بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (اقتضاء النهي عن العبادة والمعاملة للفساد)

كان الكلام في اقتضاء النهي التكليفي عن العبادة لفسادها فتعرّضنا لعدّة أقسامٍ من النهي التكليفي ووصلنا إلى القسم الرابع، وهو: تعلّق النهي التكليفيّ الغيريّ بالعبادة:

لو تعلّق النهي الغيريّ بعبادةٍ هل يقتضي ذلك فسادها وبطلانها أم لا؟

مثال:

1) ما لو تزاحم واجبٌ تعبديٌّ موسّع كالصلاة مع واجبٍ مضيّق كوجوب إزالة النجاسة عن المسجد، فإن عصى المكلّف وترك الإزالة في سعة وقت الصلاة واشتغل بالصلاة، فبناءً على ما ذكره جماعةٌ من تعلّق النهي الغيريّ بضد الواجب حيث قالوا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي الغيريّ عن ضده، فهذه الصلاة تكون منهياً عنها بالنهي الغيري، فهل هذا النهي الغيري يمنع من صحّة هذه الصلاة أم لا؟

2) المثال الثاني: ما لو وقع التزاحم بين واجبين مضيّقين وكان الواجب المضيّق العبادي غير الأهم كما لو تزاحمت الصلاة في ضيق وقتها مع وجوب إنقاذ الغريق، فوجوب إنقاذ الغريق لا ريب في كونه أهم من الصلاة ولكنّ المكلّف عصى واشتغل بالصلاة، فأيضاً يقال بأنّ الأمر الفعليّ بإنقاذ الغريق يقتضي النهي عن هذه الصلاة نهياً غيريا، فهل هذا النهي الغيري عن هذه الصلاة يوجب فسادها وبطلانها أم لا؟

3) المثال الثالث: ما لو كان الواجب التعبديّ في موردٍ ما علّةً تامّةً لحرامٍ كما لو كان الغسل بالماء البارد علّةً تامّةً للإضرار المحرّم بالنفس، فبناءً على تعلّق النهي الغيري بالعلّة التامّة للحرام فيتعلّق نهي غيري بهذا الغسل الموجب للإضرار المحرّم بالنفس، فيُتكلّم أنّ هذا النهي الغيري عن هذا الغسل يوجب فساده وبطلانه أم لا؟

جماعةٌ من الأعلام كصاحب العروة والمحقق النائيني والسيد الخوئي رحمهم الله قالوا بأنّ النهي الغيري لا يقتضي الفساد، يختلف النهي الغيري عن النهي النفسي؛ النهي النفسي يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه بينما أنّ النهي الغيري لا يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه. وقد صرّح المحقق النائيني بأنّ المعتبر في صحّة العبادة اشتمالها على المصلحة والمحبوبيّة، والنهي الغيري لا يكشف عن مفسدة الفعل ومبغوضيته حتى لا يمكن التقرّب به، النهي الغيري ناشىء إمّا عن مقدميّة ترك الضد بالنسبة إلى الإتيان بالضد الواجب أو عن عليّة العلّة التامّة للحرام وأمّا هذه العلّة التامّة للحرام فيها مفسدةٌ ومبغوضيةٌ؟ أبداً.

هذا الكلام غير صحيح؛ فإنّ روح النهي الغيري هو البغض الغيري والوجدان أصدق شاهدٍ على أنّه لو تعلّق النهي الغيري بالعلّة التامّة للحرام فهذا يعني أنّ مبغوضيّة الحرام أوجبت مبغوضيّة علّته التامّة، وأصلاً من يدعي الملازمة بين بغض الشيء وبغض علّته التامّة هذا هو الذي يدّعي الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة علّته التامّة حرمةً غيرية وإلا لو لم يُحسّ الإنسان بوجدانه الملازمة بين بغض الشيء وبغض علّته التامّة فكيف يدّعي الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة علّته التامّة؟ من أين يستكشف هذه الملازمة غير أنّه يحسّ بوجدانه أنّ من أبغض شيئاً أبغض علّته ومن أحبّ شيئاً أبغض ضده؟!

