بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/08/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي)

[شبهةٌ وجوابها]

قبل أن نتكلم عن التنبيه الأخير من تنبيهات اجتماع الأمر والنهي بقيت نكتةٌ من التنبيه السابق أشير إليها، وهي أننا ذكرنا شبهةً حول العلم الإجمالي الذي يخطر ببال الفقيه ولأجله يوجب الاحتياط على المقلّدين.

فقلنا بأنّ هذا العلم الإجمالي خطر بذهن المرجع فصار المرجع موضوعاً لوجوب الاحتياط، وما دام لم ينقل هذا المرجع علمه الإجمالي إلى ذهن المقلّد فيتحقق بذلك موضوع وجوب الاحتياط في حقه فكيف يفتي له بوجوب الاحتياط؟

وهذه نكتةٌ أشار إليها السيد السيستاني ' في بعض أبحاثه ويوجد لها أمثلةٌ كثيرةٌ في الفقه، مثلاً: السيد الخوئي & في الإخبار بغير علم يقول: يوجد علم إجمالي بأنّ الإخبار عن وجود هذا المشكوك كذبٌ محرّم أو الإخبار عن عدمه كذبٌ محرّم؛ لأنّه لا يخلو في علم الله إمّا أنّه موجود أو معدوم، إذا موجود فالإخبار عن عدمه كذبٌ محرّم وإذا معدوم فالإخبار عن وجوده كذبٌ محرّم، والعلم الإجمالي بكون الإخبار بأحدهما كذباً محرّماً منجّزٌ ويوجب بطلان صوم من أخبر بغير علم؛ لأنّه يحصل له علمٌ إجماليٌّ أنّه إمّا أنّ الإخبار بوجود هذا الحكم الشرعيّ كذبٌ مبطلٌ للصوم أو أنّ الإخبار عن عدمه كذبٌ مبطلٌ للصوم، أو إذا أخبر عن فعلٍ صادرٍ من المعصوم × مع شكه في صدوره منه يعلم إجمالاً بأنّه إمّا أنّ الإخبار بوجود هذا الفعل كذبٌ على الإمام × ويبطل به صومه أو أنّ الإخبار بعدمه كذبٌ على الإمام × ويبطل به صومه، فإذا أخبر بوجود هذا المشكوك أو بعدمه بطل صومه. وهكذا في عدّة أمثلةٍ أخرى لا نتعرّض إليها، وهذه شبهةٌ قوية.

ولكن قد يُجاب عن هذه الشبهة: بأنّ الرأي الإجمالي للفقيه حجّةٌ على العاميّ إذا لم يمتنع الفقيه عن إبراز ذلك الرأي، فإذا حصل رأيٌ إجماليٌّ للفقيه بأنّه إمّا يحرم الإخبار بوجود هذا المشكوك من باب الكذب المحرّم أو يحرم الإخبار بعدمه من باب الكذب المحرّم، فهذا الرأي الإجماليّ الذي لا يمتنع الفقيه عن إبدائه وإبرازه للعاميّ حجّةٌ في حق العاميّ ومنجّزٌ له، فنفس هذا الرأي الإجمالي يكون موضوعاً لوجوب الاحتياط عقلاً بالنسبة إلى العاميّ.

وهذا شيءٌ لا يرتضيه السيد السيستاني =؛ فإنّه يرى أنّ الحجّة في حق العاميّ إبراز الرأي لا رأي الفقيه الذي لم يبرزه.

ولكن ذكرنا في محلّه أنّ الإبراز عرفاً طريقٌ محضٌ لمعرفة العاميّ رأي الفقيه، فإذا عرف العاميّ رأي الفقيه ولو لم يُبرزه الفقيه لمانعٍ وآخر أمكنه الاعتماد على رأي الفقيه؛ فإنّ إبراز الفقيه للرأي مجرّد طريقٍ محض إلى معرفة رأيه، وتفصيل الكلام في محله، بهذا المقدار نكتفي في هذا البحث وندخل في البحث عن التنبيه الأخير لبحث اجتماع الأمر والنهي، ويُتكلم فيه عن الصلاة في المكان المغصوب في حال الاضطرار.


