بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: المفاهيم (التعريف وتحرير محلّ النزاع)

 

[المفهوم لغةً واصطلاحاً]

يقع الكلام في المفاهيم، تعرّض الأعلام في ابتداء هذا البحث حول تعريفٍ للمفهوم؛ فإنّ المعنى اللغوي للمفهوم: كلّ ما يُفهم من الشيء، يُفهم من الخطاب، يُفهم من الإشارة، ولكن في المصطلح: المفهوم في قبال المنطوق.

وعُرِّف في كلمات الأعلام بعدّة تعاريف:

     ككون المفهوم حكماً غير مذكورٍ.

     أو ما ذكره صاحب الكفاية &: من أنّه كلّ حكمٍ تستتبعه خصوصيّةُ المعنى، يعني معنى المدلول المطابقي له خصوصيّةٌ، هذه الخصوصيّة تستتبع مدلولاً، هذا المدلول يُسمّى بالمفهوم.

مثلاً: خطاب الجملة الشرطيّة معناها الأصلي في قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" هو وجوب إكرام زيدٍ عند مجيئه، ولهذا المعنى خصوصيّةٌ وهي خصوصيّة تعليق الحكم على شرطه وهو مجيء زيد، هذه الخصوصيّة تستتبع مدلولاً آخر وهو انتفاء وجوب إكرام زيد على تقدير انتفاء مجيئه، وهذا هو المفهوم.

     كما ذكر السيد الخوئي &: أنّ المفهوم هو المدلول الالتزاميّ للخطاب على نحو اللزوم البيّن.

ولكن كلّ هذه التعاريف يرد عليها النقض بالمداليل الالتزاميّة التي لا تُسمّى بالمفهوم؛ كقوله "الماء مطهّر" فإنّ له مدلولاً التزاميّاً وهو أنّ الماء طاهرٌ في نفسه، وهذا المدلول الالتزامي لا يُسمّى بالمفهوم، فلا نُعطّل أنفسنا في بحث تعريف المفاهيم وإنّما نخلّص ذلك في كلمةٍ فنقول:

المفهوم على قسمين:

    1. المفهوم المخالف: وهو المدلول الذي يكون مشتملاً على حكم نقيض للحكم المذكور في المدلول المطابقي، كلّ مدلولٍ يشتمل على حكمٍ نقيضٍ للحكم الذي يدلّ عليه المدلول المطابقي، فهذا هو المفهوم المخالف.

    2. والمفهوم الموافق: هو المدلول الذي يشتمل على حكمٍ نظير الحكم المذكور في المدلول المطابقي كقوله تعالى ﴿فلا تقل لهما أفٍّ﴾ فإنّه مدلوله الالتزامي أنّه لا يجوز أن يضرب أبويه، فحرمة ضرب الأبوين حكمٌ موافقٌ للحكم الذي يدلّ عليه خطاب ﴿ فلا تقل لهما أفٍّ﴾ بالدلالة المطابقيّة.

فالبحث مشتملٌ على بيان أقسام المفهوم المخالف، فلم يتعرّضوا للمفهوم الموافق.

 

المفهوم المخالف على أقسام:

القسم الأول: مفهوم الشرط

اختلف الأعلام في الجملة الشرطيّة في أنّ لها مفهوماً أم لا؟

والظاهرُ: أنّ خلافهم ليس في أصل ثبوت المفهوم في الجملة؛ فإذا قال المولى "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" يدلّ على أنّه إذا لم يجىء زيدٌ فلا يجب إكرامه مطلقاً؛ فإنّه إذا كان يجب إكرام زيدٍ سواءً جاء أو لم يجىء فيكون أخذ قيد المجيء لغواً عرفاً، فخطاب الشرط يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط في الجملة، هذا يظهر من الأعلام أنّه متفقٌ عليه بينهم.

إنّما الاختلاف في أنّه هل يثبت لجملة الشرط مفهوم مطلق أم لا؟ هل يدلّ قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه"على عدم وجوب إكرام زيدٍ عند عدم مجيئه على نحوٍ مطلق حتى ولو أرسل إليك هديةً، حتى ولو طلب منك مساعدةً أو لا؟

 

الشيخ الأنصاري &: نسب إلى المشهور أنّهم يقبلون مفهوم الشرط.

