30/10/15
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{تعريف علم الأصول}
الجلسة الـ4، الاثنين 15/10/1430 (=5/10/2009)
إجابة الشهيد الصدر
أَمَّا سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فقد أجاب عن خروج قاعدة الطهارة والقواعد الاستظهارية من التعريف وذلك بإضافة نكتة إلى التعريف، ولعل تلك النكتة كانت مستترة في التعريف أَيْضاً وقد أشار بعض الأصوليين إليها بأننا نُخرج قاعدة الطهارة والقواعد الاستظهارية من علم الأصول وذلك بالقول بأن تلكما القاعدتين وإن كانتا توسيطيتين ولكنهما تختلفان عن القواعد الأصولية مثل البراءة والاستصحاب؛ لأَنَّ قاعدة البراءة أو قاعدة الاستصحاب قاعدتان يمكن سريانهما وسيلانهما في الأبواب الفقهية المختلفة عَلَىٰ نَحْوِ اللابشرط ويمكن الاستفادة منهما في أي باب من الأبواب الفقهية بينما تختص قاعدة الطهارة بالحكم بطهارة الأشياء، ويشترط في القاعدة الأصولية أن تكون صالحة للاستخدام في مختلف الأبواب الفقهية عَلَىٰ نَحْوِ اللابشرط؛ لأَنَّ لعلم الأصول قواعد ومسائل يستفاد منها في الفقه عامةً ولا تختص بباب فقهي دون آخر، وإلا توضع تلك المسألة في مقدمة ذاك الباب الفقهي.
والواقع أن نكتة القواعد الأصولية والمائز والضابط لأصولية المسألة الَّذِي بها فصلت القواعد الأصولية عن الفقهية هو أن القواعد الأصولية قواعد مشتركة، وهذا المعنى موجود في عبارة السيد المرتضى الَّتِي نقلناها عن كتابه >الذريعة< بأن القواعد الأصولية هي القواعد الَّتِي يستفاد منها إجمالاً وبالنحو الكلي في الفقه ولا تكون خاصة بمسألة فقهية دون أخرى.
وهذا مطلب لطيف يوضح لنا الفلسفة التأريخية لانفصال علم الأصول ومسائله عن علم الفقه.
والحاصل أن مثل هذه القواعد الفقهية تخرج من التعريف بقيد >الاشتراك<، كما أن هذا التعبير موجود في عبارات الخراساني أَيْضاً من أَنَّهُ يجب أن تكون القواعد الأصولية قواعد مشتركة، فبهذا القيد يخرج النوع الأول والثاني من القواعد الفقهية عن التعريف.
إجابة الشهيد الصدر
وهناك إجابة أخرى لسَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & يخرج بها قاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< من التعريف؛ ذلك لأَنَّنَا قد نعتقد بأن قاعدة >لا ضرر< تدل عَلَىٰ حرمة الإضرار فتكون مسألة فقهية ومن الطبيعي حِينَئِذٍ أن تكون قاعدة تطبيقية، وأخرى نعتقد بِأَنَّهَا كقاعدة >لا حرج< قاعدة تنفي الأحكام الضررية فَحِينَئِذٍ يمكن إخراجها عن ضابط المسائل الأصولية والتعريف بأحد التقريبين:
التقريب الأول: ما أفاده سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & في دورته الأصولية الأولى من أن قاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< ليستا قاعدتين، بل ضرب من التجميع؛ لأَنَّ القاعدة عبارة عن تلك القضية الَّتِي لها وحدة ثبوتية، بينما ليست قاعدتا >لا ضرر< و>لا حرج< (بِنَاءً عَلَىٰ أن تكونا قاعدتين تنفيان الأحكام الضررية والحرجية) إِلاَّ نمطاً من التعبير الجامع منتزع من مجموعة أحكام جمعناها في قالب لفظي وإثباتي، وتلك المجموعة عبارة عن رفع الوجوب الضرري للوضوء ورفع الوجوب الضرري للصوم ورفع اللزوم الضرري أو الحرجي للبيع الغبني وغيرها من المسائل الفقهية الَّتِي لكل واحد منها حكمها الخاص ولا ترتبط إحداهما بالأخرى وليس لها حكم واحد، وقد جمعها الشَّارِع في مقام البيان وقال: إن كل حكم من أحكامي مُقَيَّد بأن لا يكون ضررياً ولا حرجياً. والواقع أن الشَّارِع أخبر عن قيود أحكام متعددة في قالب واحد وعبارة واحدة وأخبر عنها، كأدلة القيود العامة للتكاليف الأخرى. ومثاله حديث >رُفع القلم عن الصبي حَتَّىٰ يحتلم< الَّذِي يقول باشتراط البلوغ في التكاليف ويرفع جميع الأحكام الشرعية الإلزامية عن الصبي وهذا وإن كان إثباته واحد ولٰكِنَّهُ ثُبُوتاً ليس حُكْماً وَاحِداً بل قيود لأحكام متعددة عبر عنها في قيد واحد وفي قاعدة واحدة. ومثاله الآخر قاعدة رفع الإكراه المستفادة من >رفع ما استكرهوا عليه< وكذلك رفع الاضطرار وأمثالهما.
التقريب الثَّانِي: أننا حَتَّىٰ لو سلمنا بالوحدة الثبوتية لقاعدة >لا ضرر< أو >لا حرج< ولكن مع ذلك لا تعود قاعدةً أصوليةً؛ لأَنَّ >لا ضرر< أو >لا حرج< إِنَّمَا ترفعُ الحكمَ الواقعي، أي: أنها تُبيّن أن تلك الأحكام غير موجودة في موارد الضرر أو الحرج، وهذا لا يكون حُكْماً آخر بل هو عين عدم جعل الأحكام الضررية أو الحرجية وَالَّذِي يُطبق في كل مورد ومجعوله حكم واحد، لا أن الْمُكَلَّف يثبت بالقاعدةِ جعلاً وحكماً شَرْعِيّاً آخر. أي: أننا حينما ننفي وجوبَ الوضوء ونثبت عدمَ الوجوب لا يكون هذا العدم وهذا النفي إِلاَّ قاعدة >لا ضرر< نفسها أو قاعدة >لا حرج< ذاتها، بل نقوم بتطبيق الحكم الضرري أو الحرجي في موارد مختلفة، وَبِالتَّالِي عادت القاعدة تطبيقية من جديد.
والحاصل أن قاعدة >لا ضرر< أو >لا حرج<:
أَوَّلاً: ليست قاعدة؛ لأنها لا تمتلك وحدةً ثبوتية وَإِنَّمَا توجد لها وحدة إثباتية.
وَثَانِياً: لو سلمنا بالوحدة الثبوتية بلحاظ الملاكات، لٰكِنَّهَا ليست إِلاَّ تطبيقاً عَلَىٰ مصاديقها وليست توسيطيةً.
ثلاث خصائص للقواعد الأصولية:
ونحصّل مِمَّا تقدم أن هناك شروطاً ثلاثة لإخراج القواعد الفقهية من التعريف وهي:
الشَّرْط الأول: أن تقع القاعدة في طريق استنباط الحكم الكلي (أي: الشبهة الحكمية).
الشَّرْط الثَّانِي: أن تكون القاعدة توسيطيةً، لا تطبيقية. أي: أن تُثبت جعلاً شَرْعِيّاً آخر غير جعله وحكمه.
الشَّرْط الثالث: أن تكون القاعدة عنصراً مشتركاً وسيالاً في الفقه ولا تكون مخصوصة بباب فقهي دون آخر.
وهكذا يُدفع الإشكال الثَّانِي عن التعريف وهو النقض بالقواعد الفقهية.