فقبول الحرمة الغيرية وإنكار البغض الغيري لا وجه له، هذا أولاً.

وثانياً: اُفرض أنّ النهي الغيري لا يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه لكن أليس يمنع من انبساط الأمر إليه؟ هل يجتمع النهي عن العلّة التامّة للحرام مع الأمر بها بعنوانٍ واحد؟

يا سيدنا الخوئي أنت الذي تدّعي أنّ النهي الغيري عن العبادة لا يقتضي فسادها ألست تدّعي أنّ النهي الغيري يمتنع اجتماعه مع الأمر؟ فلا أقل من أنّ هذا النهي الغيري يمنع من تعلّق الأمر بهذه العبادة ومع عدم تعلّق الأمر بهذه العبادة كيف نحكم بصحّتها؟!

نعم، يمكننا أن نقول: أنّ مبغوضيّة الفعل ببغضٍ غيريّ لا يمنع من تعلّق الأمر بها على نحوٍ ترتبيّ، ولعلّ هذا هو الحل لمشكلة اقتضاء النهي الغيري عن العبادة لفسادها، فنقول:

لو كان يلزم في العبادة أن تكون محبوبةً بالفعل فهذا لا يجتمع مع مبغوضيتها الغيريّة ولكن لنا أن نمنع عن ذلك، يكفي في عباديّة العبادة محبوبيّتها الشأنيّة ووفاؤها بالملاك، فهذا الغسل بالماء البارد الذي هو علّةٌ تامّة للإضرار بالنفس مبغوض غيريّ على فرض قبول تعلّق البغض الغيري بالعلّة التامّة للحرام كما ادّعاه المشهور ومنهم صاحب البحوث ونحن أنكرنا ذلك.

ولكن لو فرضنا وبنينا على أنّ العلّة التامّة للحرام مبغوض غيري فلا إشكال، فهذا الغسل بالماء البارد مبغوضٌ بنكتة عليّته للحرام، لكن أيّ مانع من أن يكون هذا الغسل في نفس الوقت وافياً بملاك طبيعي الغسل الواجب ويكفي في صحّة هذا الغسل في الماء البارد محبوبيّته الشأنيّة أي محبوبيّته لولا تعلّق البغض الغيري به لكونه علّةً تامّةً للحرام.

ونكتة ذلك: أنّ المولى إذا رأى أنّ هذا المكلّف أضرّ بنفسه إضراراً محرّماً من طريقٍ آخر لا من طريق الغسل بالماء البارد بل من باب أنّه ذهب إلى مكانٍ بارد فتمرّض، هذا المولى إذا لاحظ هذا العبد الذي أضرّ بنفسه إضراراً محرّماً من سببٍ آخرثم لاحظ أنّ هذا المكلّف أضرّ بنفسه إضراراً محرّماً من طريق غُسله بالماء البارد، فنرى أنّ هذا المولى هل حاله يكون أحسن حينما يلحظ الحالة الثانية ويقيسها بالحالة الأولى أم لا؟

قطعاً هذا المولى حاله حينما يلحظ الحالة الثانية للمكلّف حال المولى أحسن؛ لماذا؟ لأنّه يقول إذا أنت كنت تذهب إلى مكانٍ بارد وبسبب البقاء في المكان البارد تتمرّض لكنتُ أنا أخسر ملاكين؛ ملاك عدم الإضرار بالنفس وملاك رفع الجنابة ولكنّك الآن اغتسلت بماءٍ بارد وتمرّضت وأنا لم أخسر إلا ملاكاً واحداً وحصّلت على ملاك غسل الجنابة، فيكون حال المولى حينئذٍ أحسن، وهذا يكفي في عباديّة هذا الغسل ومقربيّته إلى المولى بعد أن لم يكن مبغوضاً نفسيا.