بينما أنّ صاحب الكفاية والمحقق الحائري والسيد الخميني والسيد الگلبیگاني والسيد الزنجاني @ ذهبوا إلى عدم ثبوت مفهومٍ مطلق للجملة الشرطيّة وإن ادّعى في البحوث أنّ كل من أنكر مفهوم الشرط في الأصول في الفقه جرى على وفق مرتكزه العرفي فتمسّك بمفهوم الشرط.

ونحن نرى أنّ السيد الخميني + من هذا القبيل: أنكر مفهوم الشرط في أصوله كما في مناهج الوصول الجزء الثاني ص 183ولكنّه في الفقه يتمسّك بمفهوم الشرط دائماً؛ كما في كتاب البيع الجزء الثاني ص 714 والجزء الثالث ص 89 وفي كتاب الخلل في الصلاة.

في القدماء: الشيخ الطوسي + كان يقبل مفهوم الشرط ولكن أستاذه السيد المرتضى + أنكر مفهوم الشرط؛ فذكر في كتاب الذريعة الجزء الأول ص 406: الشرط عندنا كالصفة في أنّه لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه.

هو ذكر بعد ذلك أنّه لا مفهوم للوصف أبداً حتى في الجملة فقال: وإن ورد في الخطاب في الغنم السائمة زكاةٌ ولكن يمكن أن يقال بعد ذلك: في الغنم المعلوفة زكاةٌ، هذا يعني أنّه يثبت الزكاة في الغنم مطلقاً، يعني أنّ الوصف لا مفهوم له أبداً حتى في الجملة.

بينما أنّ من يقبل مفهوم الوصف كالسيد الخوئي & والسيد السيستاني ' يقول بمفهوم الوصف في الجملة، يقول: "في الغنم السائمة زكاةٌ" يدلّ على عدم ثبوت الزكاة في مطلق الغنم وإن أمكن ثبوت الزكاة في غنمٍ معلوفة إذا اتصفت بوصفٍ آخر ككونها معلوفةً بعلفٍ مجان مثلاً.

لكنّ السيد المرتضى & في الشرط وإن قال هوكالوصف ولكنه في الشرط قال يمكن أن ينوب عن هذا الشرط المذكور في الخطاب شرطٌ آخر، يعني إذا قال المولى: إن جاءك زيدٌ فأكرمه يمكن أن ينوب عن مجيء زيدٍ طلب المساعدة؛ إن طلب منك زيد مساعدة فأكرمه، يمكن أن يقوم مقام ذاك الشرط شرطٌ آخر، لكن إذا انتفى الشرطُ رأساً ظاهر كلام السيد المرتضى & أنّه يُفهم عدم ثبوت الحكم: "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" يفهم أنّه إن لم يجىء زيدٌ ولم يقم مقام مجيئه أيّ بديل، ظاهر كلام السيد المرتضى & أنّه يفهم عدم وجوب إكرام زيدٍ حينئذٍ وإنّما يحتمل إكرامه إذا لم يجىء ولكن ناب عن مجيئه شيءٌ آخر كإرساله هديةً إليك أو طلبه مساعدة منك ونحو ذلك.

وكيف كان، فالظاهر أنّ أصل مفهوم الشرط في الجملة ممّا لا خلاف فيه، يعني يفهم العرف من الجملة الشرطيّة انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في الجملة لا بالجملة. يفهم العرف من قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" عدم وجوب إكرام زيدٍ مطلقاً ولكن إن قام شرطٌ آخر مقام مجيئة كما لو أرسل إليك هديةً فيحتمل أن يكون ذاك أيضاً سبباً لوجوب إكرامه، بينما أنّ القائلين بمفهوم الشرط يقولون بالمفهوم المطلق للشرط وأنّ ظاهر قوله إن جاءك زيدٌ فأكرمه" أنّه إن لم يجئك زيدٌ فلا يجب إكرامه مطلقاً ولو أرسل إليك هديةً ولو طلب منك مساعدةً.

فما هو الصحيح؟ هل الصحيح :

     ثبوت مفهوم الشرط على نحوٍ مطلق كما يراه الشيخ الأنصاري & ومن المتأخرين السيد الخوئي & والسيد السيستاني ' على ما ببالي.

