بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/10/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{تعريف علم الأصول}

الجلسة الـ5، الثلاثاء 16/10/1430 (=6/10/2009)

عدم المانعية التعريف للمسائل غير الفقهية

وبالنسبة إلى الإجابة عن إشكال عدم مانعية التعريف للمسائل غير الفقهية يجب أن نرى كيف يمكن دفع تلك النقوض؟ فنقول: أَمَّا النقض بالكلمات الأدبية مثل لفظة >الصعيد< والبحوث اللغوية الأخرى في ما عدا المباحث اللفظية الَّتِي درسوها في علم الأصول، فهي خارجة عن التعريف؛ لأَنَّنَا استفدنا من التعريف قَيْداً يقول بأن عَلَىٰ القاعدة الأصولية أن تكون مشتركة وسيالة ولا بشرط في الفقه، بينما مثل هذه القواعد الأدبية واللغوية ترتبط بالمادة وبمعنى خاص ولا تؤخذ في جميع الأبواب الفقهية على نحو اللابشرط؛ فَإِنَّ البحث عن معنى لفظة >الصعيد< مَثَلاً في باب التيمم والسجود إِنَّمَا يصلح لباب الصلاة فحسب، خِلاَفاً لصيغة الأمر أو النهي أو المفهوم في الجملة الشرطية الَّتِي لها طابع كلي وعام، أي: أنها دلالات لفظية عامة تدخل في جميع الأبواب الفقهية سيالاً وعَلَىٰ نَحْوِ اللابشرط، ومن هنا نستطيع أن نخرج من التعريف مثل هذه النقوض اللغوية بقيد الاشتراك، وهذا ما يدعمه تأريخ علم الأصول أَيْضاً؛ فَإِنَّ المسائل المرتبطة بمباحث الألفاظ دخلت في علم الأصول الَّذِي هو مقدمة لعلم الفقه لكونها عامة وسيالة وعلى نحو اللابشرط.

إجابة العراقي وإيضاح الشهيد الصدر

أَمَّا البحث عن الوثاقة أو القواعد الرجالية فهو بحث يحظى بطابع السيلان والعمومية ولا يختص بباب فقهي معيّن دون باب، بل إن وثاقة الراوي يحتاج إليها في جميع الأبواب الفقهية؛ فإننا لو أثبتنا وثاقة محمد بن سنان مَثَلاً يمكن الاستفادة منها في كل باب فقهي روى فيه روايةً، وهي بمثابة >تحديد ظهور الأمر في الوجوب< الَّذِي يستفاد منه في كل الأبواب الفقهية، ومن هنا يمكن دفع هذا النقض بإضافة نكتة أخرى في التعريف وهي النكتة الَّتِي أشار إليها العراقي & ووضّحه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & وهي عبارة عن أَنَّهُ وإن كانت وثاقة الراوي مستخدمة في جميع الأبواب الفقهية وليست مختصة بباب فقهي، وَلٰكِنَّهَا ترتبط بأمر خارجي وليست من شؤون الخطابات الشرعية ولا من صنيع الشَّارِع، خِلاَفاً لدلالة صيغه الأمر وظهورها في الوجوب، أو الجملة الشرطية في المفهوم، أو مقدمات الحكمة ودلالتها عَلَىٰ الإطلاق؛ فَإِنَّ هذه أمور تتصل بكلام الشَّارِع والخطاب الشرعي. أي: أنها مرتبطة بالدليل الشرعي الَّذِي هو الكتاب والسنة. ولطالما محل دراسة القواعد والأدلة المشتركة الفقهية هو علم الأصول يجدر به أن يكون وعاءً للبحث عما يرتبط بالشارع وبالدليل عَلَىٰ الحكم الشرعي، خِلاَفاً لوثاقة ناقل الخطاب الشرعي وعدم وثاقته، حيث أنها لا ترتبط مباشرة بالحكم الشرعي والإطلاق أو التقييد وحدوده، بل هو سنخ أمر خارج عن الراوي الثقة، سواء نقل خبراً أم لم ينقل. طَبْعاً إن أخبار الثقة تنقل الحكم الشرعي وتكون ناظرة إليها، ولكن الوثاقة الَّتِي هي مسألة رجالية ليس هذا شأنها، والبحث عن الأخبار ونقل الحكم عَلَىٰ النحو الكلي هو البحث نفسه عن حجية الخبر الواحد، وعلى النحو الجزئي (بِأَنَّهُ في أية مسألة ورد الخبر؟) لا يكون قاعدةً سيالة ولا بشرط، فليس من المناسب أن يبحث علم الأصول (الَّذِي هو علم بأدلة الفقه) عن صفات الرواة ووثاقتهم وعدمها، بل يجدر بتلك البحوث أن تُدرس في علم الرجال والتراجم والفهارس، وتقتضي هذه النكتة الذوقية أن نذكر قَيْداً في التعريف وهو أن تكون القواعد المشتركة ناظرة إلى الخطاب الشرعي ودالة عَلَىٰ الحكم الشرعي، وقد يمكن استفادة هذا المعنى من كلمة >استنباط الحكم الشرعي<.

