30/10/20
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{المقدمة\موضوع علم الأصول وتقسيم بحوثه}
الجلسة الـ6، السبت 20/10/1430 (=10/10/2009)
موضوع علم الأصول
ذكر صاحب الكفاية أن موضوع كل علم >ما يبحث فيه عن عواضه الذاتية< وأقام البرهان لضرورة أن يكون لكل علم موضوع ثم جعل البرهان مورداً للنقض والإبرام، ولكن هذه البحوث (الَّتِي ترتبط في الغالب بالمصطلحات الَّتِي ذكرتها الحكمة والمنطق القديم للعلومَ البرهانية وغير البرهانية) ليست مجديةً وتؤدي إلى تطويل البحوث الأصولية والابتعاد عنها. فما يهمنا هو تحديد موضوع علم الأصول وهو الجامع بين مسائله أو الجامع بين محمولات مسائل علم الأصول؛ إذ تدوين المسائل وتنظيمها حسب النكات الذوقية والطبعية والتدوينية قد تختلف عمّا هو محور لبحوث كل علم، والأمر الثابت واليقيني هو ضرورة أن تكون مجموعة المسائل الَّتِي تقع في كل علم متسانخة مع بعضها وتدور حول محور أو جهة أو حيثية واحدة، وهذا شأن علم الأصول أَيْضاً؛ فَإِنَّ التعريف الَّذِي ذكرناه لعلم الأصول كان يجعل المائز والضابط لأصولية المسألة أن تكون دَلِيلاً عاماً ومشتركاً في الفقه.
تعبير القدماء حول موضوع علم الأصول
أَمَّا القدماء فقد جعلوا الأدلة الأربعة (وهي الكتاب والسنة والإجماع والعقل) موضوعاً لعلم الأصول، وكانوا يقصدون بها أننا نبحث في علم الأصول عن مجموعة من الأدلة الموجودة إما في كتاب الله كظهورات الآيات، وإما في السنة كظهورات الروايات ومثل أصل البحث عن الإخبار عن السنة (أَيْ: الخبر الَّذِي ينقل قول المعصوم ×)؛ فإنها إما موجودة في الكتاب، ومن الطبيعي أن الكتاب قطعي الصدور ولا بحث فيه إِلاَّ من جهة ظهورها ودليليّتها وهي ما يبحث عنها في مباحث الألفاظ، بينما السنة بحاجة إلى إثبات الصدور وهذه السنة تعم قول المعصوم × وفعله وتقريره والإجماع الَّذِي وقع البحث فيه بِأَنَّهُ دليل مستقل (كما يقول به العامة) أم أن دليليته ترجع إلى دليلية السنة وهو كاشف عن قول المعصوم × وهو مختار الأصوليين من الشيعة. وإما أن الدليل هو العقل وهو ما يشتمل عَلَىٰ بحوث الاستلزامات العقلية والمستقلات العقلية الَّتِي يستند إليها العقلُ ويكشف عن الحكم الشرعي.
والحاصل أن القدماء من الأصوليين جعلوا هذه الأدلة الأربعة موضوعاً لعلم الأصول؛ وذلك لدلالتها عَلَىٰ الحكم الشرعي شريطةَ أن تكون أدلة عامة ولا بشرط في الفقه. فيبحث علم الأصول عن هذه الأدلة وعن كيفيتها وشروطها والأحكام الْمُتَرَتّبَة عليها وأنه ما هو حكم تعارضها مع بعض وما هي المستويات الإثباتية الثابتة لكل منها وأن أي منها وجدانية وأي منها تعبدية؟ ونظائرها من البحوث الَّتِي تدور كلها حول محور الدلالة المشتركة عَلَىٰ الحكم الشرعي، فيمكن أن نقول: إن موضوع علم الأصول هو الدليلية أو الأدلة المشتركة في الفقه مِمَّا يمكن تقسيمها إلى أقسام وقد قسّمها القدماء في تقسيم بسيط إلى الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والعقل)، ولكن مع مرور الزمان تبين أن الإجماع مَثَلاً ليس مُسْتَقِلاًّ عن السنة كما أن الأصوليين التفتوا شيئاً فشيئاً إلى نكات أخرى استدعت تقسيماً وتنظيماً أفضل لأقسام الأدلة المشتركة في الفقه، ومن هنا قيل بأن الدليلية إما لفظية كالظهورات الَّتِي تقع في الكتاب والسنة وإما أن الدليلية عقلية سواء