعة بحوثاً مقدمية وأخرجها بذلك عن مباحث الألفاظ وبحث عن الأوامر في المقصد الأول، ومعنى ذلك أَنَّهُ لا يعتقد بأصولية تلك البحوث الأربعة بل يراها من المبادئ التصورية والتصديقية ومقدمات لمسائل الأصول.
ملاحظة الشهيد الصدر:
وقد لاحظ سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & عَلَىٰ ذلك أَنَّ البحث عن الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم ليس كالبحث عن المشتق أو الحروف والهيئات؛ فَإِنَّهُ يمكن إخراج الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم من تعريف علم الأصول؛ وذلك وَفْقاً للضابط الَّذِي ذكرناه في تعريف علم الأصول من أن المسائل الأصولية يجب أن تكون عامة، غير مختصة بمدلول لفظ خاص أو مادة خاصة كالبحث عن الصحيح والأعم؛ لأَنَّ البحث فيه يقع حول أسماء خاصة بالعبادات أو المعاملات كـ>الصلاة< أو >الحج< أو >الصوم< وغيرها من الألفاظ الَّتِي يدعى فيها الحقيقةُ الشرعية مِمَّا يمكن جعلها في مقدمات المسائل الأصولية، بينما البحث عن المشتق أو الحروف والهيئات ليست هكذا؛ لأنها بحوث عامة وسيالة في كل الأبواب الفقهية وليست خاصة بباب دون باب؛ وكذلك البحث عن الحروف والنسب الناقصة والتامة، ومن هنا فصّل سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & البحث عن الحروف والمعاني الحرفية والهيئات وكذلك البحث عن المشتق وأوردها في صميم المسائل الأصولية بينما ذكر البحث عن الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم في المقدمة بمناسبة البحث عن الوضع والمعاني الوضعية من أن المعنى الموضوع له الَّذِي وضع في اللغة لهذه الألفاظ هل تغيّر لدى الشَّارِع وفي الاستعمالات الشرعية حَتَّىٰ تَصِحُّ الحقيقةُ الشرعية أم لم تتغير؟ فهذا في واقع بحث تطبيقي ومثله البحث عن الصحيح والأعم في ألفاظ العبادات والمعاملات.
جواب الأستاذ عن الإشكال:
ولكن يمكننا أن نجيب عن هذا الإشكال كالتالي:
أَوَّلاً: أن واقع كلام سَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & هو الإشكال عَلَىٰ الخراساني بِأَنَّهُ لماذا أخرج كل تلك البحوث الأربعة من علم الأصول بينما ضابط الأصول يشمل لاثنين منهما. فبالنسبة إلى هذا الإشكال يجب أن نقول: إن ضابط الأصولية موجود في جميع تلك البحوث، بمعنى أن البحث في الصحيح والأعم والحقيقة الشرعية لو كان خَاصّاً بألفاظ خاصة لصح هذا الإشكال وكان يجب إخراجها من مسائل الأصول، ولكن الألفاظ الَّتِي يدعى بشأنها الحقيقةُ الشرعية ليست ألفاظاً خاصة، بل يقع البحث عن مطلق ألفاظ المخترعات الشرعية الَّتِي حسب طبعها تصلح للانطباق عَلَىٰ جميع الأبواب الفقهية، ودعوى أن ما وقع من ألفاظ المخترعات الشرعية خاص ببعض الأبواب الفقهية غير مسموعة، بل إن ما وقع من ألفاظ المخترعات الشرعية سيال وجار في أكثر الأبواب الفقهية. كما أن البحث في أسماء العبادات والمعاملات إِنَّمَا هو بلحاظ اختصاصها بالأفراد الصحيحة أو دلالتها عَلَىٰ الأعم من الصحيح والفاسد وهو لحاظ عام يسري في جميع الأبواب الفقهية ولا يشترط أكثر من هذه اللابشرطية في أصولية المسألة.
إذن، إن البحث عن الحقيقة الشرعية وكذلك البحث عن الصحيح والأعم بحث عام ونوعي وَبِالتَّالِي يجب إدخال كل تلك المسائل الأربعة إلى علم الأصول، ولكن مع ذلك كله يجول في الخاطر أن ما صنعه الخراساني (من جعل تلك البحوث الأربعة داخل الْمُقَدَِّمَات والبدء بالبحوث الأصولية من بحث الأوامر) أكثر ملائمة مع الذوق والقريحة وذلك لتلك النكتة الَّتِي ذكرناه في البحث عن ضابط المسألة الأصولية وتعريف علم الأصول في مقام دفع النقض بالقواعد الرجالية حيث قلنا هناك بأن عَلَىٰ القاعدة الأصولية أن ترتبط بالخطاب الشرعي ارتباطاً مباشراً، أي: أن لا تكون خارجة عن إطار خطاب الشَّارِع ولو كان الفقيه يستفيد منه في الاستنباط الفقهي، بل يجب أن تكون ناظرةً إلى الحكم الشرعي، سواء كانت ناظرة إلى أصل الحكم الشرعي ونوعه كالأمر والنهي، أم إلى كيفية ثبوت الحكم الشرعي لموضوعه كالبحث عن المفهوم، أم كانت ناظرة إلى التوسعة في الحكم الشرعي وتضييقه كالبحث عن العام والخاص والمطلق وَالْمُقَيَّد، وهذه الميزة غير متوفرة في تلك البحوث الأربعة، مُضَافاً إلى أن البحوث في المعنى الحرفي والهيئة والمشتق بحوث تحليلية في الأغلب ويبحث فيها عن فلسفة اللغة، لا عن أصل المدلول اللغوي للحروف أو الهيئات. فالأنسب إخراج هذه البحوث كلها عن المقصد الأول لعلم الأصول.
