بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/10/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (اقتضاء النهي عن العبادة والمعاملة للفساد)

 

[أقسام النهي في العبادات]

 

كان الكلام في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد، فذكروا أنّ النهي على عدّة أقسام:

القسم الأول: أن يكون النهي التكليفي متعلّقاً بأصل عبادةٍ ويكون النهي نهياً نفسياً تحريميّا

كالنهي عن صوم الحائض بناءً على كون صوم الحائض حراماً تكليفيّاً.

فمن الواضح أنّ هذا النهي التحريمي لا يجتمع مع عباديّة صوم الحائض لكونه من اجتماع الأمر والنهي في شيءٍ واحد بعنوانٍ واحد؛ النهي عن صوم الحائض لو اجتمع مع الأمر به لكان من اجتماع الأمر والنهي عن شيءٍ واحد بعنوانٍ واحد وهذا ممّا لا إشكال في امتناعه.

إن قلت: اُفرض أنّ هذا النهي التحريمي النفسي لا يجتمع مع الأمر، صحيح، ولكن ما هو النافي لاحتمال أن يكون صوم الحائض مع تمشّي قصد القربة منها -كما في حال جهلها القصوري بالحكم أو الموضوع- ما هو النافي لاحتمال أن يكون صومها وافياً لملاك الصوم؟ نعم، هذا الصوم حرام لمفسدةٍ فيه ولكن هل يمتنع أن يكون هذا الصوم في نفس الوقت وافياً لملاك طبيعي الصوم؟! مثل ما لو أمر المولى بشرب الماء لرفع العطش ونهى عن شرب الماء البارد لكونه موجباً لعفونة الرئة، فشرب المكلّف الماء البارد، اُفرض أنَّ هذا النهي يمنعُ من إطلاق الأمر بشرب الماء له ولكن لا يمنع من أن يكون شرب هذا الماء البارد وافياً بملاك طبيعيّ شرب الماء وهو رفع العطش، فلعلّ صوم الحائض مع كونه منهياً عنه ولا يجتمع مع الأمر به ولكن يكون وافياً لملاك طبيعيّ الصوم فلا يجب عليها القضاء إذا صامت وتمشّى منها قصد القربة.

نقول في الجواب: هذا الاحتمال خلاف ظاهر النهي عن صوم الحائض بعنوانه. نعم، هذا النهي حسب الفرض ليس إرشاداً إلى فساد صوم الحائض وإلا لكان النهي الإرشادي إلى الفساد مقتضياً للفساد بلا إشكال، هذا النهي فرضنا أنّه نهيٌّ تكليفيٌّ عن صوم الحائض وثبوتاً يجتمع مع وفاء هذا الصوم بالملاك، لكن وفاء هذا الصوم بالملاك خلاف الظاهر، والعرف يستظهر أنّ هذه الحائض إذا صامت ولو تمشّى منها قصد القربة فقد فات منها الصوم ومن فاته الصوم يجب عليه القضاء.

طبعاً هذا بحثٌ فرضي، وإلا فلا إشكال في أنّ الحائض يجب عليها قضاء الصوم ولو صامت في حال حيضها.

القسم الثاني: أن يكون النهي متعلّقاً بحصّة من العبادة ويكون النهي نهياً نفسيّاً تحريميّاً متعلّقاً بعنوان تلك العبادة.

مثلاً: قال المولى لعبده "صلِّ" ثم قال "أحرّم عليك نهياً تكليفيّاً تحريميّاً أن تصليّ في الحمّام".

السيد السيستاني ' قال: أي مانعٍ من أن تكون الصلاة في الحمّام متعلَّقةً للنهي التحريميّ النفسي لخصوصيّةٍ فيها وهي كونها في الحمّام لكن تفي هذه الصلاة بملاك الواجب، ولا مانع من اجتماع الأمر بطبيعة العبادة مع النهي التحريميّ عن حصّةٍ منها لخصوصيّة فيها.

واعترف السيد السيستاني ' بأنّ ما ذكره خلاف المشهور، وطبعاً فرض كلام السيد السيستاني ' ما إذا تمشّى منه قصد القربة.

ولكنّ الظاهر: أنّ المنافاة العرفيّة موجودةٌ؛ يعني العرف يستظهر من تحريم الصلاة في الحمّام عدم وفائها بملاك طبيعيّ الصلاة وإلا فكلام السيد السيستاني ثبوتاً كلامٌ متين إلا أنّه خلاف الظاهر إثباتاً، يعني ظاهر النهي التحريمي بحصّةٍ من العبادة بعنوانها كالنهي التحريميّ عن الصلاة في الحمّام عدم وفاء هذه الصلاة في الحمّام بملاك طبيعيّ الصلاة.

