بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد)

 

[اقتضاء النهي التكليفي عن المعاملة لفسادها وبطلانها]

يقع الكلام في اقتضاء النهي التكليفي عن المعاملة لفسادها وبطلانها:

أقول أولاً: ظاهر خطاب النهي عن المعاملة بعنوانها الإرشاد إلى الفساد، كقوله علیه السلام: "نهى النبي صلی الله علیه و اله عن بيع الغرر" فالكلام: فيما ثبت أنّه نهيٌّ تكليفيّ عن معاملةٍ بعنوانها أو بعنوانٍ آخر ينطبق عليها، فنرى أنّ هذا النهي التكليفي هل يقتضي فساد تلك المعاملة أم لا؟

 

[أقسام النهي عن المعاملة]

ذكر الأعلام أنّ هذا النهي عن المعاملة على أقسام:

[القسم الأول]: فتارةً يتعلّق بنفس السبب أي يتعلّق النهي بالاشتغال بعمليّة البيع والشراء، كنهي المعتكف عن البيع والشراء بل مطلق التجارة على الأحوط، فلو عصى المعتكف وباع شيئاً أو اشترى شيئاً هل هذا النهي التكليفي عن السبب يقتضي بطلان هذا البيع والشراء أم لا؟

وأمّا المثال له بالنهي عن البيع وقت النداء فمثالٌ فرضيٌ؛ فإنّ الظاهر من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾[1] هو الإرشاد إلى لزوم السعي إلى صلاة الجمعة أو خطبتها، لا أنّه هناك نهياً نفسياً عن البيع وقت النداء، فالمثال الصحيح الفقهي للنهي عن السبب هو ما ذكرناه من النهي عن البيع والشراء حال الاعتكاف.

والقسم الثاني: أن يتعلّق النهي بالمسبب، أي يكون المبغوض هو إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة، كنهي المسلم أن يبيع المصحف من كافرٍ أو يبيع عبده المسلم من كافر.

والقسم الثالث: ما إذا تعلّق النهي بترتيب الآثار، كما لو حرم على البائع تسليم المبيع إلى المشتري أو حرم على المشتري التصرّف في المبيع.

[القسم الأوّل]

أمّا القسم الأول وهو النهي عن السبب: فلا منشأ لتوهّم اقتضائه بطلان المعاملة؛ فإنّ مبغوضيّة إنشاء الإيجاب والقبول لا تنافي حكم الشارع بنفوذ هذا الإيجاب والقبول على تقدير وجوده، لا توجد الإيجاب والقبول ولكن لو أوجدته فيكون نافذاً، لا منافاة بين الأمرين، نظير نهي الشارع عن غسل المتنجس بالماء المغصوب؛ فإنّه لا ينافي أنّ غسل الثوب المتنجّس بالماء المغصوب صحيحٌ وموجبٌ لطهارة ذلك الثوب.

القسم الثاني

أن يتعلّق النهي التكليفيّ بالمسبب

ويقع الكلام فيه في جهتين:

الجهة الأولى

في إمكان النهي التكليفي عن المسبب بالمعاملات

السيد الخوئي رحمه الله منع من إمكان ذلك، فقال: في العقود والإيقاعات يوجد إنشاء من المكلّف وإمضاء من العقلاء والشارع:

أمّا الإنشاء من المكلّف فهو يعني: اعتبار المكلّف شيئاً وإبراز ذلك الاعتبار؛ فحينما يقول المكلّف لشخصٍ آخر "بعتك هذا الكتاب بألف درهمٍ" فيعني ذلك أنّه اعتبر في نفسه ملكية المشتري لهذا الكتاب بإزاء ذلك الثمن وأبرز هذا الاعتبار النفساني بهذا المبرز، هذا هو الإنشاء، فإذا قال "بعت هذا الكتاب بألف درهمٍ" الناس يقولون "باع كتابه".

ثم بعد ذلك إذا وقع هذا الإنشاء موضوعاً لحكم العقلاء بملكيّة المشتري للكتاب وملكيّة البائع للثمن، فهذا يُسمّى بالمُسبب العقلائي ولكنّه مسامحةٌ بالتعبير؛ لأنّ نسبة البيع الذي هو إنشاء المكلف بإزاء إمضاء العقلاء نسبة الموضوع إلى حكمه وليس بينهما سببيّة تكوينيّة، بيع المكلّف موضوع لحكم العقلاء بملكيّة المشتري للمبيع وملكية البائع للثمن، ولو صار هذا البيع موضوعاً لإمضاء الشارع فمعناه أنّ هذا البيع صار موضوعاً لحكم الشارع بملكية المشتري للكتاب وملكية البائع للثمن، فلا توجد أيّة سببية ومسببيّة في العقود والإيقاعات وإنّما اعتبار المكلّف وإبرازه صار موضوعاً لاعتبار العقلاء أو الشارع.

