بحث الأصول المرحوم آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

30/10/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 

بحث أصول

 

{تعريف علم الأصول}

الجلسة الأولى، الثلاثاء 9/10/1430 (=9/10/2009)

البحوث التمهيدية:

قبل الدخول إلى علم الأصول والتطرق إلى بحوثه المقدمية يجدر بنا ذكر نكات تمهيدية حول موضع علم الأصول وكيفية نشوئه وتكوّنه وانشقاق مسائله ومباحثه عن علم الفقه، وكذلك الأدوار التأريخية الَّتِي مرَّ بها هذا العلم ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: المقصود من علم الأصول

في البداية يجب أن نرى ما هو المقصود من كلمة >الأصول< في أصول الفقه؟ فهل هي قاعدة أو أنها أصل عملي؟ ولماذا اختير له هذا الاسم ولماذا أطلق >الأصل< عَلَىٰ مسائل هذا العلم؟!

>الأصل< في اللغة يعني الأساس والركيزة والمبنى، وقد اُطلق عَلَىٰ مسائل علم الأصول لكونها مبان وأدلة وأساساً للفقه ولطريق الفقاهة. ومن الطبيعي أن ترد هذه التعابير الثلاثة منذ نشوء علم الأصول إلى اليوم في كلمات الأعلام والعلماء كالسيد المرتضى + الَّذِي يقول:

>اعلم أن الكلام في أصول الفقه إِنَّمَا هو عَلَىٰ الحقيقة كلام في أدلة الفقه، يدلّنا عليه أنّا إذا تأمّلنا ما يُسَمَّىٰ بِأَنَّهُ أصول الفقه وجدناه لا يخرج من أن يكون موصلاً إلى العلم أو متعلقاً به وَطَرِيقاً إلى ما هذه صفتُهُ والاختبارُ يحقق ذلك. ولا يلزم عَلَىٰ ما ذكرناه أن تكون الأدلة والطرق إلى أحكام فروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أُصُولاً للفقه؛ لأَنَّ الكلام في أصول الفقه إِنَّمَا هو الكلام في كيفية دلالة ما يَدُلُّ من هذه الأصول عَلَىٰ أحكام عَلَىٰ الطريق الجملة<([1] ).

وهذه هي النكتة الَّتِي أشار إليها علماء الأصول فيما بعدُ في تعريفهم الدقيق عنه من أنَّ علم الأصول أدلةُ الفقهِ، وَلٰكِنَّهَا أدلة كلية ومشتركة وليست أدلةً خاصة بكل مسألة فقهية، ومن هنا لا تتحول المسائلُ الفقهية جميعها إلى مسائل أصولية.

وقد ذكر المحقق & في كتاب >المعارج< الَّذِي يُعَدُّ من أمهات الكتب الأصولية لدى الشيعة تعبيراً مشابهاً لهذا التعبير حيث يقول: >الأصل هو ما يبنى عليه الشيء ويتفرع عليه... وأصول الفقه في الاصطلاح هي طُرق الفقه عَلَىٰ الإجمال<([2] )؛ فإن التعبير بـ>عَلَىٰ الإجمال< يضاهي >عَلَىٰ طريق الجملة< الَّتِي ذكرها السيد المرتضى، أي: أن الطريق أو الدليل كلي. وسوف يأتي تفصيل هذا المطلب عند دراستنا لكلمات المتأخرين من علماء الأصول حول التعريف الدقيق لعلم الأصول بأنه ما هو معنى أن >يكون علم الأصول دليلاً للفقه وطريقاً إليه عَلَىٰ الإجمال وبالنحو الكلي<؟!