وفي ضوء هذا تبين أن علينا أن نضيف قيدين إلى التعريف الحسن الَّذِي أدلى بها المشهور أو نستفيد منه هذين القيدين:

أحدهما: قيد صلاحية الاشتراك والسيلان في مختلف الأبواب الفقهية.

وثانيهما: أن تكون هذه القواعد المشتركة دالة عَلَىٰ الجعل الشرعي وناظرة إلى خطاب الشَّارِع.

ومن هنا أضاف سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & هذين التعديلين في التعريف قائلاً: >إنه العلم بالقواعد المشتركة في الاستنباط الفقهي الَّتِي يستعمله الفقيه كدليل عَلَىٰ الجعل الشرعي<؛ فقد أخذ في هذا التعريف قيد الدليلية< والدلالة عَلَىٰ الجعل الشرعي. ويمكننا أن نلخص التعريف في عبارة أقصر ونقول بِأَنَّهُ: >العلم بالأدلة المشتركة لاستنباط الجعل الشرعي الكلي<، وهكذا يصبح التعريف المشهور لعلم الأصول تعريفاً كاملاً جامعاً ومانعاً.

وهذا الضابط والمعيار كان مَوْجُوداً في أذهان علماء الأصول منذ البداية، وقد أشرنا إلى تلك النكتة في البحث عن أدوار علم الأصول وتأريخه حيث رأينا أن المؤسسين والمدونين الأوائل لعلم الأصول لا سيما السيد المرتضى & كانوا يعبرون عنه بعبارات مثل: >أصول الفقه علم أدلة الفقه عَلَىٰ نَحْوِ الإجمال< وقد قلنا إن >عَلَىٰ نَحْوِ الإجمال< تلميح إلى أن تكون القاعدة الأصولية كُلِّيّاً وعاماً ومشتركاً؛ لأنهم كانوا يشعرون في ارتكازهم وفي أذهانهم الدقيقة أن ضابط القواعد الأصولية الَّتِي استخرجت من علم الفقه هو:

أَوَّلاً: أن تكون دَلِيلاً عَلَىٰ الحكم الشرعي؛ لأَنَّ الفقه علم بالأحكام الشرعية.

وَثَانِياً: أن تكون مشتركة وكلية وعامة.

طَبْعاً إن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & أضاف في دورته الأخيرة نكتة إضافية إلى التعريف ولكننا لا نراها ضرورية، فيقول & إن علم الأصول هو >العلم بالقواعد المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة<، أي: يجب أن يستفاد من تلك القاعدة في قياس الاستنباط الفقهي فحسب، وأن لا تكون قاعدةً يستفاد منها في قياس الاستنباط الفقهي إلى جانب استخدامها في قياس الاستنباطات غير الفقهية في العلوم الأخرى، وقال & بأننا نضيف كلمة >خاصة< حَتَّىٰ لا يشتمل التعريف عَلَىٰ بعض القواعد الخارجة عن الأصول كقواعد علم المنطق؛ لأَنَّنَا بحاجة إليها في كل قياس واستدلال؛ فعلى سبيل المثال إننا بحاجة إلى الشكل الأول للقياس وشروطه (إيجاب الصغرى وكلية الكبرى) في كل استدلال للوصول إلى النتيجة المتوخاة، سواء كان الاستدلال فقهياً أم لا. فيقول سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ &: يجب علينا أن نخرج تلك القواعد من عل الأصول؛ لأَنَّ هذه القاعدة المنطقية ليست خاصة بالاستدلال الفقهي بل تسري وتجري في كل استدلال، وليس مسألةً أصولية، بل هو أوسع من علم الأصول ومن جميع العلوم البرهانية.