اقتراح الأستاذ:
ونحن نقترح فيما يرتبط بالبحوث التمهيدية لعلم الأصول أن يُذكر تقسيم آخر يحتوي عَلَىٰ نكات ونقاط إضافية نذكرها فيما يلي:
النقطة الأولى: أنواع الدلالات اللفظية
النقطة الأولى أن هناك بحوث دلالية لفظية يجب أن تذكر في المقدمة لتبين أن الدلالات اللفظية ليست عَلَىٰ قسمين بل هي عَلَىٰ ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الدلالة التصورية للفظ عَلَىٰ المعنى، بمعنى الانتقال التصوري للذهن عند سماع لفظ إلى المعنى، وهي الَّتِي تعبر عنها بالدلالة التصورية اللفظية.
القسم الثَّانِي: الدلالة الاستعمالية للفظ عَلَىٰ المعنى؛ فَإِنَّ المتكلم إذا كان ملتفتاً واستعمل اللفظ في مقام التحاور يكون قاصداً لإخطار ذاك المعنى إلى ذهن المخاطب، وهذا ما يعبر عنه بالدلالة الاستعمالية.
القسم الثالث: الدلالة التصديقية عَلَىٰ الإرادة الجدية وهي ثالث المداليل، بمعنى أن المتلفظ حينما يستعمل لفظَ >الأسد< في الرجل الشجاع من قوله: >رأيت أسداً يرمي< هل توجد لديه إرادة جدية أم لا؟ وهل كان قاصداً للإخبار جداً أم لا؟ كما أَنَّهُ إذا استعمل جملةً إنشائيةً كجملة >بعتُ< هل يكون قاصداً لإنشاء البيع أم لا؟ فهذا المدلول يختلف عن المدلول الاستعمالي وقصد إخطار المعنى؛ لأَنَّ المدلول الاستعمالي موجود أَيْضاً في موارد غير جدية كالهزل والمزاح، ومن هنا يجب أن نفصل أَوَّلاً بين المداليل الثلاثة ثم نقسم بحوث الْمُقَدَِّمَات الأصولية كالتالي:
الأول: البحث عن أنواع الدلالات اللفظية ويشتمل هذا البحث عَلَىٰ النقاط التالية:
1)- ما هو الوضع؟
2)- ما هو منشأ الوضع وحقيقة الدلالة التصورية؟
3)- هل توجد هذه الدلالة التصورية في المعاني المجازية أم لا؟
وهنا تارة يقع البحث في عالم الثبوت وهو البحث عن حقيقة الوضع والدلالة عَلَىٰ المعنى المجازي، والبحث عن علامات الحقيقة والمجا
الثَّانِي: البحث عن الدلالة اللفظية (أي: الدلالة عَلَىٰ قصد المعنى الاستعمالي، سواء الحقيقي منه أم المجازي)، ويأتي البحث عن حقيقة الاستعمال وشروطه ومقوماته وأقسامه في هذا الإطار، كالبحث عن الاستعمال الإخطاري والحكائي أو الإيجادي.
الثالث: البحث عن دلالة اللفظ عَلَىٰ المراد الجدي، ومما يؤسف عليه أن هذا البحث ورد في كلماتهم ولكن من دون أن يحظى بالإيضاح والتحليل. فما الفارق بين هذه الدلالة (دلالة اللفظ عَلَىٰ المراد الجدي) الَّتِي هي المدلول التصديقي الثَّانِي وبين المدلول الاستعمالي؟ وما هو منشأ هذه الدلالة التصديقية؟ وهنا سوف نتطرق لبحوث مهمة وبديعة.
الرابع: وهو بحث بديع لم ينقح في كلماتهم أَيْضاً وهو البحث عن دور القرينتين المتصلة والمنفصلة في الدلالات الوضعية بِأَنَّهُ أية دلالة من تلك الدلالات اللفظية الثلاثة تنهدم بالقرينة؟ وهذا بحث مهم وأساسي ومؤثر جداً في الاستنباط الفقهي، فيجب أن يبحث في مكان ما عن حقيقة القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة وعن تأثير القرينة في الدلالات اللفظية، فهل القرينة المتصلة تهدم الدلالة الأولى أم الدلالة الثانية أم الدلالة الثالثة؟ وما هو الضابط في ذلك؟ وما دور القرينة المنفصلة (وإن شئت قل: المخصص المنفصل) فيما يرتبط بتلك الدلالات الثلاثة؟ فهل القرينة المنفصلة تهدم الدلالة الأولى أم الثانية أم الثالثة؟ وما هي القاعدة في ذلك وما هو تخريجه وتحليله؟ وهل يمكن القول بأن القرينة المنفصلة لا تهدم أية دلالة من تلك الدلالات، بل تتقدم في مقام الحجية عَلَىٰ ذي القرينة؟ وهذا البحث يحظى بأهمية قصوى ويجب تناوله في المبحث الرابع.
وحيث أن هذه البحوث الأربع لم ينقح شيء منها بشكل كامل، وقع مورد الخلط والاشتباه مِمَّا أتاح للبعض أن يحسب القرينة المنفصلة كالقرينة المتصلة رافعة للظهور مع أنها لا ترفع الظهور (كما يأتي)، وعلى سبيل المثال قيل بأن القرينة ترفع الظهور الجدي وذلك لأَنَّهُ لم يَتُِمّ تخريج منشأ الدلالة عَلَىٰ الظهور الجدي وتحليله.
الخامس: وهو البحث عن المعاني الحرفية والهيئات والمشتق والصحيح والأعم والحقيقة الشرعية حيث قيل بشأنها: إن الأنسب إخراجها من مسائل علم الأصول؛ لأنها في الأعم الأغلب بحوث تحليلية غير ناظرة إلى الحكم الشرعي مباشرةً.