الإشكال الثَّالِث: عدم المانعية لمسائل غير فقهية
والإشكال الثالث والأخير من الإشكالات الواردة عَلَىٰ التعريف هو عدم مانعيته لمسائل العلوم الأخرى غير الفقه، مثل مسائل علم الرجال كالبحث عن وثاقة الرواة؛ لأَنَّ الفقيه بحاجة إليها في عملية استنباط الحكم الكلي، وما لم تثبت وثاقة الراوي لا يمكنه أن يتمسك بالرواية ويستنبط الحكم الشرعي منها، فهي من القواعد الَّتِي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي عَلَىٰ نَحْوِ التوسيط.
ومثاله الآخر مداليل الألفاظ والموارد الَّتِي لا يُبحث في الأصول عنها، بل يبحث عنها في علم اللغة؛ فَإِنَّ عَلَىٰ الفقيه حين عملية الاستنباط أن يعرف معاني الألفاظ المتصلة بالباب، كما إذا افترضنا أَنَّهُ يريد أن يستنبط من الآية الكريمة {ﭺ ﭻ ﭼ} أَنَّهُ عَلَىٰ أي شيء يَصِحُّ التيمم أو السجود؟ فإن من الواضح أن عليه أن يعرف معنى كلمة { ﭻ} بِأَنَّهَا هل تُطلق عَلَىٰ مطلق ما يعلو عَلَىٰ وجه الأرض أم أنها تطلق عَلَىٰ التراب خاصةً، وما لم يتضح المراد من هذه الكلمة لا يثبت الحكم الكلي بالتيمم عَلَىٰ الصعيد.
إذن، فكما أن البحث عن مدلول صيغة الأمر أو صيغة النهي أو المفهوم وأمثالها يُعتبر بحثاً عن القواعد الأصولية، كذلك يُعتبر جميعُ البحوث اللغوية المرتبطة بآيات الأحكام أو روايات الأحكام قواعدَ أصولية؛ لأنها تقع في طريق الاستنباط.
جواب الميرزا النائيني:
وقد تصدى الأصوليون بتعابير مختلفة للإجابة عن هذا النقض والميرزا النائيني بدوره أضاف قيدَ >الكبروية< إلى التعريف، بمعنى أَنَّهُ يشترط في المسألة الأصولية أن تقع كبرى لقياس الاستنباط، بينما تقع هذه المسائل صغريات لقياس الاستنباط؛ فعلى سبيل المثال يقال بأن هذا الخبر الَّذِي أتحفنا به الثقةُ يَدُلُّ عَلَىٰ وجوب الصلاة وكل خبر ثقة حجةٌ وَبِالتَّالِي يثبت وجوبُ الصلاة. إذن >كل خبر ثقة حجة< تقع كبرى في القياس وهي مسألة أصولية، أَمَّا أن >هذا الخبر هل هو خبر الثقة أم لا؟< فهي تشكل الصغرى في القياس، والميرزا يقول بأن الضابط في أصولية المسألة كبرويتها ووقوعها كبرى لقياس الاستنباط.
رجوع الميرزا عن كلامه:
وقد رجع الميرزا عن كلامه في موضع آخر؛ لأَنَّ هذا البيان وإن أخرج من التعريف وثاقةَ الراوي أو مدلولَ كلمة الصعيد وأمثالهما من الصغريات، إِلاَّ أَنَّهُ يخرج بعض المسائل الأصولية من التعريف أَيْضاً؛ لأَنَّ كَثِيراً من أمهات المسائل الأصولية تقع صغرى في قياس الاستنباط كمباحث الألفاظ؛ لأَنَّ مباحث الألفاظ تقع صغرى في قياس الاستنباط، سواء كانت بحوثاً لفظيةً كمدلول صيغة الأمر والنهي والمفهوم والعم والخاص والإطلاق والتقييد أم كانت من البحوث العقلية الاستلزامية كالملازمة بين وجوب شيء ووجوبِ مقدمته، أو اقتضاء النهي للفساد أو امتناع اجتماع الأمر والنهي، أو اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده. ومعنى ذلك أننا نقول: هذه صيغة الأمر والأمر ظاهر في الوجوب وكل ظهور حجة فيثبت وجوب هذا الشيء الَّذِي تعلق به الأمر. أي: أن حجية الظهور كبرى لهذا القيا إذن، إن مباحث الألفاظ تشكّل صغرى حجية الظهور.
