بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: المفاهيم (مفهوم الشرط)

[تتمّة الكلام في الروايات التي استُدلّ بها لإثبات مفهوم الشرط مطلقاً]

 

[الرواية الثالثة]

[رواية صالح بن سعيد]

كان الكلام في الروايات التي استشهد بها على ثبوت مفهوم الشرط، فوصلنا إلى الرواية الثالثة التي وردت في ذيل قوله تعالى نقلاً عن إبراهيم × " ﴿قال بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ‌ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُون‌﴾ قال ×: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم... إنّما قال إبراهيم × فاسألوهم إن نطقوا فكبيرهم فعل".

يعني الآية فيها تقديمٌ وتأخير والمراد من الآية هكذا: فاسألوهم فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا وما كذب إبراهيم، فيقال بأنّ الإمام × ذكر المفهوم لقول إبراهيم × بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فقال وإن لم ينطقوا فما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم.


والجواب عن هذا الاستدلال:

    1. أنّه في الآية الكريمة لا يُحتمل وجود بديلٍ آخر لنطق الأصنام، كلامنا في مفهوم الشرط فيما إذا كان يُحتمل وجود بديلٍ للشرط المذكور في الخطاب مثل قوله "إن جاء زيدٌ فأكرمه" فإنّنا نحتمل وجود بديلٍ لمجيء زيد وهو مرضه أمّا في هذه الآية فعُلّق كسر الأصنام بواسطة كبير الأصنام على أمرٍ محال وهو نُطقهم وحيث إنّهم لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم، وأين هذا من مفهوم الشرط؟!

إن كان الإشكال في المنطوق فهو شيء آخر بأن يُقال: "لو نطقوا" لو فُرض أنّهم نطقوا فهذا يستلزم أنّ كبيرهم كسر الأصنام لا إبراهيم؟! الجملة الشرطيّة غير يثبت لها منطوق وهو استلزام الشرطِ للجزاء؟ مع أنّه في الآية الكريمة نُطق الأصنام هل يستلزم أنّ كبيرهم كسرهم؟ لا، الكل يشهد بأنّ إبراهيم هو كسر الأصنام فهذا تعبيرٌ عن بيان أنّهم لو كانوا ينطقون لصدر منهم الخير والشر، تنبيهٌ على هذا المطلب، إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، يُنبههم على أنّه انظروا لا ينطقون، تعبدون أصناماً لا يضّرون ولا ينفعون، فلا علاقة لهذه الجملة بمفهوم الشرط.

    2. مضافاً إلى أنّ هذه الرواية لم تستشهد بظهور كلام إبراهيم ×؛ فإنّه لا إشكال في ظهور قوله فاسألوهم إن كانوا ينطقون" في أنّ الشرط مرتبطٌ بقوله ﴿فَسْئَلُوهُمْ‌﴾؛ فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فالإمام × فسّر مراد إبراهيم × في مقام التورية، والتورية يعني خلاف الظاهر ونحن نتكلّم عن الظهور وأنّه هل ظهور الجملة الشرطيّة في ثبوت المفهوم أم لا؟


[الرواية الرابعة]

[رواية عبيد بن زرارة]

الرواية الرابعة: رواية عبيد بن زرارة: "قلت لأبي عبد الله × قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قال × ما أبينها، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه"؛ فيقال: بأنّ الإمام × صرّح بمفهوم هذه الآية فقال من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه.

وفيه:

    1. أنّ قوله × "ومن سافر فلا يصمه " لعلّه تفسيرٌ لذيل الآية الكريمة وهو قوله تعالى ﴿وَمَنْ كانَ مَريضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر﴾.

ويشهد على ذلك: أنّ مفهوم ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ لو ثبت له مفهوم: أنّ من سافر فلا يجب عليه أن يصوم لا أنّه يحرم عليه أن يصوم ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ يعني: من كان حاضراً وجب عليه صوم رمضان، لو كان له مفهوم لكان معناه: ومن كان مسافراً فلا يجب عليه أن يصوم لا أنّه لا يصوم.

    2. وأساساً الجملة الشرطيّة التي نتكلم عن ثبوت المفهوم لها الجملة الشرطيّة المصدّرة بمثل "إذا" و"إن" ونحو ذلك أمّا "من" هذا لا يثبت له مفهوم:

من كان عالماً فأكرمه" لأنّ الضمير في أكرمه يرجع إلى من كان عالماً، فإذا لم يكن شخصٌ عالماً فانتفاء وجوب إكرامه يكون بانتفاء الموضوع فيختلف عن قولنا "إن كان العالم عادلاً فأكرمه" لأنّ الضمير فيه يرجع إلى العالم، يعني العالم إن كان عادلاً فأكرمه، العالم إن لم يكن عادلاً فلا يجب أن تكرمه، الموضوع الثابت في فرض ثبوت الشرط وفي فرض انتفاءه هو العالم أمّا قوله "من كان عالماً فأكرمه" ليس هناك شرطٌ زائدٌ على الموضوع بل الشرط صلة هذا الموضوع، وبانتفاء الشرط ينتفي الموضوع عرفاً؛ لأنّ الضمير في قوله من كان عالماً فأكرمه يرجع إلى من كان عالماً.

الجملة الشرطيّة التي يُتكلم عن ثبوت المفهوم لها: ما إذا كان ثبوت الجزاء للموضوع المفروض بالخطاب معلّقاً على شرطٍ زائد لا مثل قوله "من كان عالماً فأكرمه" فإنّه لا يدلّ على أنّ من ليس بعالمٍ لا يجب إكرامه مطلقاً.

