بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/10/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{المقدمة\تقسيم مباحث علم الأصول}

الجلسة الـ7، الأحد 21/10/1430 (=11/10/2009)

التقسيم الأول للشهيد الصدر:

اقترح سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & تقسيمين لمباحث علم الأصول أحدهما عَلَىٰ أساس سنخ الدليلية والآخر عَلَىٰ أساس الاستخدام العملي للدليل في الاستدلال الفقهي.

التقسيم عَلَىٰ أساس سنخ الدليلية:

قلنا إن علم الأصول هو الأدلة المشتركة الَّتِي تُستخدم في الاستنباط الفقهي، وهذه الأدلة ليست من سنخ واحد، بل هي مختلفة في الدليلية. وقد لوحظ في هذا التقسيم سنخ الدليلية ونوعها من اللفظية وغير اللفظية، أو العقلية أو التعبدية، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيمها إلى خمسة أنواع من الدليلية:

الأول: الدليلية اللفظية وهي مباحث الألفاظ العامة ودلالات الأمر والنهي والجملة الشرطية وأدوات العموم وأمثالها الَّتِي دليليتها لفظية ويُحدد فيها الظهور اللفظي.

الثَّانِي: الدليلية العقلية النظرية أو العملية الَّتِي عَلَىٰ أساسها يُستنج الحكم الشرعي، وهي الاستلزامات العقلية في العقل النظري والحسن والقبح أو المستقلات العقلية في العقل العملي، وهي الَّتِي عَلَىٰ أساسها يمكن إثبات بعض الأحكام بفارق بينهما وهو أننا بحاجة إلى مقدمة شرعية في غير المستقلات (الاستلزامات) خِلاَفاً للمستقلات عَلَىٰ ما تقدم، والبحث عن >اجتماع الأمر والنهي< و>الضد< و>وجوب مقدمة الواجب< و>الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته< أو >اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده< يدخل في إطار البحث عن الاستلزامات العقلية وَالَّتِي ترتبط بدليلية العقل النظري ويعبر عنها بغير المستقلات العقلية؛ لأنها بحاجة إلى مقدمة شرعية.

أَمَّا البحث عن الحسن والقبح العقليين والأحكام الْمُتَرَتّبَة عَلَىٰ القانون العقلي القائل بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرعي، فيرتبط بدليلية العقل العملي، كما إذا استطعنا إثبات الحرمة الشرعية بالملازمة من قبح الظُّلْم والكذب والتجري وأمثالها، وهذا ضرب آخر من الدليلية العقلية.

ويبحث عن النوع الأول (أَيْ: غير المستقلات) في مباحث الألفاظ؛ لأنها غير مستقلة وتحتاج إلى لفظ يَدُلُّ عَلَىٰ الملزوم لإثبات وجوب الشيء حَتَّىٰ يثبت مَثَلاً وجوب مقدمته أو حرمة ضده. وفي الحقيقة اعتبره الأصوليون نمطاً من الدَّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة للدليل اللفظي، ولكن البحث عن المستقلات العقلية ذُكر بالمناسبة في المجلد الثَّانِي؛ لأنها لا تحتاج إلى الدليل اللفظي.

الثالث: الدليلية القطعية الاستقرائية وهي في واقعها إثبات قطعي وجداني للحكم عَلَىٰ أساس دليل استقرائي في منطق الاستقراء حيث ينتهي إلى العلم والقطع، ويدخل في هذا النوع كل من التواتر والإجمال والسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء. وَإِنَّمَا سميت هذه الدليلية بالاستقرائية لأَنَّ حصول القطع عَلَىٰ أساس الاستقراء هو المبنى لدلالة هذه الأدلة (أي: عَلَىٰ أساس تجميع حساب الاحتمالات). وبالتأكيد يعتبر هذا البحث من البحوث الجديدة في علم الأصول، وانطلاقاً من هذا البحث الأصولي أسس سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & مباني منطق الاستقراء.

الرابع: الدليلية التعبدية (أي: أن يجعل الشَّارِع ظناً أو احتمالاً بالتعبد حجةً ودليلاً) ويعبر عن هذه الدليلية بالأمارات والأصول العملية الشرعية، وتوجد بحوث كثيرة في هذا النوع من الدليلية، سواء في موارد الأمارات والأصول العملية في الشبهات الحكمية وأنواعها أم في التحليل ودراسة علاقاتها ونسبها في ما بينها وتطبيقها عَلَىٰ بعضها في كلا جانبي الثبوت والإثبات ولسان دليل جعل الحجية وقد حظي الجانب الإثباتي باهتمام أكثر من الأصوليين.

وهذه البحوث تم تنقيحها بشكل أكثر في علم الأصول زمن الشيخ الأنصاري &، وفي هذا القسم من مسائل علم الأصول نقحت بحوث تحليلية أساسية ومهمة للغاية تُعد من مفاخر الفقه الشيعي.

