30/10/14
بسم الله الرحمن الرحیم
بحث أصول
{تعريف علم الأصول}
الجلسة الثالثة، الأحد 14/10/1430 (=4/10/2009)
دفع إشكال عدم المانعية
قلنا إن الإشكال الثَّانِي كان يركّز عَلَىٰ عدم المانعية والنقض بالقواعد الفقهية الَّتِي يشملها التعريف كقاعدة >ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده< وقاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< وقاعدة >الطهارة<، وقد تصدى الأصوليون لها ضمن إجابات ندرسها فيما يلي:
إجابة الشيخ عن إشكال عدم المانعية:
ومن جملة تلك الأجوبة ما أفاده الشيخ الأنصاري & في مقام الفارق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية من أن القواعد الفقهية هي القواعد الَّتِي تُعطى للمقلِّد ولعامة الناس لكي يطبقوا تلك القواعد عَلَىٰ الموضوع بعد إحرازه، بينما القواعد الأصولية آبية عن الإلقاء عَلَىٰ المقلِّدين؛ والسبب في ذلك عجز الْمُكَلَّف المقلِّد عن تحديد موضوعاتها واحتياج تلك الموضوعات إلى التخصص والاجتهاد؛ فعلى سبيل المثال إنَّ أحد قيود موضوع القاعدة الأصولية هو فقدان الأصل الحاكم مِمَّا يعجز عن تحديده عامةُ الناس والمقلدين منهم والمجتهدون يقدرون عَلَىٰ تحديد قيود الموضوع للقواعد الأصولية لكي يتسنى لهم التمسك بها بعد ذلك، فعلى سبيل المثال في قاعدة حجية الخبر الواحد يجب أن يكون هناك خبر واحد وتثبت وثاقة الراوي وعدم وجود المعارض لها، حَتَّىٰ يتيسر التمسك بذاك الخبر.
ولكن هذا الفارق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية مع فرض صحته لا يصحح التعريفَ؛ لأَنَّهُ لم يرد في التعريف صلاحية القاعدة للإلقاء عَلَىٰ المكلفين وعدم صلاحيتها، وتلك نكتة وردت في عبارات الشيخ & وَالَّتِي تابعها الميرزا النائيني في بعض كلماته.
الإشكال عَلَى إجابة الشيخ
إِلاَّ أن تلامذة الميرزا النائيني كَالسَّيِّدِ الأُسْتَاذِ الْخُوئِيِّ & أشكلوا عَلَىٰ هذا التمايز قائلين بأن هناك قواعد فقهية أَيْضاً لا يمكن للمقلد والعامي أن يحدد موضوعها كقاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< حيث لا يمكن للعامي أن يحدد الموضوع النوعي للحرج والضرر، وكقاعدتي >كل شرط خالف كتاب الله باطل< و>ما حلل حراماً باطل< حيث لا يستطيع المقلّد والعامي أن يعرف ما حرّمه كتاب الله وما حلله وعلى المجتهد أن يحدد موضوعَه.
ومن جانب آخر بعض المسائل الأصولية صالحة للإلقاء عَلَىٰ المقلدين كقاعدة الاشتغال ومنجزية العلم الإجمالي بالتكليف، كالمقلد الَّذِي لم يبدأ في التقليد بعد، فيقال له: حيث أنك لم تقلد بعدُ، ولا توجد عندك حجة، فتعلم علماً إجمالياً بالتكاليف فتجري قاعدة الاشتغال.
