بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/08/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي)

 

كان الكلام في الصلاة في المكان المغصوب في حال الاضطرار بسوء الاختيار، فقلنا بأنّ بهذا الفرض صورتين:

الصورة الأولى: أن يُضطر إلى البقاء في ذلك المكان إلى آخر الوقت، وتكلمنا عن حكم هذه الصورة.

الصورة الثانية: أن يتمكن من الخروج عن ذلك المكان: فيجب عليه الخروج فوراً بحكم العقل، ولكن وقع الخلاف في حكم الخروج شرعاً وفي حكم الصلاة في حال الخروج.

فنتكلم أولاً عن حكم الخروج شرعاً؛ ففيه خمسة أقوال:

    1. القول الأول: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقق النائيني ‚ من وجوب الخروج شرعاً من دون أن يكون محرّماً لا فعلاً ولا سابقاً، بل ذكر الشيخ الأعظم & أنّ ظاهر الفقهاء لعلّه هذا القول حيث حكموا بصحّة الصلاة في حال الخروج؛ فإنّه لو كان الخروج محرّماً فكان يتحدّ مع الصلاة حال الخروج فلم يمكن الحكم بصحّة الصلاة، فمقتضى إفتاء المشهور بصحّة الصلاة حال الخروج أنّ الخروج ليس محرّماً.

وقد صرّح صاحب المدارك + بأنّ القول بجريان حكم المعصيّة على الخروج غلطٌ صدر عن بعض الأصوليين.

ووجه هذا القول الذي اختاره الشيخ الأعظم &: ما يُقال من أنّ التخلّص عن الغصب واجبٌ شرعاً وعقلاً والخروج عن المكان المغصوب مصداقٌ للتخلّص عن الغصب.

ولكن يرد عليه: أنّ الخروج عن المكان المغصوب ليس مصداقاً للتخلّص عن الغصب؛ التخلّص عن الغصب هو الكون خارج المكان المغصوب والخروج مقدّمةٌ للتخلّص من الغصب، هذا الخروج لا يزال تصرّف في ملك الغير بدون إذنه، فلو رضي المالك ببقاء شخصٍ في ملكه إلى رأس ساعة كذا وهو كان في آخر ملكه –آخر بستانه- ألا يجب عليه أن يخرج قبله بدقائق حتى يكون في رأس تلك الساعة خارج المكان المغصوب؟ هل يُقبل منه أن يقول بقيت في ذلك المكان إلى رأس تلك الساعة ثم خرجت وهذا الخروج ليس غصباً محرّماً؟!

وما هو الفرق بين هذا الفرض وبين فرض المتعة إلى رأس ساعة كذا؟ أرجو المعذرة، إذا استمرّ في الجماع مع من تمتع بها إلى رأس تلك الساعة بحيث كان إخراج عضوه التناسلي بعده هل يُقال بأنّ هذا جائز؟ أو يقال بأنّ إخراج الزاني عضوه التناسلي ليس مصداقاً للزنى وليس مبغوضاً بل هو واجبٌ يترحم عليه الملائكة لأجله؟! فهذا القول غير صحيح.

    2. القول الثاني: ما اختاره المحقق القميّ & صاحب القوانين ونسبه إلى أكثر المتأخرين من أنّ الخروج عن المكان المغصوب حرامٌ بالفعل وواجبٌ بالفعل:

     أمّا كونه حراماً بالفعل: فلكونه مصداقاً للغصب المحرّم؛ لأنّ الغصب شاملٌ للدخول في هذا المكان والخروج منه، ما دام هو يتصرّف في ذلك المكان فهو غاصبٌ.

     وأمّا كونه واجباً: فإمّا لكونه مصداقاً لردّ المال المغصوب إلى صاحبه وهو واجب نفسي أو أنّه مقدمةٌ للتخلّص من الغصب فيكون الخروج واجب غيري.

وقد أُورد على هذا القول بإيرادين:

    1. الإيراد الأول: ما ذكره جمعٌ من الأعلام كالسيد الخوئي وصاحب البحوث ‚ من أنّ بقاء الحرمة بعدما دخل في هذا المكان بالنسبة إلى الخروج لغوٌ محض، بل ذكر السيد الخوئي & أنّه تكليفٌ بغير المقدور؛ لأنّه بعدما حرم عليه البقاء في ذلك المكان فإذا حرم عليه الخروج أيضاً فماذا يصنع؟ يبقى حرام، يخرج حرام؛ حيث إنّه لا إشكال في أنّ بقائه حرام فلا بدّ أن لا يكون خروجه محرّماً.