[التنبيه الأخير]

الصلاة في المكان المغصوب في حال الاضطرار

 

ويقع الكلام فيه في مقامين:

المقام الأول

إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار

 

لو حُبس المكلّف في مكانٍ مغصوب، فلا إشكال في سقوط حرمة الغصب في حقه بمقتضى دليل رفع الاضطرار إنّما الكلام في حكم صلاته هناك.

فقد حُكي عن المحقق النائيني +: أنّ الحرمة وإن ارتفعت في حق المضطر ولكن ملاكها ثابتٌ في حقه، يعني: أنّ الفعل المحرّم الصادر من المضطر مبغوض، لا يزال مبغوضاً للمولى وإن لم يكن هذا المضطر مستحقاً للعقاب عليه، ولأجل ذلك من ألقاه في هذا الاضطرار يُعاقب، لماذا ألقيت هذا المؤمن في الاضطرار وجعلته يرتكب الحرام عن اضطرار؟ ألجأته أن يشرب النجس! أنت ألقيته في الاضطرار! العقلاء يعاتبونه لأنّه ألقى هذا المؤمن في الفعل المبغوض، وما دام الفعل مبغوضاً ولو صدر عن المضطر فلا يصلح للمقربيّة.

إذا كان التركيب بين الغصب والصلاة تركيب اتحادي فلا تصحّ صلاة المضطر في المكان المغصوب، لكن المحقق النائيني + يرى أنّ التركيب بين الصلاة والغصب تركيب انضمامي بخلاف التركيب بين الغصب والوضوء بالماء، إذا كان الماء مغصوباً حتى ولو اضطرّ إلى صرف هذا الماء، أُكره على صرف هذا الماء، فجاز له أن يصرف الماء، لا يصحّ وضوءه منه عند المحقق النائيني +؛ لأنّ هذا مبغوض والمبغوض لا يصحّ للعباديّة والمقربيّة.

ولكن يرد عليه:

أنّه لا مانع من التقرّب بعملٍ مبغوض ما دام صدوره من هذا الفاعل ليس مبغوضاً حيث صدور هذا الفعل ليس مبغوضاً من المضطر، ذات الفعل مبغوض أمّا حيث صدوره من هذا المضطر فليس أمراً مبغوضاً، بل قد يجب عليه ذلك كما لو هدده الظالم بأنّه لو لم يسجد على الفرش بل سجد على التربة لقتله، يجب عليه أن يسجد على الفرش. لو هدده الظالم بأن يبقى في مكانٍ مغصوب فيجب عليه البقاء في ذلك المكان حتى يحفظ على روحه، فإذا انطبق على هذا الفعل عنوانٌ ذي مصلحة فلماذا لا يكون مقرّباً وعبادةً؟ وعليه، لا مانع من الصلاة في المكان المغصوب المضطر إليه إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار.

 

[نكتتان في المقام]

نعم، توجد هنا نكتتان ينبغي التعرّض إليهما:

    1. النكتة الأولى: ذكر صاحب الجواهر + أنّ : "من الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه، إن قائماً فقائماً، إن جالساً فجالس، ولا يجوز له الانتقال إلى حالةٍ أخرى في الصلاة وغيرها حيث يستلزم ذلك الحركة في المكان المغصوب، وهذا غصبٌ محرّمٌ ليس مضطرّاً إليه -هو مضطرّ أن يدخل هذا المكان أمّا يقوم يركع يجلس يسجد هذا ليس ممّا يضطرّ إليه هذا الشخص فلا يجوز له ذلك، فلا بدّ أن يصلّيّ على الكيفية التي أدخلها الظالم في هذا المكان المضطرّ إليه- ولم يتفطن أنّ البقاء على الكون الأول تصرّفٌ أيضاً لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرّف –يعني سواء بقي في هذا المكان ساعة أو تحرّك في هذا المكان المغصوب كلاهما سواء، لا يشتمل أيّ منهما على غصبٍ زائد- كما أنّه لم يتفطن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس أشد ممّا عامله الظالم خصوصاً وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك".