 

وأصلاً أذكرُ لكم شيئاً لعلّه مهم:

أنّنا نُنكر كون روح الأمر هو الحب وأنّ روح النهي هو البُغض، وربما مبغوضٍ يأمرُ به المولى والعبد الذي يأتي به يكون متقرّباً إلى المولى؛ كما في موارد دفع الأفسد بالفاسد:

بنت المولى وقعت في مكانٍ معرضِ لإعتداء المعتدين، هذا المولى يقول لعبده اجرح بنتي حتى يرسلونها إلى المستشفى لكي لا تصل يد المجرمين إلى ابنتي فيهتكوا عرضها، هذا العبد يأخذ السلاح ويرمي الرصاص إلى [على] بنت المولى، هل المولى يحب هذا الإطلاق للرصاص يفرح؟ يقول: لا، لا تطلق الرصاص على بنتي أمام عيني أنا لا أتحمل أكره ذلك ولكن آمرك به دفعاً للأفسد.

فالأمر بشيءٍ لا ينشأ دائماً عن الحبّ به كما أنّ النهي عن شيءٍ لا ينشأ عن بغضه.

وعليه: فيمكن للمولى أن يأمر بهذا الغسل بالماء البارد من دون أن يحبّه بالفعل ولكنّه وافٍ بملاك الغسل الواجب ولولا علّيته التامّة للحرام لكان محبوباً، هذا يكفي في عباديته.

ولأجل ذلك نحن نرى: أنّ النهي الغيري القهري التبعيّ، لأنّ النهي الغيري ينشأ عن البغض الغيري القهريّ حسبما يُدعى أنّ من أبغض شيئاً لا محالة يُبغض علّته التامّة، فهذا البغض للعلّة التامّة للحرام بغضٌ قهريّ، هذا لا يمنع عن إطلاق الأمر بهذا الفعل الذي هو علّةٌ تامّة للحرام، فيمكننا التمسّك بإطلاق الأمر لتصحيح هذا الغسل بالماء البارد أو تصحيح تلك الصلاة في وقت المزاحمة مع وجوب الإزالة، ولأجل ذلك نقبل أنّ النهي الغيري لا يقتضي الفساد لا لأنّه لا ينشأ عن المبغوضيّة في متعلّقه، كلا، بل يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه مبغوضيّة غيريّة ولكنّ المبغوضيّة الغيريّة وإن كانت تمنع عن المحبوبيّة الفعليّة لكن لا يُعتبر في صحّة العبادة كونها محبوبةً بالفعل.

القسم الخامس: تعلّق النهي الكراهتي بالعبادة

وقد تقدّم الكلام في اجتماع الأمر والنهي فقلنا بأنّ النهي الكراهتي الانحلالي يمنع من عبادية العبادة.

تارةً يكون نهيٌ كراهتي عن حصّةٌ من العبادة، كالصلاة في الحمام: هذا لا يمنع من إطلاق الأمر بالصلاة لهذه الحصّة المكروهة، أمّا إذا كان الحكم انحلاليّاً يستحب كل يوم أن تصوم -حكم انحلالي حتى يوم عاشوراء-: فإذا تعلّق النهي الكراهتي لا بمعنى قلّة الثواب فإنّ النهي الكراهتي بمعنى قلّة الثواب ليس إلا الاستحباب الضعيف، النهي الكراهتي الحقيقي يعني الكاشف عن مبغوضيّة متعلّقه فإذا تعلّق النهي الكراهتي بصوم يوم عاشوراء فيكون صوم يوم عاشوراء مبغوضاً للمولى، يعني حال المولى عند ترك الصوم يكون أحسن من فرض فعل صوم يوم عاشوراء، وهذا لا يجتمع مع عباديته وتعلّق الأمر به إذا كان النهي بعنوان كونه يوم عاشوراء بل حتى لو كان النهي بعنوانٍ آخر ينطبق على صوم يوم عاشوراء، هذا لا يجتمع مع الأمر الانحلاليّ الشامل لصوم يوم عاشوراء. نعم، لو كان المستحب طبيعي الصوم على نحو صرف الوجود والنهي عن صوم يوم عاشوراء نهيٌّ عن حصّةٍ من هذه الطبيعة لم يكن مانعٌ من اجتماع النهي الكراهتي عن حصّةٍ مع الأمر بطبيعيّ تلك العبادة.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة ويقع الكلام في النهي عن المعاملة وأنّه هل يقتضي فساد المعاملة أم لا؟ نتكلّم عن ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله.