بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: المفاهيم (مفهوم الشرط)

[تتمّة الكلام في الأدلّة المذكورة لإثبات المفهوم]

 

كان الكلام في الأدلّة التي أقيمت لصالح المشهور من القول بالمفهوم المطلق للجملة الشرطيّة، وصلنا إلى الوجه الذي حُكي عن صاحب الفصول & حيث قال:

[دليل صاحب الفصول & وجوابه]

الظاهر من الشرط المذكور في الخطاب: أنّه هو الشرط واقعاً لا الجامع بينه وبين شرطٍ آخر يكون بديلاً له، فإذا قال المولى "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" فظاهره أنّ مجيء زيدٍ بعنوانه شرطٌ لوجوب الإكرام لا الجامع بين مجيئه ومرضه مثلاً.

ولكن يرد عليه:

    1. أولاً: يُحتمل تعدد الجعل، فهذا الجعل المُبرز بهذا الخطاب عنوان مجيء زيدٍ شرطٌ له ولعلّه يوجد جعلٌ آخر يكون مرضُ زيدٍ شرطاً له، فيكون وجوب الإكرام المُنشأ في الخطاب الذي يقول "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" فرداً غير ذاك الفرد الذي أُبرز بخطاب إن مرض زيدٌ فأكرمه"، وفي كلٍّ منهما يكون الشرط هو هذا العنوان أي عنوان مجيء زيد أو عنوان "مرض زيد" فلا يلزم أن يكون في مقام الثبوت الشرط هو الجامع بجعلٍ واحد حتى يكون خلاف الظاهر.

    2. هذا مضافاً إلى أنّنا لا نرى وجهاً لما قاله صاحب الفصول وقبله مثل المحقق العراقي ‚ من أنّه كلّ ما أُخذ في موضوع الخطاب فمقتضى أصالة التطابق أنّه مأخوذٌ في موضوع الجعل ثبوتاً، من أين هذا؟

فلو قال المولى "إكرام الفقيه واجب" من أين نستكشف أنّ الشارع أخذ عنوان الفقيه في موضوع الجعل ثبوتاً؟ فلعلّ موضوع الجعل ثبوتاً هو عنوان إكرام العالم وإنّما ذُكر مصداقٌ من مصاديقه لكثرة الابتلاء به أو لشدة الاهتمام به، فلا يتمّ هذا الدليل.

[التمسّك بالإطلاق الأوي]

الدليل الآخر على ثبوت المفهوم المطلق للجملة الشرطيّة ما ذكره المحقق النائيني & من أنّه يوجد في الجملة الشرطيّة إطلاقٌ أوي في قبال التقييد الأوي.

فإن قال المولى "إن جاء زيدٌ أو مرض" فهذا تقييدٌ أويٌ للشرط ولكن إذا لم يقيّد الشرط بهذا التقييد الأوي فيكون مقتضى الإطلاق الأوي أنّ الشرط المذكور في الخطاب –أي مجيء زيدٍ في قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه"- هو الشرط المنحصر لوجوب الإكرام.

ولكن يرد عليه: أنّ التقييد الأوي ليس تضييقاً للحكم وإنّما هو توسعةٌ للحكم، التقييد الأوي بمعنى أخذ شيءٍ في الخطاب يوجب توسعةَ الحكم، إذا قال المولى "إن جاء زيدٌ فأكرمه" هذا حكمٌ أضيق ممّا إذا قال "إن جاءك زيدٌ أو مرض فأكرمه" وما يُنفى بالإطلاق هو ما يكون تضييقاً للحكم والإطلاق ينفي هذا التضييق.

وهذا مثل أن يقال: "الزلزال سببٌ لوجوب صلاة الآيات" مجرد أنّه لم يقل الزلزال أو الخسوف سببٌ لوجوب صلاة الآيات هذا لا يقتضي أن تجري أصالة الإطلاق في قوله "الزلزال سببٌ لوجوب صلاة الآيات" فينفى به سببيّة الخسوف.

إن قلت: ظاهر قوله "إن جاء زيدٌ فأكرمه" أنّ مجيء زيدٍ سببٌ لوجوب الإكرام وظاهر السببيّة: السببيّة الفعليّة، وهذا يعني أنّه ما لم يوجد مجيء زيدٍ فلا يتحقق وجوب الإكرام؛ لأنّه لو تحقق وجوب الإكرام بسببٍ آخر فقد يكون هذا السبب موجوداً قبل وجود المجيء فلا يكون المجيء سبباً لوجوب الإكرام.