بالعقل النظري وهو الاستلزامات العقلية أو الملازمة العقلية الَّتِي توجب دلالة التزاميةً عَلَىٰ الحكم الشرعي بالانضمام إلى قاعدة أصولية أخرى، والمستقلات العقلية كمباحث الحسن والقبح العقليين كقبح التجري وقبح المخالفة للعلم الإجمالي الَّذِي به يمكن الوصول إلى الحكم الشرعي مباشرةً. كما أن هناك نوعاً آخر من الدليلية وهي إحراز الدليل اللفظي وخطاب الشَّارِع حيث نبحث فيه عن دليلية أخرى وهي إحراز السنة إما بالتواتر والإجماع الذين دليليتهما قطعية وجدانية وإما أن الإثبات والخطاب الشرعي يَتُِمّ بالتعبد الشرعي وهو ما يدخل فيه البحث عن الخبر الواحد أو البحث عن حجية الشهرة، بل وحجية الظهور أَيْضاً؛ لأَنَّ الظهور دلالة لفظية لا توجب القطعَ ومن هنا تكون محتاجة إلى التعبد الَّذِي هو حجية الظهور، فهذا نوع آخر من الدليلية وهي ما يطلق عليها الدليلية التعبدية أو الأمارات أو الأدلة الاجتهادية، كما أن هناك أدلة تعبدية غير كاشفة وهي الَّتِي تحدد الوظيفة العملية فحسب، فتوفر لنا التنجيزَ والتعذير عن الحكم الشرعي الواقعي، وهذا هو الدليلية الفقاهتية أو الأصول العملية. وهذان المصطلحان استخدمهما الوحيد البهبهاني & في الأصول واستعمل من بعده أَيْضاً. ففي الواقع يمكن أن نقول: إن موضوع علم الأصول هو الأدلة المشتركة الفقهية الَّتِي تدور جميع مسائل علم الأصول حولها.
تقسيم بحوث علم الأصول وأدلته:
يوجد تقسيم معروف لعلم الأصول حيث يقسّمه إلى قسمين:
الأول: مباحث الألفاظ.
الثَّانِي: المباحث العقلية (الأمارات والأصول العملية).
وهو التقسيم الدارج في الأوساط الأصولية منذ زمن المحقق البهبهاني & وقد وضعت مقدمة في مباحث الألفاظ أَيْضاً يبحث فيها عن البحوث المقدمية، ويبحث في القسم الثَّانِي عن المباحث العقلية غير اللفظية ويبحث فيها عن حجية القطع، ثم يبحث عن الأدلة غير اللفظية، أي: الحجية والإثبات التنجيزي أو التعذيري، فيبحث في هذا القسم عن الإثبات الوجداني القطعي للخطاب الشرعي والإثبات التعبدي الكاشف وإثبات الوظيفة العملية الشرعية أو العقلية وهذا ما يعبر عنها بالبحث عن حجية القطع وحجية المستقلات العقلية والتواتر في الإجماع والشهرة والخبر الواحد والأصول العملية الشرعية والعقلية، ثم يبحث في الخاتمة عن تعارض الأدلة بِأَنَّهُ ما حكم تعارض هذه الأدلة مع بعضها؟ وأي منها تتقدم عَلَىٰ الأخرى؟
وهذا التقسيم صحيح ولٰكِنَّهُ تقسيم بدائي؛ إذ يمكن أن نذكر تقسيماً أفضل منه وهو ما قام به تلميذ الخراساني وهو المحقق الأصفهانيّ & حيث ذكر تقسيماً آخر في كتابه الأصولي الجديد وقد أخذ السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & هذا التقسيم منه وقسم مباحث علم الأصول إلى أربعة أقسام، وهذا التقسيم بروحه يعود إلى ما أفاده المحقق الأصفهاني &، وهو في واقعه تقسيم رباعي لنوع الدليلية حيث جعلها في طول بعضها.
تقسيم المحقق الأصفهاني
القسم الأول: الاستلزامات العقلية الَّتِي توجب العلم الوجداني بالحكم الشرعي كمسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي، أو كمسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، فهذه أحكام عقلية قطعية توجب العلم الوجداني بالحكم الشرعي وهي مقدمة عَلَىٰ جميع الأقسام اللاحقة؛ لأنها توجب العلم الوجداني بالحكم وتحظى بمستوى أكثر وأعلى من الأقسام الأخرى.
القسم الثَّانِي: تلك القواعد الَّتِي توجب العلم التعبدي بالحكم الشرعي وهي عَلَىٰ ضربين:
1)- تلك المسائل الَّتِي يبحث فيها عن صغرى الدليلية بعد الفراغ عن كبراها، مثل مباحث الألفاظ حيث يُعَدُّ البحث فيها بحثاً عن صغرى العلم التعبدي، أي: أنها تحدد الظهور بأن الأمر ظاهر في الوجوب أم في الاستحباب؟ وكبرى حجية الظهور مفروغ عنها هنا.
2)- تلك البحوث الَّتِي يبحث فيها عن كبرى الحجية والدليلية وهي تلك البحوث المذكورة عن الأمارات والظنون الثابتة بالتعبد.
القسم الثالث: تلك القواعد الَّتِي تحدد الوظيفة العملية الشرعية في الموارد الَّتِي لم يثبت فيها الحكم الشرعي لا بالوجدان ولا بالتعبد، وهو البحث نفسه عن الأصول العملية الشرعية كالبراءة والاستصحاب.
القسم الرابع: القواعد الَّتِي تحدد الوظيفة العملية عَقْلاً، كالبراءة العقلية والاحتياط في موارد العلم الإجمالي، والتخيير العقلي في موارد الدوران بين المحذورين.
وهكذا قسم & مسائل علم الأصول إلى أربعة أقسام هي:
1)- الأدلة الَّتِي تورث العلم الوجداني.
2)- الأدلة الَّتِي تورث العلم التعبدي الكاشف.
3)- الأدلة الَّتِي تحدد الوظيفة العملية الشرعية.
4)- الأدلة الَّتِي تثبت الوظيفة العملية العقلية (أَيْ: تثبت التعذير والتنجيز).
5)- وفي الخاتمة يبحث عن التعارض بين الأدلة.
وكأنه & أراد بهذا التقسيم أن يحافظ عَلَىٰ الترتب والطولية بين الأقسام ويظهر أن الدليل الوجداني القطعي متقدم عَلَىٰ الدليل الاجتهادي التعبدي وأن الدليل الاجتهادي مقدم عَلَىٰ الأصل العملي الشرعي والعقلي، كما أن الأصل الشرعي مقدم عَلَىٰ الأصل العقلي.
إشكال الشهيد الصدر عَلَىٰ هذا التقسيم
إِلاَّ أن لِسَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & ملاحظة عَلَىٰ هذا التعريف حيث يتساءل & عن المقصود من هذه الطولية؛ فَإِنَّ الطولية تتصور عَلَىٰ نحوين:
الأول: الطولية في الاستخدام والحجية، بمعنى أن كل قسم من هذه الأقسام مقدَّم عَلَىٰ القسم اللاحق، وما لم يكن القسم الأول مَوْجُوداً لا يصل الدور إلى الأقسام الثلاث الأخرى؛ لأَنَّهُ مقدم عليها بلحاظ الحجية، وحجية القسم اللاحق متوقفة عَلَىٰ فقدان القسم السابق.
الثَّانِي: الطولية في مستوى الإثبات، بمعنى أن هذه الأقسام قد لا تكون في طول بعضها في مرحلة الجريان وأن يحظى القسم اللاحق بالحجة أَيْضاً مع فقدان القسم السابق، ولكن مستوى الإثبات في كل قسم أقوى من القسم اللاحق. وبعبارة أخرى: إن الملحوظ هو مراتب الإثبات والدليلية في أربعة مستويات تكون كل مستوى أقوى من المستوى اللاحق.
وإن أراد الأصفهاني من الطولية المعنى الأولَ (وهو الطولية في الإجراء والحجية والاستخدام) فتوجّه إليه إشكالات مختلفة كالآتي:
الإشكال الأول:
أَنَّهُ لا توجد طولية بين القسم الأول والثاني، أي: حَتَّىٰ لو تيسر الإثبات القطعي الوجداني مع ذلك تكون الإمارات حجة ولا يجب عَلَىٰ المجتهد أن يبحث عن العلم الوجداني، كمن عاصر الإمام × وأمكنه أن يسأل المسألة من الإمام × أو أن يسألها من الراوي ولا يجب عليه أن يحصّل العلم الوجداني بالحكم، بل يمكنه أن يكتفي بالعلم التعبدي الَّذِي هو حجية الأمارات والظهورات أو خبر الثقة أو خبر العادل. طَبْعاً، يسقط خبر الثقة عن الحجية فيما لو حصّل العلم الوجداني وَحِينَئِذٍ لا يكون محتاجاً إلى خبر الثقة، ولكن حجية خبر الثقة ليست في طول تعسر تحصيل العلم الوجداني.