فحينئذٍ نقول: أيّ معنى للنهي التكليفي عن المسبب أي الحكم الشرعي بالملكيّة؟ الفاعل لهذا الحكم الشرعي هو الشارع، كيف ينهى الشارع المكلّف من إيجاد هذا الحكم؟ لا يُعقل نهي المكلّف إلا عن فعله وهو الإنشاء -الاعتبار والإبراز- وإذا كانت ملكيّة المشتري للمبيع مبغوضةً لدى الشارع كملكيّة الكافر للعبد المسلم فمعنى ذلك أنّ هذا الحكم الشرعي مبغوضٌ للشارع فلا يوجده الشارع ولا معنى لأن ينهى المكلّف فيقول الشارع للمكلف: "لا توجد هذا الحكم الشرعي"؛ أنا لا أوجد الحكم الشرعي، يا شارع أنت الذي توجد هذا الحكم الشرعي إذا كان مبغوضاً لديك فلا توجده.

فالنهي التكليفي يكون دائماً متعلّقاً بإبراز المكلّف لإعتباره النفساني، فليس هناك نهيٌّ تكليفيّ عن المعاملة إلا نهي واحد عن السبب بالمعنى الذي فسّرناه –أي الذي فسّره السيد الخوئي رحمه الله- وهو إبراز الاعتبار النفساني يتعلّق به النهي التكليفي.

وأمّا المسبب -أي الحكم الشرعي- فموجده هو الشارع، إذا كان مبغوضاً فهو لا يوجده لا أنّه ينهى المكلّف عن إيجاده؛ المكلّف لا يوجد الحكم الشرعي.

 

أقول: يا سيدنا الخوئي الحكم له مرتبتان:

أ- مرتبة الجعل.

ب- مرتبة المجعول.

مرتبة الجعل بيد الشارع، الشارع يقول: إذا باع المكلّف ماله من شخصٍ فيملك ذلك الشخص ذلك المبيع كقضيّة شرطيّة، هذا هو الجعل.

وأمّا مرتبة المجعول: فلا تتحقق إلّا بإيجاد موضوعها، يعني إذا تصدّى المكلّف لبيع هذا الشيء من شخصٍ فأوجد موضوع ذلك الجعل فيثبت الحكم المجعول ويصير فعليّاً ويمكن أن ننسب إيجاد هذا الحكم الفعليّ إلى المكلّف؛ لأنّه أوجده بالتسبيب، ألا ترى أنّه يُقال للمكلّف طهّر المسجد؟! لا يُقال له دائماً "اغسل المسجد" لا، قد يقال له طهّر المسجد لأنّ إيجاد الطهارة الشرعيّة للمسجد فعلٌ تسبيبيٌّ للمكلّف، المكلّف يمكنه أن يوجد هذا المجعول الشرعي بإيجاد موضوعه، فكما يمكن أن يأمر الشارع بإيجاد المجعول الشرعي بإيجاد موضوعه فكذلك يمكن أن ينهى عن إيجاد مجعولٍ؛ لأنّ إيجاد المجعول يمكن تركه بترك إيجاد موضوعه.

وأمّا ما ذكره من أنّه لو كانت الملكيّة الشرعيّة التي تسمّى بالمسبب الشرعي مبغوضةً لدى الشارع فلماذا الشارع يعتبرها؟ ملكيّة الكافرللعبد المسلم يا شارع مبغوضةٌ لديك؟ إذا مبغوضة لديك فلا توجدها فلا تجعلها إذا فيها مفسدة، أنت تجعلها ثم تقول للمكلّف: لا توجد موضوعها وإذا أنت لم تجعلها ولم تنشئها فلا توجد هذه الملكية الشرعيّة التي هي مبغوضةٌ لديك وتشتمل على مفاسد!

الجواب عن هذا البيان للسيد الخوئي رحمه الله: أنّ الملكيّة الشرعيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم –مثلاً- مبغوضةً لدى الشارع، نعم، ولكن إذ وُجد سببها –أي موضوعها على حدّ تعبير السيد الخوئي– فتكون هناك مصلحة أقوى في ثبوت ذلك الحكم الشرعيّ. ملكيّة الكافر للعبد المسلم فيها مفسدةٌ ومبغوضةٌ لدى الشارع والشارع يقول: لا توجدها ولكن إذا بعت عبدك المسلم من كافرٍ فتتحقق مصلحةٌ أقوى في أن أُمضي هذا البيع.

المثال الفقهي الواضح له: تمليك المال المتعلّق للخمس من شيعيٍّ قبل تخميسه؛ لأنّ أخبار التحريم تقول: هذا الشيعي يملك هذا المال ولكن يا مالك يا واهب لماذا وهبت هذا المال المشتمل على الخمس قبل أن تُخمّسه؟ أنت أتلفت المال المملوك للإمام علیه السلام فارتكبت محرّماً.

ـ يقول هذا المالك للربح غير المخمّس: أنا ما ذنبي؟ كان بإمكانك يا شارع أن لا تمضي هذه الهبة فيبقى خمس الإمام غير تالفٍ.

ـ يقول الشارع: لا، توجد مصلحةٌ أقوى أي مصلحة التسهيل على الشيعة أن أُمضي هذه الهبة، وهذا أمرٌ عرفيٌّ.