قلنا في الجواب: حتى لو صرّح المولى فقال: "مجيء زيدٍ سببٌ لوجوب إكرامه" فظاهره أنّه سببٌ شأناً لا سببٌ بالفعل يعني لو لم يوجد وجوب الإكرام قبله فمجيء زيدٍ يوجبٍ هذا الوجوب، كما نقول "شرب السمّ سببٌ للموت" هذا لا يعني أنّه لو جُرح الشخص قبل شُرب السمّ بجراحةٍ تؤدي إلى الموت ثم شرب السم فشُرب السم سببٌ بالفعل للموت، لا، شُرب السم سببٌ للموت يعني شأناً يعني يصلح لأن يكون سبباً للموت إن لم يوجد قبله سببٌ آخر.

 

[التمسّك بالروايات]

آخر ما يُتمسّك به لإثبات المفهوم المطلق للجملة الشرطيّة روايات:

    1. منها: معتبرة أبي بصير، قال: "سألت أبا عبد الله × عن الشاة تُذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط فقال ×: لا تأكل إن عليا × كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل".

هذه الرواية عمدة الروايات التي استُدلّ بها على مفهوم الشرط، فترون أنّ السيد الخوئي & قبِل الاستدلال بهذه الرواية؛ لأنّ الإمام × استدلّ بمفهوم الشرط في كلام أمير المؤمنين × حيث قال علي ×" إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل" فاستفاد الإمام الصادق × مفهوم الشرط من هذه الجملة وهو أنّه إذا لم تركض الرجل ولم تطرف العين فلا تأكل، ولأجل ذلك الإمام الصادق × قال : الشاة تذبح ولا تتحرك لا تأكل، فتمسّك بمفهوم الشرط بكلام عليٍّ × مع أنّ هذه الشاة خرج منها دمٌ كثيرٌ عبيط أي طازج، ولكن الإمام الصادق × تمسّك بمفهوم الشرط في كلام عليٍّ × لإثبات حرمة أكل هذه الشاة لأنّ عليّاً × كان يقول: " إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل" يعني إذا لم يتحقق هذا الشرط فلا تأكل مطلقاً ولو خرج من الشاة بعد ذبحها دمٌ كثيرٌ عبيط.

ولكن يمكن أن نقول:

     أولاً: ظاهر كلام أمير المؤمنين × الإرشاد إلى الشرطيّة الظاهريّة لحركة الحيوان حين الذبح، يعني لو علمنا أنّ الحيوان كان حيّاً حين ذبحه فلا كلام ولكن إذا شككنا فيُشترط في الحكم بتذكيّة الحيوان أن يتحرّك حين ذبحه، ومقتضى إطلاق الشرطيّة الشرطيّة التعيينيّة ولا علاقة لذلك بمفهوم الشرط.

حتى لو قيل: "كُل الحيوان الذي ركضت رجله عند ذبحه" فنقول هذا إرشاد إلى شرطيّة حركة الحيوان حين ذبحه، فإذا لم يوجد هذا الشرط للتذكية فلا تذكية ولو بمقتضى الحكم الظاهري، ألا ترى أننا نستفيد من قوله تعالى ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه﴾ الشرطيّة التعيينيّة للتسميّة؟! مع أنّه ليس له مفهوم شرطٍ فكذلك نستفيد من قول علي ×"إذا ركضت الرجل فكل" الشرطيّة التعيينيّة لحركة الحيوان حين ذبحه ولا علاقة له بمفهوم الشرط.

     ثانياً: مفاد كلام أمير المؤمنين × في قوله: "إذا ركضت الرجل فكل" إلغاء استصحاب بقاء حياة الحيوان؛ بعضهم يسأل: ذبحنا الحيوان لا ندري هل تحرّك حين ذبحه أم لا ونحن نحتمل أنّه مات قبل أن ينذبح هل نُجري استصحاب بقاء حياته إلى حين ذبحه؟ نقول: أبداً؛ لأنّ الشارع ألغى هذا الاستصحاب، فإذا لم يتحرّك الحيوان فالإمام × أجرى استصحاب عدم التذكيّة لأنّ استصحاب بقاء الحياة الحاكم على استصحاب عدم التذكيّة أُلغي شرعاً.

كلّ ذلك لا علاقة له بمفهوم الشرط.

    2. الرواية الثانية: صحيحة جميل: عن أبي عبد الله × قال: "قال له رجلٌ جُعلت فداك إن الله يقول ادعوني أستجب لكم فإنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال ×: لأنّكم لا تفون لله بعهده، وإنّ الله يقول ﴿أَوْفُوا بِعَهْدي‌ أُوفِ بِعَهْدِكُم﴾ والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم".