الإجابة الثانية عن إشكال عدم المانعية
والإجابة الثانية الَّتِي ذكرها الأصوليون قاطبةً ووقعت مورد القبول أَيْضاً لدى السَّيِّدِ الأُسْتَاذِ الْخُوئِيِّ & هي أن القواعد الفقهية سنخ قواعد يستنتج منها حكم معيّن في الشبهة الموضوعية ولا يستفاد منها في الشبهات الحكمية، خِلاَفاً للقواعد الأصولية الَّتِي تتناول الشبهات الحكمية، مَثَلاً في قاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< (بِنَاءً عَلَىٰ أن يكون الضرر المأخوذ فيها ضرراً شخصياً) يرتفع الحكم الضرري عن المتضرر ويثبت عَلَىٰ الآخرين، إِلاَّ إذا كان الضرر والحرج نوعياً فَحِينَئِذٍ يرتفع عن الجميع وتصبح قاعدتي لا ضرر ولا حرج أصوليتين، ولكن حيث أن الصحيح في المسألة أن الضرر والحرج المأخوذين في موضوع القاعدتين هو الضرر والحرج الشخصيين فيرتفع الحكم عنه فحسب، وَحِينَئِذٍ تكون القاعدة في مقام بيان حكم شخصي ولا يستفاد منها حكم كلي.
ومثاله الآخر قاعدة الضمان الَّتِي تفيد بأن ضمان اليد ثابت في البيع الفاسد كما هو ثابت في البيع الصحيح. إذن، إن قاعدة >ما يضمن وما لا يضمن< تحدّد الححكم الموضوعي بأن المالك هل أقدم عَلَىٰ مجانية المعاملة أم لا؟ وهذه شبهة موضوعية ولا يستفاد حكم كلي من هذه القاعدة خِلاَفاً للقاعدة الأصولية كقاعدة حجية الخبر الواحد مَثَلاً حيث تُثبت وجوبَ الصلاة عند رؤية الهلال عَلَىٰ المكلفين كافة، وهو حكم شرعي كلي.
إذن، إن القواعد الفقهية هي القواعد الَّتِي تُثبت الموضوعاتِ والأحكام الشخصية الخاصة بها، ولا تثبت حُكْماً كُلِّيّاً لعموم المكلفين كالقواعد الأصولية، وما ورد في التعريف من القسم الثَّانِي؛ لأَنَّهُ ذكر فيه: >القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي< حيث يجب أن يكون الحكم المستنبَط حُكْماً كُلِّيّاً ولعموم المكلفين.
الإشكال عَلَىٰ الإجابة الثانية
إِلاَّ أن هذه الإجابة لا يمكن الموافقة عليها؛ ذلك لأَنَّ ما ذكره & في المقام من >الشبهة الموضوعية< و>الشبهة الحكمية< جعل اصطلاح جديد من قبله &؛ فَإِنَّ القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية أَيْضاً؛ إذ الشبهة عَلَىٰ قسمين:
الأول: الشبهة الموضوعية
والشبهة الموضوعية إِنَّمَا يرد فيما إذا شك الْمُكَلَّف في حكم جزئي ناشئ من الشك في وجود الموضوع وعدمه. وبعبارة أخرى: في المورد الَّذِي نقطع بجعل حكمٍ ونعلم بثبوته عَلَىٰ موضوعه ولكننا لا نعلم هل أن ذاك الموضوع موجود خارجاً أم لا؟ مَثَلاً نعلم بأن الماء القليل يتنجس بملاقاة المتنجس ولكننا لا نعلم أن هذا الماء هل لاقى المتنجس أم لا؟ فإن دلّ خبر الثقة أو ذي اليد عَلَىٰ ملاقاة الماء بالمتنجس نحكم بنجاسة الماء؛ لأَنَّ أخبار ذي اليد أو الثقة حجة في الموضوعات، وهي قاعدة أو أصل أو دليل في الشبهة الموضوعية. ومثاله الآخر: إذا شككنا في مالكية زيد نقول: حيث أَنَّهُ تحت يد زيد واليد أمارة عَلَىٰ الملكية فيكون زيد مالكاً. وهناك قواعد أخرى تجري في الشبهات الموضوعية أَيْضاً وتحدد موضوعَ الحكم.