الخامس: دليلية العقل العملي في إثبات التنجيز والتعذير من الأحكام الشرعية وهي الأصول العملية العقلية نفسها؛ فَإِنَّ أصالة الاشتغال وحق الطاعة (أو أصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان) وحجية الظن ومنجزيته (بِنَاءً عَلَىٰ حكم العقل في دليل الانسداد) تُعد نوعاً آخر من الدليلية وَالَّتِي لا تثبت الحكم الشرعي وَإِنَّمَا تحدد الوظيفة العملية التعذيرية والتنجيزية. وتحتوي هذه البحوث أَيْضاً عَلَىٰ دقائق علمية يبحث في عناوين كأصالة البراءة العقلية وأصالة التخيير والاشتغال أو منجزية العلم الإجمالي.

ويبحث بعد ذلك في خاتمة البحوث الأصولية عن تعارض الأدلة. طَبْعاً كان الأنسب أن يبحث في التعارض عن التعارض بين الأنواع الخمسة من الدليلية بينما لم يبحثوا فيه إِلاَّ عن التعارض بين الخبرين، وَأَمَّا التعارض بين الأمارات والأصول أو الأصول العملية فيما بينها فقد ذكر في تنبيهات البحوث المتصلة بالأصول العملية والأمارات، مع أن عنوان >تعارض الأدلة< عنوان أعم وجامع يمكنه أن يشتمل عَلَىٰ جميع أنواع التعارض.

كان هذا نوعاً من التقسيم ومن الطبيعي أَنَّهُ بحاجة إلى تنظيم وترتيب أفضل؛ فعلى سبيل المثال أننا نشاهد في البحث عن الدليلية التعبدية والحجج الشرعية يبحث في المقدمة عن أصل إمكان جعل الحجية أو عدمه وتطرح فيه شبهةُ ابن قبة والشبهات الأخرى في مقابل إمكان التعبد بالظنون والأمارات أو أي حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي، ووقع البحث فيه عن أنه هل يلزم منه التصويب أو يلزم منه اجتماع الضدين أو يوجب الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة أم لا؟ وعليه، لو فصلناها عن بعضها فسوف تُطرح البحوث المقدمة المتصلة بنوع الدليلية في كل منها وَالَّتِي توضح وتبين الاختلاف بين الدليليات وتميز أنواعها وتؤدي إلى رفع الخلط والخطأ والتشويش الفكري.

هذا هو التقسيم الأول الَّذِي عَلَىٰ رحاه تدور بحوث الأصول في مستوى دراساتها العلياء.

التقسيم الثاني للشهيد الصدر:

وهناك تقسيم آخر لسَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & رتب عَلَىٰ أساسه كتابه >حلقات في علم الأصول< ودوّنه. وهذا تقسيم يلحظ فيه الأداء العملي للقواعد الأصولية وكيفية استخدامها في الفقه وطوليتها وأن الفقيه في استدلاله بحاجة إلى أي نوع من الدليل والقاعدة الأصولية؟ وأن يكون قَادِراً عَلَىٰ تناول جميع البحوث المرتبطة بذاك الدليل في مبحث واحد من الأصول.

وميزة هذا التقسيم الثَّانِي الَّذِي يتوفق أكثر مع تأريخ علم الأصول؛ ذلك لأَنَّ الفقيه في الاستدلال الفقهي إما يصل إلى الحكم الشرعي بالقطع والعلم عن طريق الأخبار المتواترة أو الإجماع أو الآيات والروايات قطعية الصدور أو عن طريق الحجة الشرعية والإثبات الظني المعتبر كالظهورات والروايات المعتبرة وأمثالها، وهذا ما سموه بالدليل الاجتهادي، وقد لا يتوصل الفقيه إلى الحكم الشرعي الواقعي لا بالقطع واليقين ولا بطريق معتبر، فمن الطبيعي حِينَئِذٍ أن يشك في الحكم ولكن يجب أن يحدد وظيفتَه العملية تجاه الحكم المشكوك من حيث المنجزية أو المعذرية، سواء كانت تلك الوظيفة العملية مجعولة مِنْ قِبَلِ الشَّارِع أم مِنْ قِبَلِ العقل، وهذا البحث من النوع الثَّانِي الَّذِي يعبر عنه بالدليل الفقاهتي.

وبحوث الأصول في التقسيم الثَّانِي تُقسم إلى قسمين:

1)- البحث عن الأدلة الاجتهادية.

2)- والبحث عن الأدلة الفقاهتية.

وتبحث عن أقسام كل قسم وتحاليله اللازمة وشروطه في كل قسم منهما؛ فعلى سبيل المثال تقسم الأدلة الاجتهادية في القسم الأول إلى دليل شرعي ودليل عقلي، ثم في الدليل الشرعي يبحث عن أصل الدلالة وعن كيفية إحراز صغرى الخطاب أو السنة الشرعية وكذلك عن كبرى حجية الدلالات، وفي الدليل العقلي يبحث عن المستقلات وغير المستقلات وكيفية إثبات الحكم الشرعي بكل واحد منهما، كما يبحث في مقدمات بحث الأدلة الاجتهادية عن مباحث تحليلية وتمهيدية مرتبطة بكل نوع من الدليل الشرعي (التعبدي) والدليل العقلي، وكذلك توجد في النوع الثَّانِي من الأدلة (أَيْ: الأدلة الفقاهتية أو الأصول العملية) بحوث مقدمية وتحليلية عن مقتضى الوظيفة العملية في الشبهات غير المقرونة بالعلم الإجمالي (الشبهة البدوية) والشبهات المقترنة بالعلم الإجمالي (منجزية العلم الإجمالي) ويتم تحديد كل نوع من الشبهات الحكمية في النتيجة العملية سواء تلك الناتجة من الأصول العملية الشرعية أم النتيجة العملية الناتجة من الأصول العملية العقلية، وما يهم الفقيه هو هذين النوعين من الشبهة الحكمية.