فيقال بأنّ الإمام × تمسّك بمفهوم الشرط: ﴿أَوْفُوا بِعَهْدي‌ أُوفِ بِعَهْدِكُم﴾ يعني إن وفيتم بعهدي وفيت بعهدكم، فالإمام × قال: مفهومه أنّكم إذا لم تفوا بوعدكم فالله سبحانه لا يفي بوعده ولأجل ذلك لا يفي بوعد الاستجابة للدعاء.

فتمسّك الإمام × بمفهوم الشرط؛ قال: الله يقول ﴿أَوْفُوا بِعَهْدي‌ أُوفِ بِعَهْدِكُم﴾ يعني إن وفيتم بعهدكم وفيت بعهدي فإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء، لم تفوا بعهدكم الله سبحانه أيضاً لم يفِ بعهده.

نقول في الجواب:

     أولاً: يمكن أن نقول ﴿أَوْفُوا بِعَهْدي‌ أُوفِ بِعَهْدِكُم﴾ ليس جملةَ شرطٍ؛ فهو نظير أن يقول شخصٌ لآخر "تعال إلى بيتي حتى أعطيك هديةً" ظاهره أنّ الطريق للوصول إلى الهدية هو أن تذهب إلى بيته "تعال إلى بيتي حتى أعطيك هدية" فإذا لم يوصل إليه الهديه ذاك الشخص لأنّه لم يذهب إلى بيت فلان يقال له : لم تأتِ إلى بيتي فلم أعطك هدية، هذا ليس مفهوم شرط، هذا ظاهرٌ في أنّ الطريق إلى الغاية هو اختيار هذه المقدمة.

"أدخل المفتاح في القفل حتى ينفتح القفل" إذا قلنا بأنّه يعني إذا لم تُدخل المفتاح في القفل فلا ينفتح القفل يعني هذا تمسّكٌ بمفهوم الشرط؟ لا.

     وثانياً: يكفي في نفي خلف وعده تعالى أن يكون وعده محدداً بمقدارٍ، لا يحتاج إلى أن ننفي الجزاء عند انتفاء الشرط بل يكفي أنّ الخطاب لم يتضمن إلّا الوعد بهذا الجزاء عقيب هذا الشرط، فإذا لم يتحقق الشرط فلم يتحقق الجزاء لم يكن خلفاً للوعد.

"إذا جئت إلى بيتي أعطيك هديةً" يمكن في الواقع أن يكون شرطٌ آخر لإعطاء الهدية وهو أنّك إذا أرسلت إليّ هديّةً فأنا أعطيك هدية في قبالها لكن أنت لم تأتِ إلى بيتي فلم أعطك هدية تقول: لماذا أخلفت وعدك؟ أنا وعدتك بماذا؟ قلت لك: تعالى إلى بيتي أعطيك هدية وأنت لم تأتِ إلى بيتي فلم أعطك هدية فلم أخلف الوعد، هذا لا يحتاج إلى مفهوم يدلّ على أنّك إذا لم تأتِ بيتي فلا أعطيك هديةً، لا لا يحتاج إلى الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء، يكفي فيه أنّني لم أعدك بأكثر من إعطاء الهدية على تقدير الإتيان إلى بيتي، لم أعدك بأكثر من هذا، فإذا لم تأتِ إلى بيتي فلم أعطك هدية لم أخلف وعدي وهذا هو ظاهر كلام الإمام × حينما استشهد بهذه الآية، فهذه الرواية الثانية أيضاً لا تدلّ على ثبوت مفهوم الشرط.

    3. الرواية الثالثة أقرأها: صالح بن سعيد عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله × قال: "سألته عن قول الله عزّ وجلّ في قصة إبراهيم × ﴿قال بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ‌ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُون‌﴾ قال ×: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم، فقلت: وكيف ذلك؟ قال ×: إنّما قال إبراهيم × فاسألوهم إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم ×".

﴿فَسْئَلُوهُمْ﴾ جملةٌ معترضة، بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا، فلم ينطقوا يعني انتفى الشرط فانتفى الجزاء.

"بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون" تخلّف الشرط انتفى الشرط لم ينطقوا فانتفى الجزاء لم يفعله كبيرهم، فما نطقوا وما كذب إبراهيم × فيقال بأنّ الإمام × استشهد بمفهوم الشرط في قول إبراهيم × بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون.

الجواب عن هذه الرواية في الليالي القادمة إن شاء الله.