نعم، خروجه مصداقٌ للغصب ومبغوض بحرمةٍ سابقة، يعني قبلما يدخل في هذا المكان تعلّق خطاب النهي عن الغصب بكلٍّ من دخوله وخروجه، وكان مقتضى امتثال هذا النهي أن لا يدخل كي لا ينجبر إلى الخروج، ولكنه دخل فانجبر إلى الخروج، فيكون من باب الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ولكنه ينافيه خطاباً، يعني خطاب النهي لا يشمل الممتنع بسوء الاختيار. نعم، حيث إنّه كان مختاراً قبل ذلك وشمله خطاب النهي انكشف أنّ هذا الفعل مبغوض للمولى.

وذكر في البحوث أنّ بقاء الحرمة عن الغصب بالنسبة إلى هذا الخروج:

     هل هو بداعي الزاجريّة عن الخروج؟ هذا غير معقول؛ لأنّه بعدما وجب على هذا المكلّف أن يخرج من المكان المغصوب كيف يزجره المولى عن الخروج؟!

     وإن لم يكن بداعي الزاجريّة: فيكون النهي صورياً؛ لأنّ النهي لا بداعي الزاجريّة ليس إلّا صورة النهي.

نحن نقول في الجواب:

لا إشكال في أنّ بقاء النهي عن الغصب بالنسبة إلى هذا الخروج ليس بداعي الزاجريّة الفعليّة، ليس بداعي أن يزجره عن الخروج بعدما دخل، لكن لا يتقوم خطاب النهي بالزاجريّة الفعليّة بل يكفيه مطلق الزاجريّة نظير ما ورد في القرآن الكريم ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثم عليه﴾ ، مفهومه أنّ المضطرّ إلى أكل الميتة إذا كان اضطراره بسوء الاختيار فلا يزال أكله للميتة حرام لكنّه يلزمه عقلاً أن يأكل الميتة حذراً من تلفه، يجب عليه حفظ نفسه، كان يلزمه أن لا يذهب إلى المفازة بدون أن يأخذ معه طعاماً حلالاً لكنه ذهب إلى المفازة ولم يأخذ معه طعاماً حلالاً، أو كان ذهابه إلى ذلك المكان بداعٍ محرّم كالاعتداء على الآخرين.

أي مانعٍ من أن نقول: حرمة أكل الميتة ثابتة في حق هذا الرجل وحرمة قتل النفس أيضاً ثابتةٌ في حقه وعقلاً يجب عليه اختيار أخفّ القبيحين للاحتراز عن أشد القبيحين وهو قتل النفس؟

والأمر في المقام كذلك؛ حرمة الغصب لا تزال تشمل البقاء في هذا المكان والخروج منه، كلاهما غصبٌ محرّم ولا وجه للإلتزام بسقوط خطاب النهي عن الخروج، بعد أنّ الخطاب خطاب مطلق لا مؤونة زائدة في إطلاقه أو على تعبير السيد الخميني + خطابٌ قانونيّ يشمل هذا الفرد من الغصب، ويكفي في عدم لغويّة شموله له كونه بداعي الزاجريّة ولو بلحاظ قبل دخوله في هذا المكان أمّا بعدما دخل لا، ليس هناك داعي الزاجريّة بالنسبة إلى خروجه عن ذاك المكان.

فإذاً نحن لا نرى أيّ مانعٍ من ثبوت الحرمة الفعليّة للخروج من المكان المغصوب بسوء الاختيار وليس لغواً، كما اختاره السيد الخميني وصاحب كتاب الأضواء ‚ بل هو ظاهر من السيد الصدر+ في الحلقة الثالثة وإن لم يلتزم به في البحوث.

    2. الإيراد الثاني على هذا القول الثاني –وهو إيراد صحيح-: أنّ الخروج ليس مصداقاً لردّ المال إلى صاحبه وإنّما هو مقدّمةٌ للتخلّص عن الغصب الزائد، فلا يكون واجب نفسي وأما وجوبه الغيريّ فنحن لا نقبل وجوبه الغيريّ لأنّنا لا نقبل بشكلٍ عام وجوب المقدمة شرعاً وإلّا لو كنا نقبل وجوب المقدمة شرعاً لكُنّا نلتزم بما التزم به المحقق القميّ من كون هذا الخروج محرّماً بالفعل لكن لا بداعي الزاجريّة الفعليّة عنه، وواجب بالفعل بوجوبٍ غيري مقدمّة للتخلص عن الغصب الزائد.