الثَّانِي: الشبهة الحكمية
والشبهة الحكمية تطلق عَلَىٰ الموارد الَّتِي لا يوجد شك فيها حول وجود الموضوع في الخارج وَإِنَّمَا نعلم موضوعَ الحكم ونجهل حكمه. ومثاله أن نعلم أن هذا العقد الواقع هو عقد بيعٍ فاسد أو إجارة فاسدة، ولكننا لا نعلم الحكم الشرعي في مثل هذه العقود الفاسدة، وهل أن تلف المال بيد الآخر له ضمان أو لا؟ هذه هي الشبهة الحكمية؛ لأَنَّ منشأ شكّنا أننا لا نعلم أن الشَّارِع هنا جعل ضماناً أم لا؟ أو هل يجب الوضوء الضرري أم لا؟ فتلك شبهات حكمية وإن كان الميزان فيها الضرر الشخصي؛ لأَنَّ الشك عَلَىٰ كل حال يرجع إلى الحكم الكلي للوضوء الضرري بِأَنَّهُ واجب أو لا؟ وكل حكم لم يحصل الشك فيه لأجل الشك في تحقق موضوعه في الخارج، بل كان الشك في ثبوت الحكم نفسه، يُعَدُّ من الشبهة الحكمية، سواء كان الشك في أصل جعله أم كان في إطلاق ذاك الجعل وسعته، ولا فرق من هذه الجهة بين أن يكون موضوع ذاك الحكم المشكوك جميع المكلفين أو صنف خاص ونوع مخصوص منهم.
والحاصل أن هناك أحكاماً كلية تثبت بقاعدة >لا ضرر< و>لا حرج< و>ما يضمن وما لا يضمن< وينطبق عليها التعريفُ المذكور، مُضَافاً إلى أن قاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< قد تجريان في الموارد الَّتِي ينفى فيها حُكْماً عن جميع المكلفين، كما إذا شككنا في أصل جعل الشَّارِع لحكم ضرري، فَحِينَئِذٍ يمكن إجراء تلكما القاعدتين لنفي الخيار الغبني أو خيار العيب، وَبِالتَّالِي إثبات الخيار لعموم المكلفين في المعاملة الغبنية أو المعوَّض المَعيب، وهذا بمثابة إثبات الحكم بخبر الثقة، وحجية الخبر الثقة قاعدة أصولية، فلا فرق من هذه الجهة بين القواعد الفقهية المنقوض بها والقواعد الأصولية
وَأَسَاساً لا تنحصر القواعد الفقهية في هاتين القاعدتين، فهناك قواعد فقهية كقاعدة الطهارة تُثبت الأحكامَ الكلية كالقواعد الأصولية، فلا فرق من هذه الجهة بين قاعدة الطهارة وقاعدة البراءة؛ فكما أن قاعدة البراءة تنفي كلي الحكم بوجوب الصلاة عند رؤية الهلال، كذلك تنفي قاعدة الطهارة كليَّ الحكم بنجاسة الماء القليل الملاقي للمتنجس وتثبت طهارتَه.
وكما أن هناك قواعد استظهارية كلية في الفقه (سوف نأتي عَلَىٰ ذكرها) تماثل البحوث الأصولية الَّتِي تدور حول الظهورات الكلية؛ فَإِنَّ مثل دلالة الأمر عَلَىٰ الوجوب ودلالة الجملة الشرطية عَلَىٰ المفهوم ودلالة أدوات العموم عَلَىٰ العموم، مثل ذلك تشبه ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد إلى النجاسة أو المانعية فهي تُثبت ابتداءً الحكمَ الكلي بالنجاسة أو المانعية، فلا تنحصر القواعد الفقهية بهاتين القاعدتين اللتين ذكرهما، وَبِالتَّالِي لا تَصِحُّ هذه الإجابة أَيْضاً.