إذن، إن أصول الفقه هي ركائز الفقه وأدلته الكلية والمشتركة، وقد استخرجت تلك الأدلة شَيْئاً فَشَيْئاً عن صميم علم الفقه، ومعنى ذلك أنه تبين في تأريخ الفقه وحركة الاجتهاد الفقهية وتدوين نصوص الفقه ومسائله أن هناك أدلة ومبان وأساسيات مشتركة بين الأبواب الفقهية يحتاج إليها الفقيه في كل باب من الأبواب الفقهية كحجية الخبر الواحد وحجية الظهور ودلالة كثير من الأدلة الَّتِي تستخدم في جميع الأبواب كدلالة صيغة الأمر ودلالة صيغة النهي ودلالة الجملة الشرطية ودلالة أدوات العموم وأمثالها الَّتِي يتم استخدامُها من قِبَلِ الفقهاء في جميع الاستدلالات الفقهية وأبواب الفقه المتنوعة والمختلفة، وطالما كان تكرار هذه الأدلة المشتركة في كل مسألة فقهية مُمِلاًّ ومُخِلاًّ أخذت تغادر هذه الأدلةُ المشتركة والكلية مسائلَ الفقه وتكدست بدايةً في مقدمةِ علم الفقه ثم انفصلت عنه واستقرت كعلم مستقل سُمّي بالأصول.

النقطة الثانية: مؤسس علم الأصول ونشوؤه

المعروف في هذا البحث وَالَّذِي ورد في كتب العامة أَيْضاً هو أن مؤسس علم الأصول هو الشافعي عَلَىٰ ما ذكره بعض كبار العامة، فعلى سبيل المثال يقول الفخر الرازي: >اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطلق وكنسبة خليل بن أحمد إلى علم العروض<([3] ) وكذلك يقول ابن خلدون في مقدمته: >كان أَوَّل من كتب في علم الأصول الشافعيُّ وأملي فيه رسالته المشهورة وتكلم فيها في الأوامر والنواهي<([4] )، وهناك من يقول بأن الشافعي أخذ الأصول من >الشيباني< المعاصر له وهو بدوره تلميذ لأبي حنيفة؛ فَإِنَّ الأخير له تلميذان مشهوران أحدهما محمد بن الحسن الشيباني والآخر القاضي أبو يوسف الَّذِي كان قاضياً للبلاط العباسي، كان هذا رأي علماء العامة.

ولربما وقع البحث والخلاف المعروف بين الأخباري والأصولي حول علم الأصول من منطلق أن علم الأصول منسوب إلى الشافعي، واعتمد الأخباريون عَلَىٰ ذلك ظناً منهم أن التمسك بعلم الأصول باطل في فقه الشيعة. وفي هذا المجال غاص علماؤنا بحور التحقيق وجالوا فيافي التدقيق وأثبتوا بذلك أن مؤسس علم الأصول كسائر العلوم الإسلامية هو أئمة أهل البيت ^لا سيما الإمام الباقر × والإمام الصادق ×؛ فقد قال السيد حسن الصدر في كتابه الشريف: >تأسيس الشيعة لعلوم الشريعة< أن مؤسس هذا العلم هو الإمامان الباقر والصادق ‘ وإليك نص كلامه: >أَوَّل من أسّس علم الأصول وفتح بابَه وفتقَ مسائلَه هو الإمام أبو جعفر الباقر × ثم بعده ابنُه الإمام أبو عبد الله الصادق × أمليا عَلَىٰ أصحابهما قواعدَه<([5] ). ومن المعلوم أن الصادقين ‘ كانا يعيشان في بداية القرن الثَّانِي بينما كان الشافعي يعيش بعدهما بخمسين سنة تقريباً؛ فقد عاش في أواخر القرن الثَّانِي وبدايات القرن الثالث، وتتلمذ الشافعي عَلَىٰ أبي حنيفة والمالك، والأخير من تلامذة الإمام الصادق ×. وهذا الكلام من السيد حسن الصدر & في غاية المتانة والسداد، وقد دعم كلامه & بشاهدين ودليلين ذكرهما في كتابه:

الدليل الأول: الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار ^ المبيِّنة للقواعد الأصولية وَالَّتِي صدرت إما ابتداء من الأئمة ^ وإما جواباً عن أسئلة الرواة، وفيها الإشارة إلى تلك القواعد الأصولية والمسائل المشتركة بين مختلف الأبواب الفقهية في عملية الاستنباط الفقهية؛ فعلى سبيل المثال هناك جم غفير من الروايات في باب الألفاظ يعلّم الأئمة ^ فيها الأصحاب ╚ عَلَىٰ كيفية الاستناد بالظهورات القرآنية ويقولون ^ فيها بِأَنَّهُ وَفْقاً لهذا الظهور يكون الحكم الشرعي كذا، نص بعض الروايات: >هذا وأمثاله يُعرف من كتاب الله< الواردة في الرواية المعروفة حول مسح الجبيرة، وفي بعضها يسأل الراوي عن سبب كفاية المسح ببعض الرأس ويجيب الإمام ×: >لمكان الباء في الآية {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}< وأن الباء ظاهرة في التبعيض، وغيره من الاستدلالات الواردة في الروايات الكثيرة حيث يعلمهم الإمام × كيفية التمسك بالظهورات القرآنية وحجية ظهور القرآن الكريم وهي مسألة أصولية.

وكذلك وردت عشرات الروايات حول قواعد باب التعارض وتظافرت الأحاديث حول حجية خبر الثقة، وهما مسألتان مهمتان من المسائل الأصولية. وعلى سبيل المثال توجد أحاديث في باب التعارض تفيد بأن معارضة الحديث للكتاب توجب سقوطه عن الحجية وهذه قاعدة أصولية تؤخذ في حجية الخبر الواحد. وهذه أحاديث رئيسية في الفقه ندرسها في كتاب التعادل والتراجيح بِأَنَّهُ ما هو مقتضى القاعدة ومقتضى الروايات الخاصة في موارد التعارض؟

وأيضاً توجد في مجاميعنا الروائية أحاديثُ حول الآيات القرآنية وكيفية الاستدلال بها وَالَّتِي تعالج الناسخ والمنسوخ والعام والخاص من الآيات وأنه لا يمكن العمل بالظهورات قبل دراسة تلك المسائل، بل يجب قبل العمل بالظهورات أن نلتفت فيها إلى الخاص والعام والناسخ والمنسوخ والمطلق وَالْمُقَيَّد، وهي القواعد الأصولية الَّتِي تُدرس في مباحث الألفاظ.

وكذلك توجد روايات وفيرة في بطلان الاستناد بالقياس والاستحسانات والإدراكات الاستحسانية والظنية غير القطعية للعقل مِمَّا تشكل شطراً مهماً من مباحث علم الأصول وَالَّتِي تبحث عنها في فصل الأصول العملية والأدلة الفقاهتية وَالَّتِي هي من مبدعات أصول الفقه الشيعي، وقد وردت فيها روايات عديدة تعلّم أصالةَ الاستصحاب وأصالة البراءة وأصالة الاحتياط الَّتِي تعتبر من أمهات المسائل الأصولية.

وفي هذا الضوء تبين أن الروايات الشريفة الواردة عن أئمة أهل البيت ^ تحتوي عَلَىٰ أكثر المسائل الأصولية وهم ^ الذين قاموا بأعباء تعليمها لأصحابهم الذين تبنّوا تلك القواعد ونشروها وبسطوها لتصل إلى فقهاء العامة خاصة من تتلمذ منهم لدى الأئمة الأطهار ^ كأبي حنيفة والمالك، ومن ثم انتقلت تلك الأصول إلى تلامذة هؤلاء كالشيباني والشافعي الذين بادروا إلى تأليف الكتب فيها.