وكذلك الأمر في الاستلزامات العقلية؛ فإننا حينما نقول: >الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده< لا نقصد به أن >النهي عن الضد< يكون حُكْماً شَرْعِيّاً بنفسه، بل نجعل هذه المسألة صغرى لكبرى أخرى بأن الضد إذا كان عِبَادِيّاً ولم يتعلق بها الأمر، فإما تصبح منهياً عنها وفقدان الأمر أو وجود النهي يسبب فسادَ العبادية، فتكون الكبرى فسادُ العبادية من دون الأمر أو مع النهي. وَبِالتَّالِي يجب إخراج أكثر هذه المسائل الأصولية المهمة عن التعريف؛ لأنها تقع صغرى لقياس الاستنباط، وهذا ما لا يرضى به أحد.
تعديل الخوئي لكلام الميرزا:
ومن هذا المنطلق قام السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & بإجراء تعديل في جواب الميرزا النائيني وأفاد بأننا لا نقول بأن المسألة الأصولية يجب أن تقع دَائِماً كبرى للقياس، بل يمكن للقاعدة الأصولية أن تقع صغرى للقياس ولكن بشرط أن تحتاج إلى كبرى أخرى هي قاعدة أصولية، فإذا كانت عَلَىٰ نَحْوِ تحتاج دَائِماً إلى ضم كبرى أصولية إليها حَتَّىٰ توصلنا إلى الحكم فَحِينَئِذٍ لا تكون مسألةً أصولية، وذلك كوثاقة الراوي حيث تحتاج دَائِماً إلى كبرى >حجية خبر الثقة< الَّتِي هي قاعدة أصولية ولولاها لا نصل إلى النتيجة، ومثل لفظة >الصعيد< حيث يجب أن تكون هذه اللفظة موجودة ضمن آية أو رواية تتضمن الأمرَ أو النهي حَتَّىٰ نستفيد منها وجوب التيمم منضماً إلى كبرى >ظهور الأمر في الوجوب<. إذن، إن كلمة >الصعيد< بحاجة إلى كبرى >ظهور الأمر في الوجوب<، فلا تكون المسألة أصوليةً.
ثم إن السَّيِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِيَّ & بعد نقله لهذا الكلام يورد عليه أَنَّهُ إذن بعض القواعد بحاجة دَائِماً إلى كبرى حجية الظهور تماماً كوثاقة الراوي الَّتِي تحتاج إلى كبرى حجية الظهور، وهذه القواعد هي عَلَىٰ سبيل المثال >ظهور صيغة الأمر في الوجوب< و>ظهور صيغة النهي في الحرمة< و>ظهور الجملة الشرطية في المفهوم< ومن دون حجية الظهور لا تجدي تلك القواعد.
ثم يجيب السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & بأن حجية الظهور من الأمور البديهية ولذلك لا تعتبر قاعدةً أصولية. أي: تلك الظهورات الكلية المطروحة في مباحث الألفاظ وإن كانت بحاجة إلى كبرى أخرى ولكن تلك الكبرى ليست مسألة أصولية وَإِنَّمَا هي مسألة من المسائل البديهية والواضحة والمسلَّمة، خِلاَفاً لحجية الخبر الواحد الَّتِي ليست بديهية وتحتاج إلى الإثبات.
وبالنسبة إلى النقض المذكور حول الاستلزامات العقلية أفاد السَّيِّدُ الأُسْتَاذُ الْخُوئِيُّ & أننا بغنى عن الكبرى الأصولية القائلة بأن النهي والحرمة في العبادات يقتضي فسادها وذلك بِنَاءً عَلَىٰ أن لا يقتضي الأمر بالشيء النهيَ عن ضده، وإذا استغنينا عن القاعدة الأصولية في طرف من طرفي القياس يكون كافياً لتكون المسألة أصولية ولا يجب أن نحتاج إلى قاعدة أصولية أخرى عَلَىٰ كلا التقديرين.