     أو أنّ الصحيح عدم ثبوت مفهومٍ مطلق للجملة الشرطيّة كما يراه صاحب الكفاية & ومن المعاصرين السيد الزنجاني '؟

[دعوى المحقق العراقي & حول منشأ النزاع]

ذكر المحقق العراقي & أنّ منشأ النزاع بين القائلين بمفهوم الشرط والمنكرين له شيءٌ واحد:

لا نزاع بينهم في أنّ ظاهر قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" أنّ مجيء زيدٍ سببٌ لهذا الحكم لا الجامع بين مجيئه وشرطٍ آخر كإرساله هديةً إليك، لا، شخص مجيئه سببٌ لهذا الحكم.

قال: هذا متسالمٌ عليه بينهم، فما هو منشأ النزاع؟

قال: منشأ النزاع أنّ الجملة الشرطيةّ هل تدلّ على أنّ مجيء زيدٍ في قولنا "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" هل مجيء زيدٍ سببٌ لطبيعي وجوب إكرام زيد أيّاً ما كان أو أنّ مجيء زيدٍ سببٌ لشخص هذا الوجوب المذكور في هذا الخطاب؟

     فإن قيل بالأول يثبت المفهوم؛ لأنّه اُستفيد أنّ مجيء زيدٍ دخيلٌ في طبيعي وجوب إكرام زيدٍ أي كلّ ما فُرض وجوب إكرام زيد فمجيئه دخيلٌ فيه، وهذا ينفي أن يكون إرسال زيدٍ هديةٍ إليك سبباً لوجوب إكرامه؛ لأنّه فُرض استفادة أنّ مجيء زيدٍ سببٌ لطبيعي وجوب إكرام زيدٍ وهذا ينفي أن يكون هناك طبيعيٌّ لوجوب إكرام زيدٍ يكون سببه والدخيل فيه شرطٌ آخر غير مجيئه.

     ومن يرى الثاني: يقول لا، ظاهر قوله "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" أنّ مجيء زيد دخيل في هذا الحكم المنشأ هذه اللحظة بهذا الخطاب فإنّه لا يثبت له مفهوم؛ لأنّ من المحتمل أن يكون هناك وجوب إكرامٍ لزيد مُنشأٍ بإنشاءٍ آخر قبل ذلك أو بعد ذلك لا يكونُ الدخيلُ فيه مجيئه وإنّما يكون الدخيل فيه شرطٌ آخر.

نقول للمحقق العراقي &:

بناءً على كلامك: إذا قيل "مجيءُ زيدٍ سببٌ لوجوب إكرامه" [هل] يثبت المفهوم؟

لأنّ ظاهر قولنا مجيء زيدٍ سبب لوجوب إكرامه أنّه سبب لطبيعي وجوب إكرامه، لم نقل مجيء زيدٍ سببٌ لوجوب إكرامه المُنشأ بهذا الخطاب في قولنا "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" وإنّما قلنا "مجيء زيدٍ سببٌ لوجوب إكرامه".

ولكن نحن لا نحس أنّ قولنا "مجيء زيدٍ سببٌ لوجوب إكرامه ينفي سببيّة سببٍ آخر لوجوب إكرامه؛ كما لو قلنا بأنّ وجود النار سببٌ للحرارة؛ هل ينفي ذلك أن يكون تشعيل المدفئة الكهربائية سبباً للحرارة؟ لا ينفي ذلك، النار سببٌ لوجود الحرارة هذا لا ينفي أن يكون للحرارة سبب آخر وهو تشغيل المدفئة الكهربائيّة.

ففهمنا أنّه لا يكفي في ثبوت مفهوم الشرط أن يكون مفاد قولنا "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" أنّ مجيء زيدٍ سببٌ لطبيعيّ وجوب إكرام زيدٍ، هذا لا يكفي؛ لأنّه لا ينفي أن يكون لطبيعيّ وجوب إكرام زيد سبب آخر يقوم مقام هذا السبب.