وهذا شأن المسائل الفقهية أَيْضاً، أي: أن العامة وإن دوّنوا فقههم قبل تدويننا للفقه الشيعي ولكنهم بادروا بالكتابة والتأسيس بِنَاءً عَلَىٰ الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين ^ أو عن الصادقين خاصة؛ لأَنَّ أئمة العامة إما تتلمذوا عَلَىٰ أيدي أئمتنا الطاهرين ^ مباشرة وإما بالواسطة، كتلامذة ابن مسعود وابن العباس (وهما من تلامذة الإمام علي ×)، والواقع أن روايات أمير المؤمنين × والأئمة الأطهار ^ هي منشأ الفقه لدى الخاصة والعامة لا سيما الصادقين ‘ الذين كانا محطتين أساسيتين لعلوم الشريعة وللفقه في العالم الإسلامي أجمع، ولولاهما لما ظهرت مذاهب فقهية ولا أصولية؛ فَإِنَّ علم الأصول كان في بدايته كعلم الفقه مجرد روايات صدرت من أهل البيت ^؛ لأَنَّ عمدة روايات الفقه العامي ترجع إلى ابن العباس وابن مسعود وهما من تلامذة الإمام علي ×، أَمَّا الروايات الفقهية الواردة مباشرة عن النبي ’ فهي إما نادرة وإما مروية بطرق باطلة وضعيفة؛ وذلك لأَنَّ الحكومات آنذاك منعت نقل الحديث لمائة عام خلت رحيل النبي الأعظم ’ إلى أن سمح عمر بن عبد العزيز في القرن الثَّانِي بنقل الحديث.

طَبْعاً، لم يكن سائر الصحابة بمستوى من الدراية الَّتِي تمكّنهم من استيعاب السنة النبوية وفهمها، وخير شاهد عَلَىٰ ذلك القصص المروية عن الخليفة الأول والثاني ويشهد التأريخ بأن أمير المؤمنين علي × كان هو المصدر الأساس والمنبع الصحيح لنشر السنة النبوية ’ والتعاليم الإسلامية دون سائر الصحابة؛ فإنهم كانوا عادةً من تلامذته ×، وكان الصحابة يبدون آرائهم الشخصية وليس آراء الإسلام وسنة النبي الأعظم ’؛ وذلك لأنهم ما كانوا مطلعين عَلَىٰ السنة النبوية الشريفة ’ وهذا ما ثبت بشهادة التأريخ وإقرارهم عَلَىٰ أنفسهم ورواياتهم. وقد اهتم أمير المؤمنين × بالسنة النبوية حَتَّىٰ أَنَّهُ × جمع القرآن الكريم ونقل المعارف الإسلامية والسنة النبوية ’ إلى الأئمة من بعده لتنتشر بهم العلوم الإسلامية ولاسيما عبر الإمامين الصادقين ‘ بين الشيعة وكذلك السنة وأئمتهم، كما أَنَّهُ × اهتم بنقل السنة النبوية الشريفة إلى تلامذته × المباشرين كابن العباس وابن مسعود وإلى غير المباشرين ممن تتلمذ عَلَىٰ أيديهم أئمةُ المذاهب العامة. وهكذا استطاع الإمام علي × أن ينشر السنة النبوية بين الشيعة بشكلها الصحيح ويمنع إلى قدر الإمكان عن توّسع رقعة الانحرافات الحاصلة جراء العمل بالآراء الشخصية.

إذن، كما أن أئمة أهل البيت ^ أسسوا الفقه كذلك في أصول الفقه؛ فَإِنَّ رواياتهم تشكّل جذور القواعد والمسائل الأصولية الَّتِي انتقلت فيما بعد عبر ابن مسعود وابن العباس أو عن طريق الصادقين ‘ إلى أئمة المذاهب الأربعة ثم اهتم تلامذة هؤلاء كالشافعي والشيباني بكتابة بعض تلك المسائل كتابةً بدائيةً.

الدليل الثَّانِي: دليل يضفي مزيداً من الإضاءة والإيضاح عَلَىٰ هذا المطلب ويبيّن منشأ تدوين الرسائل الأصولية؛ إذ أن تلامذة الإمامين الصادقين ‘ صنّفوا ودوّنوا رسائل في المسائل الأصولية وقد تناولت تلك الرسائل تجميع الروايات المرتبطة مع تفسيرها ولم تكن عَلَىٰ شكل الرسائل والكتب الفقهية أو الأصولية المعاصرة.