القسم الثالث: أن يكون النهيّ عن حصّةٍ من العبادة نهيّاً تحريميّا نفسيا لكنّ النهي تعلّق بعنوانٍ آخر غير عنوان تلك العبادة.

كما في الوضوء بالماء المغصوب؛ فالنهي قد تعلّق بعنوان الغصب والأمر تعلّق بعنوان الوضوء خلافاً لما اختاره السيد السيستاني ' من أنّ النهي في موارد الغصب عنوانٌ مشير إلى حرمة ذوات الأفعال فما يحرم ليس هو عنوان الغصب ولا عنوان التصرّف في مال الغير بدون إذنه بل واقع التصرّف كشرب ماء مملوك للغير والوضوء من ذلك الماء ونحو ذلك.

فعلى مبنى السيد السيستاني يندرج هذا المثال في القسم الثاني.

ولكنّ الصحيح: أنّ ظاهر النهي عن التصرّف في مال الغير بدون إذنه أنّه عنوانٌ موضوعيٌ وليس عنواناً مشيراً؛ فما هو الحرام عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه، فاختلف العنوان الذي تعلّق به النهي مع العنوان الذي تعلّق به الأمر.

صاحب الكفاية قدس سره اختار في بحث اجتماع الأمر والنهي امتناع اجتماع الأمر والنهي ولو مع تعدد العنوان لكنّه قال: إذا كان الفعل عبادياً:

أ) فنلتزم بصحّته في فرض الجهل القصوري والنسيان.

ب) وأمّا في فرض الجهل التقصيريّ والعلم والعمد نلتزم ببطلانه.

فالوضوء بالماء المغصوب لكونه عبادياً ليس متعلّقاً للأمر؛ لامتناع اجتماع الأمر والنهي ولكنه يُحكم بصحّته في فرض الجهل القصوري والنسيان ويُحكم ببطلانه في فرض الجهل التقصيري والعلم والعمد.

ولو كان الفعل توصليّاً كالدفن فيقول صاحب الكفاية: نلتزم بصحّة هذا الفعل المَجمع لعنوان الأمر والنهي نلتزم بصحّته مطلقاً، فالدفن في مكانٍ مغصوب وإن لم يكن مأموراً به ولكنّه صحيح ومجزىء حتى في فرض العلم والعمد؛ لكون الدفن واجباً توصلّيا.

وأما غسل الميت بماءٍ مغصوب فحيث إنّه عباديٌ فيبطلُ على رأي صاحب الكفاية في فرض العلم والعمد والجهل التقصيريّ دون فرض الجهل القصوري والنسيان.

يقول صاحب الكفاية رحمه الله: والوجه في التزامنا بصحّة هذا الفعل التوصلي مطلقاً والتعبدي في فرض الجهل القصوري والنسيان إحراز ملاك الأمر فيه وإنّما المانع عن تعلّق الأمر به هو تعلّق النهي ولكنّ الملاك موجودٌ فيه، فهو وافٍ بالملاك.

فأُشكل عليه: أنّه ما هو المحرز لهذا الملاك؟ من أين أحرزتم الملاك؟ بعد سقوط الأمر ما هو المحرز للملاك؟

وهذا إشكالٌ أشكله السيد الخوئي رحمه الله على صاحب الكفاية وهو إشكالٌ متين لكننا حيث ذهبنا إلى جواز اجتماع الأمر والنهي وقلنا بأنّ الوضوء بالماء المغصوب يمكن تعلّق الأمر به بعنوان الوضوء وتعلّق النهي عنه بعنوان الغصب وهكذا الدفنُ في مكانٍ مغصوب فنستكشف من خلال إطلاق الأمر له وفائه بالملاك ونلتزم بصحّته.

نعم، لو كان الواجب عبادياً فهنا يوجد إرتكاز عقلائيّ ومتشرعيّ في أنّ ما يكون مبعّداً عن المولى وصادراً بداعيٍ شيطاني لا يصلح أن يكون مقرّباً إلى المولى سبحانه وتعالى، الفعل الذي يتنفّر عنه المولى ويشمئز منه ويعاقب عليه هذا الفعل لا يصلح أن يكون عبادةً ومقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى، وإلّا فالأمر لا مانع من إطلاق شموله له، ولأجل ذلك نلتزم ببطلان العبادة في مورد تنجّز النهي؛ أي في مورد الجهل التقصيريّ والعلم والعمد أو النسيان التقصيري كما لو غصب مالاً ثم نسي أنّه هو الغاصب، فما يصدر منه يكون مبغوضاً لسبق غصبه له عمداً وإن كان ناسياً للفعل لغصبيّته، نلتزم ببطلان العبادة فيه دون ما إذا لم يتنجّز النهي كما في الجهل القصوري والنسيان القصوري، وسنتكلّم عن الأقسام الأخرى في الليلة القادمة إن شاء الله .