ولكن جمعٌ من الأعلام كالمحقق الأصفهاني وصاحب الكفاية ‚ أنكروا الوجوب الغيريّ الشرعي لهذا الخروج من المكان المغصوب لنكاتٍ أخرى لا لأجل إنكار كبرى وجوب المقدمة شرعاً؛ فالمحقق الأصفهاني & قال: هذا الخروج مقدمةٌ للكون خارج المكان المغصوب، يعني إذا خرجت من هذا المكان المغصوب سوف تكون خارج هذا المكان بعد دقائق والكون خارج المكان المغصوب ضدّ الحرام وهو الكون في هذا المكان المغصوب، فصار الخروج مقدمة لضدّ الحرام؛ الحرام ماذا؟ الكون في هذا المكان المغصوب، ضده ماذا؟ الكون خارج هذا المكان المغصوب، الخروج مقدمة لهذا الضدّ وهو الكون خارج المكان المغصوب بعد دقائق، وترك الحرام لا يتوقف على إتيان ضده، فكيف يتوقف على مقدمة إتيان ضده؟! إذا حرم عليك القيام فترك القيام لا يتوقف على الجلوس فضلاً من أن يتوقف على مقدمة الجلوس، لماذا؟

يقول المحقق الأصفهاني +: لأنّ الترك أمرٌ عدميٌّ لا يحتاج إلى فاعلٍ ولا قابلٍ، أي لا يحتاج إلى علّةٍ، والمقدمة علّةٌ لوجود ذي المقدمة، ترك الحرام لا يحتاج إلى أيّةِ علّةٍ فهو أمرٌ عدميّ.

نقول للمحقق الأصفهاني: نذكر مثالاً، لا ندخل في الأبحاث الفلسفية، شخصٌ شغّلّ المدفئة فإذاً صار حريق في دار زيدٍ، فإذا لا يستخدم الماء لإطفاء الحريق فسوف يسري الحريق إلى أموال زيدٍ فتحترق أمواله، هذا الإحراق لأموال زيدٍ حرام أم حلال؟ حرام، ترك هذا الحرام ألا يتوقف على إطفاء النار بسبب إلقاء الماء عليه؟

إذا وُجد المقتضي للإحتراق فيتوقف إنتفاء الإحتراق على إيجاد مانعٍ عن تأثير ذلك المقتضي، يتوقف إنعدام الإحتراق بعد تحقق مقتضيه على إيجاد مانعٍ يمنع من تأثير ذلك المقتضي، بعدما دخل هذا المكلّف في هذا المكان المغصوب فالمقتضي للبقاء في هذا المكان متحققٌ لا يحتاج إلى شيء، هو حتى إذا نام هناك ولم يحرّك يداً ولا رجلاً سوف يبقي في ذلك المكان المغصوب، فالمقتضي للبقاء في ذلك المكان المغصوب موجود، ويحتاج إنتفاء البقاء في هذا المكان بعد دقائق على إيجاد مانعٍ من ذلك البقاء، والمانع من البقاء في ذلك المكان المغصوب ماذا؟

هو أن يخرج، المانع عن بقائه في المكان المغصوب في الزمان اللاحق هو الخروج من هذا المكان في الزمان السابق عليه وإلّا لو لم يخرج لتحقق البقاء في ذلك المكان لتحقق مقتضيه.

فإذاً لم يتم إشكال المحقق الأصفهاني في كون الخروج مقدمةً لترك الحرام.