يعني مجرّد أنّ المسبب طبيعيّ وجوب إكرم زيدٍ لا شخص هذا الوجوب المنشأ في قولنا "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" هذا لا يثبت أنّ مجيء زيدٍ الذي هو دخيلٌ وسببٌ لهذا الطبيعيّ لا يثبت بذلك أنّه ليس له سببٌ آخر يقوم مقام هذا السبب، فلا يمكن أن يكون هذا منشأ النزاع في ثبوت مفهوم الشرط وعدمه.

بل الظاهر أنّ منشأ النزاع هوأنّ أداة الشرط:

     هل تدلّ على توقف وجود الجزاء على الشرط

     أو تدلّ على نفس ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط؟

وبعبارةٍ أخرى: هل الجملة الشرطية تدلّ على النسبة التوقفيّة أو تدلّ على النسبة التقديريّة والثبوتيّة؟

 

توضيح ذلك:

     إن كان مفاد الجملة الشرطيّة النسبة التوقفيّة فيكون مآل الجملة الشرطيّة إلى قولنا في قضية "إن جاءك زيدٌ فأكرمه" وجوب إكرام زيدٍ موقوفٌ على مجيئه،

     وأما إذا كان مفاد أداة الشرط النسبة التقديريّة والثبوتيّة فيكون مآلنا إلى قولنا "وجوب إكرام زيدٍ ثابتٌ عند مجيئه ،على تقدير مجيئه.

ومن الواضح الفرق بين هذين الكلامين؛ إذا قيل وجوب إكرام زيد موقوف على مجيئه فهذا مفاده مفاد كان الناقصة وإذا قيل وجوب إكرام زيد ثابتٌ على تقدير مجيئه فيكون مفاده مفاد كان التامّة:

    1. في مفاد "كان التامّة": يكفي وجود فردٍ ما في صدق القضيّة التي تكون مفاد كان التامّة؛ "الإنسان موجود" بعدما خُلق آدم يُقال الإنسان موجود

    2. وأمّا في مفاد "كان الناقصة": مثلاً يقال الإنسان أبيض، إذا وُجد فرد من الإنسان لا يكون أبيض فتكون هذه القضيّة كاذبة، الإنسان أبيض يُنتقض عليه، يقال: لا،الإنسان الأفريقي ليس بأبيض، أمّا حينما يقال الإنسان موجود عند وجود آدم لا ينتقض بأنّه لا بعدُ لم يُخلق فلانٌ وفلان، ما قلنا: كلّ إنسان موجود، قلنا: الإنسان موجود.

فحينما يقال: وجوب إكرام زيد ثابت أي موجود يكون مفاده مفاد كان التامّة، وجوب إكرام زيد ثابت عند مجيئه يكفي أن يكون فردٌ من وجوب إكرام زيد ثابتاً عند مجيئه ولا ينفي وجود فردٍ آخر من وجوب إكرام زيد لا يوجد عند مجيئه ولكن يوجد عند شرطٍ آخر وهو إرساله الهدية؛ لأنّ إثبات شيء لا ينفي ما عداه.

بينما أنّ قولنا "وجوب إكرام زيد موقوفُ على مجيئه" يكون مفاده مفاد كان الناقصة فإذا فُرض وجوب إكرام زيدٍ لا يكون موقوفاً على مجيئه كما لو قال المولى "إن أرسل إليك زيدٌ هديةً فأكرمه" هذا الوجوب لا يكون موقوفاً على مجيئه وإنّما يكون موقوفاً على إرسال الهدية فيكون قولنا "وجوب إكرام زيد موقوفٌ على مجيئيه" كاذباً، وهذا هو الذي يُشكّل مفهوم الشرط: وجوب إكرام زيد موقوفٌ على مجيئيه يعني لا يوجد وجوب لإكرام زيد في العالم إلا وهو موقوف على مجيء زيد فيُنفى بذلك وجوب إكرامٍ لزيد لا يكون موقوفاً على مجيئه وإنّما يكون موقوف على إرسال الهدية، وهذا هو مفهوم الشرط لا مجرّد ظهور الجملة الشرطيّة في أنّ مجيء زيدٍ دخيل وسبب لوجوب إكرامه؛ فإنّ السببيّة على السبب لا تنفي سببيّة سبب آخر لطبيعي وجوب إكرامه، وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.