إذن إن السَّيِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِيَّ & حاول أن يجيب عن النقض بمباحث الألفاظ بِأَنَّ كبرى حجية الظهور ليست قاعدةً أصولية؛ لأنها من القواعد البديهية وهي خارجة عن علم الأصول، وحاول & أن يجيب عن إشكالية الاستلزامات العقلية بِأَنَّهَا بِنَاءً عَلَىٰ أحد التقديرين لا تحتاج إلى الكبرى الأصولية وهذا المقدار كاف لتكون المسألة أصوليةً، وبهذا التعديل أراد & أن يصحح كلام الميرزا النائيني أستاذه.
إبطال تعديل الخوئي
ويرد عَلَىٰ كلامه & أَنَّهُ غير صحيح وغير واف بالمراد؛ فَإِنَّ الإجابة عن مثل هذه النقوض إِنَّمَا هي من باب ضيق الخناق؛ لأَنَّهُ:
أَوَّلاً: أن النكتة القائلة بالحاجة إلى كبرى أصولية أو عدم الحاجة إليها لا تُعتبر مائزاً حقيقياً ولا فنياً؛ فهذا العمل يشبه عمل من يريد إدخال مورد إلى التعريف أو إخراج نقض منه فيأتي بأمثال هذه القيود، فلا تكون هذه النكتة أو الخصوصية ضابطاً فنياً.
وَثَانِيا: أننا نتساءل عن المراد من عدم الحاجة إلى كبرى أصولية؟ فهل يريد به الاستغناء المطلق والدائم عنها أم يريد الاستغناء الإجمالي عنها بأن يكفي استنباط الحكم الكلي منها في مورد واحد؟ لو أراد به الاستغناء المطلق والدائم حَتَّىٰ في مورد واحد، فَحِينَئِذٍ يخرج الكثير من المسائل الأصولية من علم الأصول؛ لأَنَّهُ حَتَّىٰ مسألة كمسألة حجية الخبر وأمثالها بحاجة إلى تحديد الظهور ولا تكفي حجية الخبر الواحد لوحدها؛ فعلى سبيل المثال لو وردت صيغة الأمر في دليلٍ وكانت دلالتُه ظنيةً وسندها ظني أَيْضاً كونه خبراً وَاحِداً، فَحِينَئِذٍ يحتاج كل من هاتين المسألتين الأصوليتين إلى بعضهما لاستنباط الحكم؛ لأَنَّ الدلالة إن كانت قطعيةً وصريحةً وناصةً تكون حجية الخبر الواحد وحدَها كافية لاستنباط الحكم، ولكن ليس الأمر هكذا في الغالب الأعم، كما أن أكثر الأحاديث ليست قطعية السند، وَبِالتَّالِي يجب أن تكون حجية السند وحجية الظهور موجودتين في أكثر الموارد لكي يتسنى لنا الوصول إلى الوجوب. إذن كل واحدة منهما تحتاج إلى الأخرى.
ولو أراد به أَنَّهُ يمكن في الجملة وحتى في مورد واحد أن يستغني عن سائر المسائل الأصولية وذلك كما إذا كان السند قطعياً مَثَلاً كالآيات القرآنية، وكانت ظاهرة وظنية الدلالة فقط، لو كان هذا هو المقصود فيرد عليه أَنَّ هذا المائز موجود في كلمة >الصعيد< أَيْضاً وَالَّتِي كانت مورداً للنقض وقيل بشأنها حيث أنها تحتاج إلى قاعدة أصولية كالأمر بالتيمم مَثَلاً فيكون مَوْجُوداً فيه؛ لأَنَّهُ يمكن أن يقع لفظ >الصعيد< في دليل وسند قطعي تكون دلالتُه قطعية وصريحة في ما عدا لفظة >الصعيد<، وَبِالتَّالِي لا تكون بحاجة إلى حجية السند ولا إلى ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فيعود النقض من جديد.