صاحب الكفاية & ذكر نكتةً أخرى لعدم وجوب الخروج وجوباً غيرياً شرعياً، فقال: الوجوب الغيري روحه الحبّ الغيري والخروج عن المكان المغصوب بسوء الاختيار حيث إنّه لا يزال مبغوضاً لشمول حرمة الغصب له قبل أن يدخل في هذا المكان فهو حرامٌ بحرمةٍ سابقةٍ على الخروج. فهذا الخروج لا يزال مبغوضاً للمولى، فكيف يتعلّق به الحب؟! فيمتنع أن يكون هذا الخروج محبوباً غيرياً للمولى، بل هو مبغوضٌ والعقل يلزم الإتيان بهذا المبغوض الأخف احترازاً عن المبغوض الأشد وهو البقاء في هذا المكان المغصوب، يجب التخلّص من الغصب الزائد ومقدمته وإن كانت مبغوضةً وهي الخروج ولكنّها لازمةٌ عقلاً، فيجب عقلاً على هذا المكلّف أن يخرج للاحتراز عن أشد القبيحين، فإذاً مقدمة التخلّص عن الغصب الزائد مقدمةٌ مباحةٌ عقلاً وإن كانت مبغوضةً شرعاً، بل مقدّمة لازمةٌ عقلاً، فلا مانع من وجوب التخلّص من الغصب الزائد عليه.

نقول: يا صاحب الكفاية، روح الوجوب الغيري ليس هو الشوق والحب بل روح الوجوب النفسيّ ليس هو الحب والشوق، لو أنّ دولة معتدية اعتدت على شعبٍ فعائلةٌ صاحب هذه العائلة الزوج أو الوالد يخاف إن استولت الدولة المعتدية على أراضي هذه الدولة المحتلّة سوف يعتدي ويغتصب زوجة هذا الرجل أو بنته، فيأمر هذا الزوج أو الأب خادمه يقول: ارمِ الرصاص على زوجتي على بنتي كي تنجرح ويرسلونها إلى المستشفى أو إذا وصل الأمر إلى أن تنقتل كي لا تمسّ كرامتها الأيادي المجرمة والخبيثة، هل هذا الأب يحب انجراح بنته أو انقتالها؟ فكيف أمر بذلك؟ لا، إنّما أمر بذلك لأنّه أخف المبغوضين عنده، هذا المبغوض أخف عنده من أن يُعتدى على بنته وتُغتصب بنته، فإذا بقي ذلك الخادم في مكانه ولم يذهب لأن يأتي بالسلاح –بالمسدس- فيقول له لماذا تجلس هنا تنظر إلي؟ قم وأحضر المسدس وارمِ على ابنتي حتى تنجرح، هذا حبٌّ غيريٌّ والأمر بقتلها أو جرحها أمرٌ نفسيٌّ، ذلك الأمر النفسي فاقدٌ لروح الحب فيكف بهذا الأمر الغيري بالإتيان بالمسدس؟ روح الوجوب تعلّق غرض المولى بالفعل، هذا هو ولو من باب دفع الأفسد بالفاسد.

هنا في المقام المولى أيّ مانعٍ من أن يأمر بالخروج ويوجبه شرعاً من باب ارتكاب أخف القبيحين مقدمةً للاجتناب عن القبيح الأشد، أيّ مانعٍ في ذلك؟

فإذاً من يقبل أنّ المقدمة واجبةٌ غيريّةٌ شرعيّة لا مانع من أن يلتزم أنّ الخروج واجب غيري شرعي مقدمةً لترك الحرام الأشد أو فقل مقدمةً لترك الغصب في زمانٍ لاحق.

[سؤال...]

بناءً على الوجوب الغيري نعم، الخروج واجبٌ غيريّ شرعيّ والغصب حرام، عنوان الغصب محرّم، عنوان الخروج أو عنوان مقدمة ترك الحرام واجب غيري، فاختلف العنوانان ولا يلزم التضادّ بين الوجوب والحرمة لتعدد عنوان متعلّقهما؛ فالغصب حرام والخروج واجب غيري بناء على الوجوب الغيري للمقدمة أو أنّ مقدمة ترك الحرام بعنوان المقدمة واجبٌ غيري وليس الجمع بينهما تكليفاً بغير المقدور؛ لأنّ الداعي من تحريم الغصب ليس هو الزاجريّة الفعليّة، ليس هو أن يمنعه من الخروج حتى بعد دخوله في هذا المكان، وإنّما الغرض منه كان أن لا يدخل حتى ينجبر إلى الخروج.

فهذا القول الثاني الذي اختاره المحقق القميّ & تامٌ جدّاً بناءً على وجوب مقدمة الواجب أو وجوب مقدمة ترك الحرام شرعاً، لكننا لا نرى الوجوب الغيري الشرعيّ لمقدمّة الواجب أو مقدمة ترك الحرام، ولأجل ذلك لا نقبل القول الثاني وبقية الكلام في ليلة الأحد إن شاء الله.