ما ذكره صاحب الجواهر & في الجملة صحيح، توضيح ذلك:

أنّ من يدخل مكاناً يشغلُ مقداراً من الفضاء بمقدار حجم جسده، وهذا لا نختلف فيه، أن يقوم أو يجلس أو يسكن أو يتحرك فهو يشغل مقداراً من الفضاء، ولكن إذا سجد يُلقي ثقله على الأرض أكثر ممّا يقوم على رجليه، فإذا قام على رجليه فيلقي ثقله على مكانٍ أصغر ممّا يلقي ثقله إذا وضع مواضعه السبعة في حال السجود على الأرض، هذا الإلقاء للثقل في حال السجود تصرّفٌ زائد في المكان المغصوب.

لاحظوا: لو أنّ أحد المحبوسَين اتكأ على الجدار أو اتكأ على المخدّة والمحبوس الآخر لا لم يتكئ على الجدار أو على المخدّة، ابتعد عن الجدار وعن المخدة، بلحاظ اشغال الفضاء كلاهما واحد ولكن بلحاظ إلقاء الثقل على الجدار أو على المخدّة ذاك الذي ألقى ثقله على الجدار أو المخدّة تصرّف أكثر في المال المغصوب، فلا يتمّ كلام صاحب الجواهر & من أنّ من دخل مكاناً مغصوباً سواءً بقي ساكناً أو تحرّك إلى مكانٍ آخر أو جلس أو قام فلا يصدر منه إلّا بمقدارٍ واحد من التصرّف في مال الغير، هذا لا يتمّ بلحاظ إلقاء الثقل على الأرض في حال السجود.

لكن نحن نقول: حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه حرمةٌ إمضائيّة لا تعبديّة محضة، والمرتكز العقلائي على عدم حرمة تصرّف المضطر لا بسوء الاختيار في المكان المغصوب تصرّفاً متعارفاً، فيريد أن ينام يلقي ثقله على الأرض بكامله، لا يتحدد جواز نومه بحدّ الاضطرار، نقول يكفيك أن تنام ساعة ثم قم على رجليك بل على رجلٍ واحدة! هذا خلاف المرتكز العقلائي.

فإذاً الدليل على جواز الصلاة الاختياريّة لهذا المضطر لا بسوء الاختيار في المكان المغصوب ليس أنّ السجود في هذا المكان المغصوب يتساوى مع القيام في هذا المكان بلحاظ مقدار الغصب، لا. إلقاء الثقل في حال السجود يكون أكثر، لكن لا مانعَ منه حسب المرتكز العقلائي وينصرف عنه خطاب دليل حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه.

هذا إذا كان مضطرّاً في البقاء في هذا المكان المغصوب، وأمّا إذا أمكنه الخروج من ذلك المكان فلا بدّ أن يخرج فوراً تخلّصاً من الغصب الزائد:

     فإن تمكن في حال الخروج من الصلاة الاختياريّة كما إذا كان راكباً في عربةٍ وبإمكانه أن يصلّيّ راكعاً وساجداً: يصلّي راكعاً وساجداً.

     وإذا لم يمكنه أداء الصلاة الاختياريّة في حال خروجه:

- فإن كان الوقت موسّعاً يصلّي بعد أن خرج من المكان المغصوب.

- وإن كان الوقت مضيّقاً فلا بدّ أن يصلّيّ صلاةً إيمائيّة حال الخروج.

هذا تمام الكلام في حكم الصلاة في المكان المغصوب في حال الاضطرار لا بسوء الاختيار، يقع الكلام في فرض الاضطرار بسوء الاختيار، نتكلم عن ذلك في الليلة الدراسيّة القادمة إن شاء الله.