وقد ورد في الفهارس المؤلفة حول مصنفات الروات وأصحاب الأئمة ^ أن الأصحاب ╚ اهتموا بالتأليف في بعض المسائل الأصولية وهؤلاء كانوا يعيشون قبل الشافعي، مثل هشام بن الحكم الَّذِي ألف كتاب >الأخبار وكيف تَصِحُّ؟< و>الألفاظ ومباحثها< وكتاب >الألفاظ< وقد ذكرها النجاشي والشيخ الطوسي وابن نديم في فهارسهم، ومثل يونس بن عبد الرحمن الَّذِي تليت طبقتُه طبقةَ ابن هشام وكان من تلامذة ابن هشام فقد ألف كتاباً باسم >اختلاف الحديث< وهو يتناول بحث تعارض الأدلة وهو رسالة أصولية. وَبِالتَّالِي تم تأليف هذه الرسائل الأصولية قبل تأليف الشافعي لكتابه >الأوامر والنواهي< وقوي الظن أَنَّهُ وأستاذه أو المالك اطلعوا عَلَىٰ تلك المسائل من خلال تلك الروايات الصادرة عن الأئمة × أو بواسطة العثور عَلَىٰ تلك الرسائل ومن ثم دوّنوها بشكل أفضل.

والحاصل أن تأسيس علم الأصول كعلم الفقه تم عَلَىٰ الأيدي الطاهرة لأئمة أهل البيت ^ كما تكوّنت الرسائل الأصولية منذ نشوئها في الأوساط الشيعية إلى أن توسعت في زمان الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي ô.

النقطة الثالثة: أدوار أصول الفقه

وقد بحثنا أدوار علم الفقه بشكل مبسوط في مقدمة المجلد الأول من كتاب >موسوعة دائرة المعارف لفقه أهل البيت ^< ويجدر بالقارئ الكريم أن يراجعه حيث قسمنا تلك الأدوار إلى ستة عصور وهي بعينها تنطبق عَلَىٰ أصول الفقه أَيْضاً:

الأول: العصر الروائي

الحقبة الأولى هي حقبة أصول الفقه الروائية الَّتِي عاشها أصحاب الأئمة ^ وجمعوا فيها الروايات الواردة في المسائل الأصولية وكذلك الفقهية بين دفّتي الرسائل، وقد استمرت هذه الفترة إلى زمان الشيخين الصدوق والكليني↓.

الثَّانِي: عصر تدوين الآراء الأصولية

الحقبة الثانية هي الفترة الَّتِي فيها استقل أصول الفقه عن الفقه ودُوّن في فصول مرتبة عَلَىٰ نمط الفتاوى الفقهية أقوالاً وآراء أصولية، وتبدأ هذه الحقبة من زمان الشيخ المفيد & الَّذِي ألف في الأصول كتاب >التذكرة< والسيد المرتضى & صاحب >الذريعة< والشيخ الطوسي & مؤلف >عدة الأصول<، فهؤلاء العظماء قدّموا هذه الكتب في هذه الحقبة الزمنية وهم في الواقع فصلوا المسائل الأصولية عن المسائل الفقهية وقاموا بتدوينها كعلمٍ آخر، وقد امتدت هذه الحقبة إلى زمان المحقق الحلي.

الثالث: عصر التوسع والتقدم

وتبدأ هذه الحقبة من زمان المحقق الحلي & حيث قام بتوسعة المسائل الأصولية وكذلك الفقهية وقدّمها بمزيد من التنقيح والاستدلال والتطبيق عَلَىٰ أصول العامة وفقههم، وقد استمرت هذه الحقبة إلى زمان صاحب المعالم ابن الشهيد الثَّانِي حيث ألفه كتابه الشهير >معالم الدين وملاذ المجتهدين<.

الرابع: عصر الركود

والحقبة الرابعة هي فترة ركود علم الأصول وسباته وهي حقبة ما بعد صاحب المعالم أو فترة ظهور الأخباريين الَّتِي استمرت من زمن محمد أمين الأسترآباذي إلى زمن صاحب الحدائق حيث شن الأخباريون هجماتهم عَلَىٰ الأصول والبحوث الأصولية بذرائع منها أن الشافعي هو مؤسس علم الأصول وأن هذه البحوث الأصولية لا تنسجم مع فقه أهل البيت ^ وأنه يجب علينا أن نرجع إلى رواياتهم وإلى أحاديث الكتب الأربعة ولا يجدر بِنَا أن نقبل العقل والإجماع ولا حَتَّىٰ الظهورات القرآنية عن غير طريق الروايات.

الخامس: عصر الإحياء واستحكام الأصول

وفي هذه الحقبة عادت الحياة والقدرة إلى الفقه وأصوله من جديد وهي حقبة محمد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد، فهو لعب دوراً هاماً وحيوياً في إحياء الفقه الشيعي وأصول الفقه وتثبيت الطريق الصحيح للفقاهة والاجتهاد الشيعي؛ لأَنَّهُ لم يكتف بدفع شبهات الأخباريين ودحضها وإبطالها وَإِنَّمَا اهتم بتصحيح وتعديل بعض الحركات الفكرية والفقهية الخاطئة، كالقضية المرتبطة بالحركة الفكرية النافية لحجية الخبر الواحد الَّتِي تابعها المحقق الأردبيلي وتلامذته وَالَّتِي كانت تقابل تماماً الحركة الأخبارية وتصطدم معها؛ إذ كانت تؤكد هذه الحركة عَلَىٰ قطعية الخبر لصحة الاستناد به وإلا يسقط عن الحجية ومعنى إنكار حجية الخبر الواحد هو الاتكاء عَلَىٰ القطع والإجماعات والاستدلالات العقلية، فشمر الوحيد البهبهاني عن ساعد الجد والاجتهاد وحارب كلتا الفكرتين الإفراطية والتفريطية وقد بيّنا بوضوح دور الوحيد البهبهاني في مقدمة الموسوعة الفقهية وهو بحث قيم يتناول العملَ الكبير الَّذِي قام به & في تأليفاته وفي تربيته لجيل من التلاميذ حيث تتلمذ المعاريف من علمائنا وفقهائنا في هذه الحقبة كالسيد مهدي بحر العلوم + والمحقق القمي وكاشف الغطاء والنراقي وآل راضي والأعرجي الطباطبائي صاحب الرياض ومئات من الفقهاء الذين انتشروا إلى أكثر الحوزات العلمية، علماً أن الوحيد البهبهاني & أصفهاني الأصل وهو من أحفاد الفاضل المجلسي، ولكن حيث اشتدت الحركة الأخبارية في أصفهان وسكن الوحيد تلك الديار عشرين سنة، لذلك اشتهر بالبهبهاني، ثم انتقل & إلى الكربلاء وعارض هناك كبار علماء الأخبارية كصاحب الحدائق وبذلك استأصل جذور الحركة الأخبارية وأفكارها، فلا غرو في أن نقول إنه مجدد لعلم الأصول وللأساليب الصحيحة للاستنباط والاجتهاد والفقاهة لدى الإمامية.

السادس: عصر ازدهار علم الأصول

وأخذ الأصول يدخل في حقبته السادسة في عصر الشيخ الأنصاري & وهي حقبة التطور والازدهار لعلم الأصول ورقيّه إلى حد الكمال، وهذه الحقبة الزمنية مستمرة إلى الآن.

فهذه هي الأدوار التأريخية الَّتِي تراءت لدينا لعلم الأصول علماً أن هناك من ذكر أدواره بشكل آخر، إِلاَّ أن نظرنا في هذا التقسيم كان معطوفاً إلى نفس علم الفقه والأصول من منطلق الأحداث العلمية الطارئة عليهما وتطوّر كيفية الاستدلال ومستوى النمو الذاتي للفقه والأصول، لا إلى المسائل الخارجية عنهما كالمسائل السياسية والاجتماعية والجغرافية الطارئة عليهما، وأخذنا بعين الاعتبار أن يكون كل تحول وتطور يطرأ عليهما تطوراً نوعياً وكيفياً يختلف عن الطور السابق اختلافاً أساسياً وجوهرياً في العلم نفسه وليس في الجوانب الأخرى الَّتِي وقعت مورد اهتمام بعض المؤرخين لعلم الفقه والأصول حيث ذكرنا لكل حقبة ميزات علمية بارزة لا ندخل في تفاصيلها هنا ونحيل القارئ الكريم إلى تلك المقدمة النفيسة.