أضف إلى ذلك أن بعض المسائل الأصولية دَائِماً ما تحتاج إلى مسألة أصولية أخرى، كمباحث الألفاظ ودلالاتها الظنية الَّتِي تحتاج إلى قاعدة حجية الظهور دَائِماً، ومثل وثاقة الراوي الَّتِي تحتاج إلى مسألة حجية خبر الثقة دَائِماً.
وما قيل من أن مسألة حجية الظهور بديهية فلا تكون المسألة أصولية غير صحيح؛ لأَنَّ بداهة مسألة من المسائل لا تغيّر ضابطَ أصولية المسألة، وَإِنَّمَا البداهة وعدمها مرتبطة بمقدار ثبوت المسألة. أي: هل تثبت المسألةُ بالبرهان أم أنها بديهية الثبوت ووجدانية الوجود ولا تحتاج إلى البرهنة عليها.
إذن، إن كون مسألة حجية الظهور مسألة بديهية لا تشكّل الفارق، مُضَافاً إلى أَنَّهُ ليس جميع الظهورات والقواعد المرتبطة بحجية الظهور بديهيةً، مثل تقديم الأظهر عَلَىٰ الظاهر، قواعد الجمع العرفي في باب الظهورات، تقديم القرينة عَلَىٰ ذي القرينة، تقديم الإطلاق الشمولي عَلَىٰ الإطلاق البدلي، انقلاب النسبة وعشرات المسائل الأخرى المتصلة بمباحث حجية الظهور والدليل اللفظي وَالَّتِي تشكّل بحوثاً مفصلة؛ فقد وقع البحث والخلاف في باب الظهورات والجمع العرفي في أصل تلك الظهورات، فلا تكون تلك الظهورات بديهية، كما أن في كثير من الموارد لا يكون التقديم والجمع العرفي بديهياً ومن هنا ينكره البعض إلى درجة أن الشيخ الطوسي & حمل أحد الخبرين الذين أحدهما أخص من الآخر عَلَىٰ التقية ولا يقول بالجمع العرفي بينهما عَلَىٰ نَحْوِ التخصيص والتقييد، وكذلك صاحب الحدائق لديه مبنى يقول فيه بتقديم المرجحات في الأخبار العلاجية عَلَىٰ الجمع العرفي، فيُعلم أن قواعد الجمع العرفي المرتبطة بحجية الظهور ليست متفقة عليها وهي مورد الخلاف والنقاش بين العلماء، وَبِالتَّالِي لا يَصِحُّ أن نقول: >إن جميع قواعد حجية الظهور بديهية ومسلمة< حَتَّىٰ يقال بخروجها من مسائل علم الأصول.
مُضَافاً إلى أن الجزء الآخر من كلامه & بشأن الاستلزامات العقلية غير تام؛ ذلك لأَنَّهُ & قال في نقضه الثَّانِي عَلَىٰ الجواب إنه لا حاجة إلى القاعدة الأصولية عَلَىٰ أحد التقديرين؛ لأَنَّنَا كما نحتاج إلى قاعدة >النهي في العبادة يقتضي فسادها< في إثبات بطلان الضد العبادي، كذلك في إثبات صحته نحتاج إلى قاعدة أصولية أخرى بِنَاءً عَلَىٰ عدم اقتضاء الأمر بالشيء حرمةَ ضده؛ لأَنَّ الأمر بالشيء إذا لم يكن يقتضي النهي عن ضده لا يكفي لإثبات صحة ذاك الضد العبادي؛ لأَنَّ صحة العبادة بحاجة إلى الأمر، ومجرد عدم النهي ليس كافياً لصحته، وحيث لا يمكن الأمر بالضدين معاً إِلاَّ عَلَىٰ نَحْوِ الترتب، فنحتاج إلى كبرى >إمكان الترتب< أو إمكان إحراز الملاك متزامناً مع سقوط الأمر وكفايته، وكلاهما بحث أصولي.