[الرواية الرابعة]

[معتبرة أبي أيوب الخزاز]

الرواية الرابعة: معتبرة أبي أيوب الخزاز "إنّ الله يقول ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ‌ في‌ يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه‌﴾ فلو سكت – يعني لو قال فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه وسكت عن قوله﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه‌﴾ - لم يبقَ أحدٌ إلا تعجّل ولكنّه قال ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه‌﴾.

يعني لو كان هناك الجملة الأولى ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ‌ في‌ يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ‌﴾ استفيد منها المفهوم أي: من لم يتعجّل في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة في النفر من منى فعليه إثمٌ، من تعجّل ونفر من منى في اليوم الثاني عشر لا إثم عليه فكان الناس يستظهرون منه أنّ من لم يتعجّل في النفر من منى في اليوم الثاني عشر بل بقي إلى اليوم الثالث عشر فعليه إثمٌ ولكن قال بعد ذلك ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه‌﴾ فلو سكت لم يبقَ أحدٌ إلا تعجّل.

[الجواب]:

    1. هذه الرواية لا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها.

    2. أو حملها على الجدل مع العامّة؛ فإنّ نفي الإثم على من نفر من منى في اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة في مقام توهّم الحظر، مثل أن تخاطب الضيوف وتقول لهم "من تعجّل وخرج من بيتي بعد الغداء مباشرةً فلا إثم عليه" يعني من يبقى إلى أن يرفعوا السفرة عليه إثمٌ؟! لا، هذا في مقام توهّم الحظر؛ لأنّه يتوهم أنّه لماذا يستعجل؟ أكل الغذاء رأساً وقام وغادر؟ ما هذا؟ يقول : فمن تعجّل في الخروج من بيتي بعد الغذاء مباشرةً فلا إثم عليه، هذا في مقام توهّم الحظر، وخصوصاً ذكرنا أنّ "من" ليست من أدواة الشرط التي يُتكلم عن ثبوت المفهوم لها.

 


[الاستدلال بكلام هشام بن الحكم &]

 

في كتاب الأصول الأصليّة السيد شبّر & استدلّ بكلامٍ لهشام بن الحكم على ثبوت مفهوم الشرط، هشام تناظر مع بعض المخالفين في عمر بن العاص وأبي موسى الأشعري، ذاك الشخص الذي كان يتناظر مع هشام قال: إنّ الحكمين بقبولهما الحكميّة كانا مريدين للإصلاح بين طائفتين من المسلمين، فقال هشام: لا، بل كانا غير مريدين للإصلاح، فقال ذاك الشخص من أين؟ فقال هشام: لأنّ الله تعالى يقول في الحكمين ﴿إِنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ‌ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾؛ فحيث لم يوفّق الله بين الطائفتين المتخاصمتين عرفنا أنّ الحكمين لم يريدا الإصلاح. تمسّك هشام -ذاك الشيعي المدافع عن أهل البيت ^ - بمفهوم الشرط.

الجواب:

    1. أولاً: أنّ هشام على رؤوسنا ولكن فهمه ليس حجّةً علينا.

    2. وثانياً: هو لم يتمسّك بمفهوم الشرط تمسّك بعكس النقيض؛ مثلما إذا قال المولى "العالم واجب الإكرام" وعلمنا بأنّ زيداً ليس واجب الإكرام، لا ندري هل زيدٌ عالمٌ خُصّص من هذا العموم أو جاهلٌ خرج من هذا العموم تخصّصاً؟ فنقول: عكس نقيض هذه القضيّة: فمن لا يكون واجب الإكرام فليس بعالمٍ وحيث إنّ زيداً ليس واجب الإكرام فليس بعالمٍ، هذا هو الذي قبله الشيخ الأنصاري وأنكره صاحب الكفاية، وهذا ليس له علاقة بمفهوم الشرط، هشام قال: إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما وحيث لم يوّفق الله بينهما فلم يريدا الإصلاح، تمسّك بعكس النقيض.

    3. مضافاً إلى أنّ قوله ﴿إِنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ‌ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ ليس بنحو العلّيّة التامّة؛ كثير من الحكمين في اختلاف الزوج والزوجة يحاولان يصلحان بين الزوجة والزوج فما يوَفقان، وإلّا كنا نطلب من المصلحين الذين لا يريدون إلّا الإصلاح "إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت" نجد جماعة من المؤمنين الخيّرين الذين ما أردوا في حياتهم إلا إصلاح أمر الأمة، ما خطر في بالهم أي إفساد، نطلب منهم كلّ زوج وزوجة صار بينهم نزاع هم يجيئون يصلحون بين الزوج والزوجة ﴿إِنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ‌ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ لا هذا يكون على نحو الاقتضاء، يعني أنت حاول أصلح بينهما إن شاء الله توفّق.

    4. ولعلّ هشام كان يعرف هذه المطالب لكنّه كان بصدد الجدال مع الخصم.

والحاصل: أنّنا لا نرى ثبوت مفهوم الشرط كمفهومٍ مطلق إلّا إذا كان ظاهراً في تحديد الحكم.

مثل: ما ورد في بعض الروايات، مثلاً: الرجل يجامع المرأة قريباً من الفرج فلا يُنزلان، متى يجب الغسل؟ قال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، متى يجب الغسل ظاهر الجواب: أنّ الإمام × في صدد التحديد وفي مقام التحديد يبيّن كل ما له دخل في الحكم، هذا لا إشكال في ثبوت المفهوم له مطلقاً ولكنّه يحتاج إلى قرينةٍ خاصّة.