وعليه، فإن علم >أصول الفقه< المعاصر علمٌ له تأريخ طويل ومؤسس هذا العلم ومسائله هم الأئمة الطاهرين ^ إلى أن نال هذا العلم اليوم وبحمد الله مبلغاً عظيماً من التكامل والتقدّم والتطور حَتَّىٰ حظي بمستوى من الأهمية يتعسر استنباطُ النظريات والرؤى المعرفية عن الكتاب والسنة ومصادر الشريعة الإسلامية من دون الإشراف عَلَىٰ علم الأصول مِمَّا جعله مفتاحاً لفتح وفهم العلوم الإسلامية والفنون الدينية فَضْلاً عن الفقه والفقاهة، فعلى سبيل المثال إن كل من يريد التعرف عَلَىٰ علم الاقتصاد الإسلامي أو يريد تفسير الآيات القرآنية أو يريد أن يذوّب شباة قلمه في الحقوق أو العقائد الإسلامية، يجب عليه أن يكون ملمّاً بعلم الأصول.

والحاصل أن علم الأصول بات اليوم مفتاحاً لعلوم الشريعة ومقلاداً للمعارف الإسلامية، مُضَافاً إلى أن التدقيقاتِ الموجودةَ في هذا العلم خيرُ مِعوان للعلماء في غمرة الأفكار العلمية وتعقّدها وأفضل مسند يساندهم في الآفاق الكلية للدقة والنظر لكيلا يتأثروا بالعلوم الأخرى، وإن كانت بعض الكتابات الأصولية تأثرت بين حين وآخر بالعلوم الأخرى ولكن علماء الأصول أشاروا فيما بعد إلى أن الأصول تأثر في تلك المسألة بالحكمة المتعالية مَثَلاً وذلك كقاعدة الواحد الَّتِي استفاد منها الخراساني في كفاية الأصول مِمَّا جعل الآخرين من الحكماء والأصوليين يلحظون عليه أن تلك القاعدة لا تجري في الاعتباريات والمسائل الفقهية، وَبِالتَّالِي تترتب آثار وفوائد جمة عَلَىٰ الاهتمام بالبحوث الأصولية، ومن الطبيعي أن عَلَىٰ المتمرس والمتدرب لهذا العلم أن يلتفت إلى مدى عملية المسائل الأصولية؛ لأَنَّ بعض تلك المسائل ليست عملية في الفقه ولا في العلوم الإسلامية الأخرى مِمَّا يمكن حذفها شيئاً فشيئاً من علم الأصول، وهذا بحاجة إلى بحث مستقل آخر بِأَنَّهُ لو أراد أصولي أن يغربل ويصفي المسائل الأصولية لابد له من أن يحذف بعض تلك المسائل كما يجب التوسع في مسائل أخرى وإضافة بعض المسائل الحديثة إليه، كالبحث عن السيرة والاستدلال بها وأنواعها كسيرة العقلاء والسيرة المتشرعة، أو مبنى الحجية والكاشفية للإجماع والتواتر والأدلة القطعية الَّتِي تُعتبر من الأدلة الفقهية المهمة الَّتِي أضيفت إلى مسائل هذا العلم تدريجياً.


[1] - الطهراني.، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج1، ص7، بتصحيح أبي القاسم الڠُرجي
[2] - الحلي.، المعارج: ص48
[3] - .الشافعي: ص196-197
[4] - راجع: المسعودي.، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج3، ص436
[5] - الصدر.، تأسيس الشيعة لعلوم الشريعة: ص310