الإجابة الثالثة عن إشكال عدم المانعية
ذهب البعض إلى عدم اشتمال التعريف للقاعدة الفقهية؛ لأَنَّ القواعد الفقهية وإن كانت تثبت الحكم الشرعي الكلي في الشبهات الحكمية إِلاَّ أن هذا الإثبات إثبات تطبيقي وليس عَلَىٰ نَحْوِ التوسيط والاستنباط، فامتازت القاعدة الأصولية في وقوعها في استنباط الحكم بينما القاعدة الفقهية تُطبّق عَلَىٰ موضوعها؛ فإننا نطبّق قاعدة >ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده< عَلَىٰ البيع الفاسد، ولا نُثبت جعلاً أو إطلاقاً في جعل آخر عَلَىٰ نَحْوِ التوسيط خِلاَفاً للقاعدة الأصولية كالنهي عن العبادات أو المعاملات يقتضي فسادها، أو أن وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدمته، حيث نثبت بهذه القاعدة الَّتِي هي استلزام عقلي أو شرعي حكماً آخر ببطلان البيع الربوي أو بطلان الصلاة في الحمام أو وجوب الوضوء ومقدمات الصلاة، فالضابط لأصولية المسألة أن تثبت القاعدة حُكْماً كُلِّيّاً عَلَىٰ نَحْوِ التوسيط.
ومن الطبيعي أن ظاهر هذا التعبير (التطبيق والاستلزام هو الضابط) ليس مقصوداً؛ لأَنَّهُ أمر قالبي وشكلي ولا يمكنه أن يكون ضابطاً ومائزاً للأصولية، مُضَافاً إلى إمكانية الإتيان بالمسألة الأصولية عَلَىٰ النحو التطبيقي كما إذا قلنا: >إن العبادة المنهي عنها باطلة ونُهي عن الصلاة في الحمام عبادةً، وكل عبادة منهي عنها باطلة، فالصلاة في الحمام باطلة<، فيكون هذا تطبيقاً، ومن هنا صلّحوا عبارته & وقالوا: ليس المقصود منه عنوان التطبيق والتوسيط، بل أن عَلَىٰ القاعدة الأصولية الَّتِي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أن تُثبت حُكْماً آخر غير القاعدة الأصولية، سواء كانت تلك القاعدة الأصولية حُكْماً شَرْعِيّاً أم كانت قاعدة لُغوية أو عقلية، وهذا التمايز بين القاعدة الأصولية والحكم الشرعي المستنبط هو الضابط لأصولية المسألة؛ لأَنَّ علم الأصول هو العلم بالقواعد الَّتِي تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي، وليس الحكم الشرعي نفسه مستنبطاً؛ لأَنَّ الحكم المستنبَط حكم فقهي وإن كان كُلِّيّاً.
إذن، إن قاعدة >ما يضمن وما لا يضمن< بنفسها حكم فقهي كلي سواء في البيع الفاسد أم في كل عقدٍ آخر، لا أَنَّهُ يستفاد منها حكمٌ آخر، خِلاَفاً للمسائل والقواعد الأصولية مثل قاعدة دلالة الأمر عَلَىٰ الوجوب الَّتِي هي قاعدة لغوية، ويستفاد الوجوبُ الَّذِي هو حكم شرعي بواسطة تلك القاعدة، أو عَلَىٰ سبيل المثال نثبت صحة عبادية ضد الواجب أو بطلانها (بِنَاءً عَلَىٰ الترتب) بالاستلزامات العقلية في الفقه ونقول مَثَلاً بصحة الصلاة المأتي بها بدلاً عن إزالة النجاسة عن المسجد، وفي المورد الَّذِي تتضمن فيه القاعدةُ الأصولية لحكم شرعي كحجية الخبر الواحد أو الاستصحاب أو البراءة الَّتِي هي أحكام شرعية ظاهرية نثبت بها أحكاماً شرعية أخرى كوجوب الصلاة عند رؤية الهلال الَّذِي يثبت بخبر الثقة، وحجية الخبر الواحد حكم آخر، أو نثبت النجاسة بإجراء استصحاب بقاء النجاسة في الماء المتغير بعد زوال التغير، ومن المعلوم أن نجاسة الماء تختلف عن حجية الاستصحاب، بل هما حكمان منفصلان، وليس تطبيقاً لذاك الحكم، بل هو توسيط بمعنى أن بواسطة القاعدة الأصولية يثبت حكم شرعي آخر.