وميزة هذا التقسيم في الاستخدام الفقهي والأداء العملي للقواعد الأصولية؛ لأَنَّ الفقيه حينما يواجه آية أو رواية معتبرة يحتاج إلى تحديد أصل الدلالة وظهورها وإلى حجية الظهور أَيْضاً وإلى سنده، وَحِينَئِذٍ إذا كان خبراً للثقة يحتاج إلى حجية خبر الثقة أَيْضاً، ويحصل الفقيه عَلَىٰ جميع هذه الخصائص الدلالية المختلفة في موضع واحد. أي: أن الفقيه يجد كل ما يحتاج إليه مما يرتبط بصغرى هذا الدليل الاجتهادي (وهو الظهورات مَثَلاً) أو مما يرتبط بكبرى هذا الدليل الاجتهادي (كحجية الظهور أو الإجماع أو السيرة) في البحث عن الدليل الاجتهادي الشرعي أو العقلي في علم الأصول؛ لأَنَّهُ يقال في الأدلة الاجتهادية إن الدليل الاجتهادي الَّذِي ويصلنا إلى الحكم الواقعي إما شرعي وإما عقلي، والدليل الاجتهادي الشرعي بدوره ينقسم إلى لفظي (أي: أن الدليل الشرعي إما كلام الشَّارِع كالقرآن والروايات الصادرة من المعصومين) وإما غير لفظي كفعل المعصوم وتقريره ولكننا نتناول أكثر ما نتناول الفعل والتقرير في بحث السيرة.

إذن، يوجد تقسيم هنا وهو تقسيم الدليل الاجتهادي إلى الشرعي والعقلي وهذا التقسيم يرد أَيْضاً في الدليل الشرعي الَّذِي يقابل الدليل العقلي؛ فَإِنَّهُ توجد ثلاثة بحوث في الدليل الشرعي:

أحدها: أصل دلالة الدليل الشرعي، سواء اللفظي منه أم غير اللفظي، أي: الظهورات أو دلالة السكوت والتقرير أو دلالة الفعل. فيجب أن نحدد صغرى هذه الدلالة ونعرفها ونعرف كيفيتها وأنه كيف تتشكل الدلالة اللفظية والظهورات؟ هل تتشكل عَلَىٰ أساس الوضع أم القرائن أم ظهور الحال؟ وتبحث عن هذه في مباحث الألفاظ.

وهناك بحث آخر وهو إثبات صدور الدليل الشرعي. وإثبات هذه الصغرى إذا كان لفظياً فإما يَتُِمّ إثباته عن طريق القطع كالأدلة الواصلة إلينا من الكتاب أو عبر الروايات المتواترة وإما يَتُِمّ إثبات صغرى الدليل الشرعي عن طريق التعبد. فنثبت في بحث السيرة تقرير وإمضاء الشَّارِع ونثبت اللفظ في الإجماعات أو في الروايات المتواترة، ونثبت حجيةَ خبر الثقة تعبداً في بحث الحجية.

والبحث الثالث هو البحث عن حجية الدلالات الشرعية، فإن لم تكن قطعية (كالظهورات) نثبت حجيتها بالتعبد، ومن الواضح أن الفقيه بحاجة إلى كل ذلك في الدليل الشرعي كما أَنَّهُ يحتاج في الدليل العقلي (وهو الدليل الاجتهادي العقلي) إلى البحث عن الاستلزامات وغير المستقلات أو المستقلات العقلية في موضع واحد، وكذلك الأمر بالنسبة للأصول العملية أَيْضاً ويُطرح في الخاتمة أَيْضاً البحث عن تعارض الأدلة.

هذا ما مشى عليه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & في كتاب الحلقات وهو تقسيم لوحظ فيه الجانب العملي للمسائل الأصولية وتعدد الدليل في الاستدلال الفقهي والطولية بين هذين النوعين وتجميع المسائل المرتبطة بكل نوع في موضع واحد.

وهذا التقسيم وإن كان الأنسب في الأداء والأكثر تطابقاً مع تأريخ علم الأصول حيث كان يجتمع فيه مباحث الظهور وحجية الظهور وإثبات الصدور للكتاب والسنة في موضع واحد، ثم كان يبحث فيه عن الأصول العملية الَّتِي هي الدليل الفقاهتي، إِلاَّ أن التقسيم الأول أرجح من الثَّانِي بلحاظ التفصيل والتحليل للمسائل الأصولية وأنواع الدليلية مع قطع النظر عن أدائها الْفِعْلِيّ فقهياً.