أحياناً أنت تشتري موز وهناك إنسان في بيتك احتاج إلى تغذية مناسبة فاشتريت كيلو موز وأرسلته إلى بيتك -أهلك مريضة أو ضعيفة- حتى تأكل الموز وتتقوى، وقلت لابنك: بالليل يأتينا ضيف، دير بالك لا تحكي أمامه عن الموز وإلا ننجبر أن نقدّم الموز للضيف والضيف يرى الموز بلاش ويأكل ويتقوى، يقوي روحه بالموز البلاش، وفيه مفسدة؛ لأنّ هذا الموز اُشتري لأهل فعندما جاء الضيف وقعد ابنك تقدم وقال: أبي أُحضر الموز؟

ماذا تقول له؟ تقول: نعم بني أحضر الموز هذا ضيف محترم، انجبرت حينها، حينما يذهب ويأتي بالموز والضيف يأكل الموز واحدةً بعد أخرى ويغادر، حينما يغادر تعاتب ابنك: يا فلان لماذا فعلت هكذا؟ لماذا قلت هكذا؟

فيوجد مفسدةٌ في تقديم هذا الموز للضيف لأنّ الأهل تنحرم ولكن بعدما قال ابنك لك أمام الضيف: أبي أُحضر الموز؟ وُجدت مصلحةٌ أقوى في أن تُقدّم الموز للضيف، ليس هناك منافاة بينهما، إذا قال ابنك: أبي أنا ما جبت موز أمام الضيف أنا قلت أنّ الموز موجود هل أحضره؟ أنت قلت: أحضر، أنت أمرتني بذلك. يقول له: نهيتك عن ذلك، قلت لك لا تحكي أمام الضيف عن الموز حتى لا نقع في تلك المفسدة ولكن بعدما تكلّمت أمام الضيف عن الموز وُجدت مصلحةٌ أقوى في أن تُحضر الموز وتجعله أمام الضيف.

فإذاً لا محذور في النهي التكليفي عن المسبب، هذه هي الجهة الأولى.

الجهة الثانية

هل النهي التكليفي عن المسبب يقتضي فساد البيع أم لا؟

فهنا ثلاثة أقوال:

القول الأول: قولٌ نُسب إلى أبي حنيفة والشيباني واختاره صاحب الكفاية رحمه الله من أنّ النهي التكليفي عن المُسبب مقتضٍ لصحّته.

أنا هكذا أفسّر كلام صاحب الكفاية رحمه الله، أقول: صاحب الكفاية رحمه الله يرى أنّ النهي عن المسبب يعني النهي التكليفي عن إيجاد الملكيّة الشرعيّة، هذا هو مراد صاحب الكفاية من النهي عن المسبب.

كأنّ الشارع قال من أوجد ملكيّة الكافر للعبد المسلم فعليه لعنه الله، بعد ماذا تريد؟ من أوجد ملكية الكافر للعبد المسلم فعليه لعنة الله، يقول صاحب الكفاية هذا النهي يعني أنّ هذا المكلف قادرٌ على إيجاد الملكيّة الشرعيّة وإلا كيف ينهى الشارع عن عملٍ غير مقدورٍ للمكلّف؟!

حينما يقول: يحرم عليك أن توجد الملكيّة الشرعيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم هل معقول ينهاه عن شيء لا يقدر عليه؟! هذا معناه أنّ المكلف يقدر على إيجاد الملكيّة الشرعيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم وقدرتُه على إيجاد الملكيّة الشرعيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم مساوقٌ لصحّة بيع الكافر من العبد المسلم وإلّا لو لم يكن صحيحاً لما كان المسلمُ قادراً على إيجاد الملكيّة الشرعيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم.

وإنصافاً هذا الكلام لصاحب الكفاية رحمه الله: صحيح في مفروض هذا المثال، إذا كان المراد من النهي عن المسبب النهي عن إيجاد الملكيّة الشرعيّة أو النهي عن إيجاد الزوجيّة الشرعية وما شابه ذلك.

ولكن لا نجد في الفقه مثالاً فقهياً لذلك لا نرى في الفقه أيّ نصٍّ يدلّ على تحريم إيجاد الملكية الشرعيّة لموردٍ أو إيجاد الزوجيّة الشرعيّة لموردٍ، فهذا مثال فرضيٌ لا واقع له، وما هو موجودٌ في النصوص تحريم البيع، تحريم الزواج، المحرم لا يتزوج ولا يزوّج فإن فعل فنكاحه باطل، فتعلّق النهي بالبيع، تعلّق النهي بالتزويج وهو إنشاء الزوجيّة، التزويح هو إنشاء عقد الزوجيّة، فلا نجد نصّاً يدلّ على تحريم إيجاد الزوجيّة الشرعيّة أو إيجاد الملكيّة الشرعيّة وإلا لكان ما ذكره صاحب الكفاية تامّاً جداً؛ فإنّ تحريم إيجاد الملكيّة الشرعية يقتضي قدرة المكلف على إيجاد تلك الملكية الشرعية وهذا يعني صحّة البيع المؤدي إلى هذه الملكيّة الشرعيّة، وبقية الكلام في ليلة الأحد إن شاء الله.


[1] سورة الجمعة، الآیة9.