إذن، إن القواعد الفقهية عبارة عن الأحكام الكلية الفقهية الشرعية حيث تُطبق هذه الأحكام عَلَىٰ موضوعاتها، وموضوعاتها تارة أولية وأخرى ثانوية، ولا فرق بينهما من هذه الجهة؛ لأَنَّهُ مندرج في عنوان واحد موجود في تلك القاعدة وهو تطبيق لها، فقولنا: >الزكاة واجبة< يكون هذا حُكْماً كُلِّيّاً موضوعه الأنعام الثلاثة والغلات الأربعة والنقدين، وَكُلَّمَا صدق المال الزكوي يحمل عليه الحكم بوجوب الزكاة، وهو عنوان أولي. وقد يكون العنوان ثانوياً مثل: >ما يضمن وما لا يضمن< حيث يُطبَّق عَلَىٰ العنوان الأولي مثل بيع الإجارة كذاك العنوان الجامع الثانوي، أي: >ما يضمن وما لا يضمن< الَّذِي يستوعب جميع العقود الضمانية وغير الضمانية كالبيع والإجارة والصلح والهبة وأمثالها. ولكن حينما يثبت الضمان للبيع لا يثبته له كبيع، بل يثبته بالعنوان نفسه المذكور في القاعدة وهو ما يضمن بصحيحه، وهذا العنوان هو موضوع الضمان وَالَّذِي نطبّقه عَلَىٰ البيع، ومن هنا لا نستفيد من قاعدة >ما يضمن بصحيحه< ضمانَ البيع بما هو بيع، بل بما يضمن بصحيحه وَالَّذِي هو في واقعه تطبيق ولا يكون جعلاً ولا حُكْماً آخر، ومثل هذه القواعد هي تلك الأحكام والمسائل الفقهية الكلية وليست قواعد أصولية.
مشكلة الإجابة الثالثة:
إن هذه الإجابة صحيحة إجمالاً في دفع الإشكال والنقض بالقواعد الفقهية ولٰكِنَّهَا غير كافية، بمعنى أن بعض القواعد الفقهية يمكن دفعها بميزة التوسيطية كقاعدة >ما يضمن وما لا يضمن<، ولكن الإشكال المتبقى الَّذِي أورده سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & هو أن القواعد الفقهية ليست كلها من هذا السنخ، فتبقى القواعد الفقهية المستخدمة في قياس الاستنباط حيث يستنبط منها حكم آخر عَلَىٰ نَحْوِ التوسيط وذلك كالقواعد الأصولية، وبهذه المناسبة قام سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بترتيب القواعد الفقهية في خمسة أقسام، يخرج قسمان منها بهذا البيان عن التعريف وتبقى ثلاثة أقسام منها داخلة في التعريف، وها نحن نشير إلى تلك الأقسام الخمسة للقواعد الفقهية فيما يلي:
أنواع القواعد الفقهية:
الأول: القواعد الفقهية الظاهرية الَّتِي تُحرز الموضوعَ، كحجية البينة واليد أو قاعدة الفراغ. وهذه القواعد تجري في موارد الشك في كيفية وقوع الفعل خارجاً، أي: فيما لا يوجد شك في الكبرى، بل نشك في الإتيان بالركوع في الصلاة أو عدم الإتيان به وذلك بعد الفراغ من الصلاة، فَحِينَئِذٍ نجري قاعدة الفراغ وبها نصحح الشك في الموضوع. ومثل قاعدة اليد القائلة بأن وجود المال الموجود تحت يد أحدٍ أمارةٌ عَلَىٰ ملكيته له، فلا نشك هنا في كبرى أسباب التملك والمالكية وَإِنَّمَا نشك في أن زيداً هل هو مالك لهذا المال أم لا؟ فنقول: حيث أن المال موجود تحت يده وتصرفه فالمال له. إذن، بهذه القواعد نحدّد الموضوعات ونثبت أحكامها الجزئية.