مشكلة تعريف الشهيد الصدر:

ولكننا نعتقد بِأَنَّهُ:

أَوَّلاً: لا توجد ضرورة لإضافة قيد >خاصة< إلى التعريف.

وَثَانِياً: قد تخلّ هذه الإضافة بالتعريف.

أَمَّا أَوَّلاً: فَلأَنَّ المقصود من الاستدلال وقياس الاستنباط هو القياس الَّتِي موادّها (صغراها أو كبراها) ناظرة إلى حكم فقهي بينما لا ترتبط القواعد المنطقية بمادة القياس ومحتواه ومضمونه وَإِنَّمَا ترتبط بشكل القياس فحسب. أي: أنها ناظرة إلى شكل القضايا وترتيبها بمعزل عن مضمونها، ومن هنا تخرج تلك القواعد عن التعريف تلقائياً؛ لأَنَّ التعريف يقول بِأَنَّهُ عبارة عن تلك القواعد الَّتِي في جانب المحتوى المادي لقضايا القياس وليس في البُعد الشكلي والقالبي تقع في طريق الاستنباط وتكون موضوعاً يرتبط مضمونه بالاستدلال الفقهي، كحجية الخبر أو الدلالة اللفظية لصيغة الأمر عَلَىٰ الوجوب، فهو ناظر إلى مواد القياس الفقهي وليس إلى شكله.

وَثَانِياً: أن بإضافة قيد >خاصة< إلى التعريف تعني القاعدةُ الأصولية ما يستفاد منها في قياس الاستنباط الفقهي، فإذا استخدمت في قياس غير مرتبط بالفقه لا تكون المسألة أصولية. وَحِينَئِذٍ يخرج الكثير من مسائل علم الأصول عن التعريف؛ لأنها تُستخدم في العلوم الأخرى كالبحث عن >ظهورات العام< الَّتِي يُستفاد منه في علوم أخرى، وكالبحث عن >دلالة هيئة الأمر والنهي والجملة الشرطية< الَّذِي يقع في قياس الاستنباط في علوم الأدب العربي وفي البلاغة (المعاني والبيان)، ومثل بعض القواعد والاستلزامات العقلية الَّتِي يبحث عنها في الأصول وَالَّتِي قد تقع في طريق الاستنباط في علم الكلام والعرفان، وذلك كالقواعد المرتبطة بالمستقلات والحسن والقبح العقليين أو البراءة العقلية أو حق الطاعة.

ومن هنا نحن حذفنا هذا القيد، ومن الطبيعي أن لفت النظر إلى أن مقصودنا من القواعد الممهدة للاستنباط هو >الاستدلال الفقهي فقط< مفيدٌ، إِلاَّ أن اختصاصها بالقياس الفقهي وعدم استخدامها في أي قياس واستدلال خارج عن النطاق الفقهي، شرط غير لازم بل مضر بالمطلوب.

مختار الأستاذ:

في ضوء ما ذكرناه يتضح عدم تسجيل شيء من الإشكالات الموجهة إلى التعريف وهي >عدم الجامعية< و>عدم مانعيته للقوعد الفقهية< وعدم مانعيته لقواعدَ من علوم أخرى<، ويجب للضابط والمائز في المسألة الأصولية أن يحتوي عَلَىٰ العناصر التالية:

الأول: أن تقع القاعدة في طريق استنباط جعلٍ في الشبهة الحكمية.

الثَّانِي: أن تكون القاعدة مشتركةً وسيالة ولا تكون مختصة بباب فقهي خاص.

الثالث: أن تكون القاعدة ناظرة إلى الخطاب الشرعي (ودالة عَلَىٰ الحكم الشرعي).

الرابع: أن تختلف القاعدة عن الحكم المستنبَط، أي: أن لا تكون تطبيقية بل تكون توسيطية.

وتشكّل هذه الميزات الأربعة ضابطَ المسألة الأصولية، فيجب أن تحتوي كل مسألة ندرسها مُسْتَقْبَلاً لهذه الميزات حَتَّىٰ تكون مسألة أصولية.