الإشكال الثَّانِي:
أن الاستلزامات العقلية لا توجب العلم بالحكم الشرعي والاستلزام نفسه وإن كان قطعياً وعلمياً ولٰكِنَّهُ لا يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي؛ لأَنَّنَا قلنا إنها تختلف عن المستقلات العقلية الَّتِي يجب أن تنضم إلى دليل عَلَىٰ حكم آخر، وذاك الملزوم مَثَلاً هو الأمر بذي المقدمة أو الضد، فإذا كان ظنياً (كما هو كذلك في الغالب حيث أن وجوب أكثر الواجبات يثبت بالأدلة الظنية ولا يكون قطعياً) فَحِينَئِذٍ يكون الحكم المستنبط ظنياً أَيْضاً؛ لأَنَّهُ تابع لأخس المقدمتين، فكان الأفضل له & أن يمثل في القسم الأول بدلاً عن الاستلزامات العقلية بالإجماع والسيرة والتواتر الَّتِي يكون اثبات الحكم الشرعي فيها قطعياً، أو كان يمثل بالمستقلات العقلية في باب الحسن والقبح في المورد الَّذِي يمكن فيه استفادة الحكم الشرعي منه بالملازمة وهو ما يعبر عنه بالمستقلات العقلية، ولٰكِنَّهُ & مثل بالاستلزامات العقلية مِمَّا يفتح المجال للمناقشة؛ لأَنَّ الاستلزامات لا توجب القطع بالحكم الشرعي إِلاَّ إذا كان الدال عَلَىٰ ملزومها قطعياً. أي: إذا كان وجوب شيء قطعياً يكون وجوب مقدمته قطعياً أَيْضاً.
والحاصل أَنَّهُ أَوَّلاً: الطولية بين القسم الأول والثاني ليست في الجريان،
وَثَانِياً:أن الطولية في الجريان بين القسم الثَّانِي والثالث عَلَىٰ هذا النحو غير كاف؛ لأَنَّ بعض العلوم التعبدية مقدمة عَلَىٰ بعضها سواء في الأدلة الاجتهادية أم في الأصول العملية، فلو كان ظهور القرآن مَثَلاً مخالفاً لظهور الخبر يسقط ظهور الخبر عن الحجية حَتَّىٰ لو كان خبر ثقة وعادل، وهذا ما يعبر عنه بقاعدة طرح الخبر المخالف للكتاب. وكذلك يمكن أن تتقدم الشهرة (في إعراض المشهور) عَلَىٰ الخبر الثقة. إذن إن جميع أفراد القسم الثَّانِي ليست في عرض واحد. أضف إلى ذلك أن هذه الطولية ثابتة في القسم الثالث؛ لأَنَّ الأصول العملية ليست كلها في مستوى واحد، فالاستصحاب مَثَلاً أصل عملي يتقدم عَلَىٰ البراءة.
الإشكال الثالث:
وهو أن القسم الرابع الَّذِي هو الأصول العملية العقلية الَّتِي تثبت الوظيفةَ العملية العقلية (وهي قبح العقاب بلا بيان) والمعذرية أو المنجزية، ليس هذا القسم في طول الأصول الشرعية دَائِماً، بل وَفْقاً لبعض المباني الأصولية يتقدم هذا القسم عليها أَيْضاً. أي: أن مَن يقول بأن العلم الإجمالي علةٌ تامة للتنجيز (وهو مسلك الخراساني والعراقي &) وليس مقتضياً له، يعتقد بأن حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي يمانع عن جريان أصالة البراءة الشرعية في أطراف العلم الإجمالي، والواقع أن القائلين بمسلك العلية يعتقدون بتقدم حكم العقل بالمنجزية عَلَىٰ إطلاق الأدلة وكونه مخصصاً لها.
وَأَمَّا لو كان مقصوده من الطولية مراتب الإثبات ومستوياته، فيرد عليها أَوَّلاً أن هذا المبنى مبتنٍ عَلَىٰ مصطلحات الميرزا النائيني حيث ذهب إلى أن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية التعبدية وفي باب الأصول العملية هو الجري العملي وسوف نذكر في محله أن الحكم الظاهري مجعول ولا دخل له في روح الحكم ومضمونه، وَأَمَّا الفارق بين الأمارات والأصول فهو في جهة ثبوتية أخرى، علاوة عَلَىٰ أن بالإمكان في الأصول العملية أن يختلف لسان المجعول، ويتم جعل المحرزية والطريقية في موارد كالاستصحاب، وَبِالتَّالِي لا يمكن القبول بأي معنى من معنيي الطولية.