وهذا النمط من القواعد خارج عن التعريف؛ لأَنَّنَا قلنا في التعريف أَنَّهُ يجب أن تقع القاعدة في طريق الاستنباط في الشبهة الحكمية والحكم الكلي، بينما لا تقع هذه القواعد في طريق استنباط الحكم الكلي، وَإِنَّمَا تقع في طريق إثبات الموضوع وحكمه الجزئي، فتخرج بذاك القيد.
الثَّانِي: القواعد الفقهية الَّتِي هي أحكام شرعية كلية في نفسها ولكننا جمعنا مصاديقها أو تطبيقاتها في قاعدة فقهية ونستخدمها في استنباط الأحكام، مثل قاعدة >ما يضمن وما لا يضمن< الَّتِي هي قاعدة فقهية نثبت بها أَنَّهُ لو ثبت الضمان في عقدٍ صحيح يثبت الضمان في الفاسد منه أَيْضاً.
وهذه القواعد أَيْضاً خارجة عن التعريف؛ لأَنَّنَا لا نثبت بواسطة هذه القواعد حُكْماً آخر، وَإِنَّمَا نطبّق تلك القواعد عَلَىٰ مصاديق العنوان المأخوذ في القاعدة. أي: أننا نحدد موارد من العقود الصحيحة الَّتِي فيها ضمان ونحكم بوجود الضمان في الفاسد من تلك العقود، لا أننا نستفيد منها حُكْماً آخر غير قاعدة >ما يضمن وما لا يضمن<. إذن، هذه الطائفة من القواعد الفقهية تخرج من التعريف بقيد الاستنباط الَّذِي معناه الإثبات التوسيطي لحكم الآخر.
الثالث: القواعد الفقهية الَّتِي نثبت بها في الشبهة الحكمية حُكْماً كُلِّيّاً هو غير القاعدة نفسها، كقاعدة الطهارة حيث نثبت بـ>كل شيء نظيف حَتَّىٰ تعرف أَنَّهُ قذر< الطهارةَ للأشياء وننفي عنها النجاسة الواقعية، وهذا ليست قاعدة الطهارة نفسها؛ لأَنَّ قاعدة الطهارة حكم ظاهري نثبت بها التأمين والتعذير الواقعي عن النجاسة الواقعية، وفي الواقع أننا بقاعدة الطهارة ننفي التنجيزَ كما كنا ننفيه في مثل قاعدة البراءة الشرعية. ومن الواضح أن الحكم الظاهري غير الحكم الواقعي دَائِماً، وَبِالتَّالِي تبقى هذه القواعد الفقهية أَيْضاً في إطار التعريف.
الرابع: القواعد الفقهية الاستظهارية الَّتِي تشبه القواعد والبحوث اللفظية لعلم الأصول؛ فكما نقول في الأصول بأن الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة، كذلك توجد لدينا قواعد مماثلة في الفقه فنقول للأمر بالغسل أَنَّهُ إرشاد إلى نجاسة الملاقى، ونستفيد من الأمر بغسل الملاقي للنجس أَنَّهُ حكم آخر يختلف عن ظهور الأمر في الإرشادية، فتبقى هذه الطائفة من القواعد دَاخِلاً في التعريف أَيْضاً.
الخامس: قاعدتي >لا ضرر< و>لا حرج< حيث نرفع بهما الحكم الكلي بوجوب الوضوء الضرري أو الغسل الضرري، ومن الواضح أن الحكم المرفوع تختلف عن القاعدتين؛ لأَنَّ وجوب الوضوء أو وجوب الغسل يختلف عن القاعدتين، علماً أن ميزة التوسيطية محفوظة في مثل هاتين القاعدتين الفقهيتين.