بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي)

بقيت تتمةٌ من الفرع الذي ذكره صاحب الكفاية & من أنّه لو كان لدى الإنسان ماءان قليلان، علم إجمالاً بكون أحدهما نجس، فعدم جواز وضوءه بكلٍّ منهما على وفق القاعدة؛ لأنّه حينما يصيب الماء الثاني وجهه مثلاً وقبل أن تنفصل غسالته عن وجهه يعلم تفصيلاً بأنّ وجهه نجسٌ إمّا لملاقاته للماء الأول إن كان هو النجس وعدم تحقق الغسل منه عرفاً لعدم انفصال الغسالة أو لإصابة الماء الثاني لوجهه إذا كان الماء الثاني نجساً. فبعدما توضأ بالوضوء الثاني يشكّ في بقاء نجاسة وجهه مثلاً فيستصحبها وتكون صلاته حينئذٍ صلاةً مع جسدٍ مستصحب النجاسة.

نحن أشكلنا عليه: بأنّ هذا الاستصحاب مبتلىً بالمعارض، وهو استصحاب طهارة وجهه إمّا حين الوضوء الأول أو حين الوضوء الثاني، ولكنّ المحقق المشكيني & ذكر في حاشية الكفاية وجهاً أعمق من الوجه الذي ذكره صاحب الكفاية &، فقال: حينما يغسل وجهه بالماء الثاني يعلمُ إجمالاً إما أنّ وجهه متنجسٌ بهذا الماء الثاني إن كان الماء الثاني نجساً أو أنّ يده مثلاً نجسةٌ بالماء الأول إن كان الماء الأول نجساً لأنّه لم يغسل يده بعدُ بالماء الثاني، وهذا علمٌ إجماليٌّ منجّز.


[إشكال البحوث على المحقق المشكيني & وجوابه]

في البحوث في شرح العروة الوثقى أشكل عليه، فقال: منشأ منجزية العلم الإجمالي معارضة الأصول؛ أصالة الطهارة في الوجه لا تتعارض مع أصالة الطهارة في اليد مثلاً لأنّ الغرض من إجراء أصالة الطهارة هوتصحيح الصلاة في هذا الجسد، إذا كان يريد أن يصلي قبل إكمال الوضوء الثاني فصلاته محكومة باستصحاب الحدث، صلاة مع الحدث الاستصحابي فهي فاسدةٌ تعبّداً، فلا بدّ أن تكون صلاته بعد الوضوء الثاني، والمفروض أنّه بعد الوضوء الثاني قد غسل يده أيضاً بالماء الثاني ثمّ توضأ به، فخرجت يده الملاقية للماء الأول عن محلّ الابتلاء لأنّها صارت ملاقيةً للماء الثاني، وتكون صلاته في هذه الحالة صلاةً في محتمل النجاسة، فلا تكون إلا مخالفةً احتماليّة لحرمة الصلاة في النجس، والمخالفة الاحتماليّة لا توجب معارضة الأصول.

نقول في الجواب:

    1. أولاً: هذا الكلام من البحوث مبنيٌّ على أن تكون صحّة الوضوء الثاني موقوفةً على غسل كل ما أصابه الماء الأول بالماء الثاني ثمّ الوضوء ولكنّه لا يتعيّن ذلك؛ فإنّه يمكنه أن يُبقي المحلّ الذي مسح رأسه بالماء الأول في الوضوء الأول ولا يغسله ويمسح على موضعٍ آخر من مقدّم رأسه، فيصحّ وضوءه الثاني من دون أن يغسلَ محلّ المسح من الوضوء الأول، فيحنئذٍ يكون مثل من علم إجمالاً بأنّ يده اليسرى نجسة أو يده اليمنى نجسة.

الكلام في أنّه لا يتوقف صحّة الوضوء الثاني على غسلِ جميع ما لاقاه الماء الأول، لا يتوقف على ذلك، فيمكنه أن لا يغسل محلّ مسح الرأس في الوضوء الأول، إمكان ذلك كافٍ في أن تتعارض الأصول في الأطراف؛ لأنّه لا يتوقف معارضة الأصول في أطراف العلم الإجمالي على استخدام الإنسان لتلك الأصول، المهم أنّ جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي لا بدّ أن لا تكون مستلزمةً للترخيص في مخالفة العلم الإجمالي.

ونقول هنا جريان الأصول يستلزم الترخيص في مخالفة العلم الإجمالي؛ لأنّه بإجراء أصالة الطهارة في وجهه وأصالة الطهارة في محلّ المسح في الوضوء الأول رخّص الشارع لهذا المكلف أن يصلّيّ في جسدٍ نجس.

إن قلت: إن لم يغسل محلّ المسح من رأسه يعلم بأنّ جسده متنجّس، إمّا هذا المحلّ من رأسه أو وجهه الملاقي للماء الثاني.

أقول: نعم صحيح، ولكن هذا يكون من قبيل من علم إجمالاً بأنّ يده اليسرى نجسة أو يده اليمنى نجسة، لو لم يغسل لا يده اليمنى ولا يده اليسرى، يعلم تفصيلاً بأنّ صلاته في النجس لكن أصالة الطهارة في يده اليمنى أثرها أن يجوز له عدم غسل يده اليمنى والإكتفاء بغسل اليد اليسرى، كما أنّ أثر أصالة الطهارة في اليد اليسرى عدم لزوم غسل اليد اليسرى والإكفتاء بغسل اليد اليمنى، فكأن الشارع قال لهذا الشخص: أُرّخص لك أن تغسل يدك اليسرى بدون أن تغسل يدك اليمنى وتصلّي وأرّخص لك عكس ذلك أن تغسل يدك اليمنى ولا تغسل يدك اليسرى لإجراء أصالة الطهارة في اليد اليسرى.

وهذا يعني أنّ الشارع رخّصّ قطعاً في مخالفة العلم الإجمالي، كيف؟ لأنّه إمّا يده اليسرى نجسة فقد رخص الشارع في الصلاة بدون غسلها أو أنّ يده اليمنى نجسة فقد رخّص الشارع في الصلاة بدون غسلها، ويسمّى ذلك بالترخيص القطعي في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، والمقام من هذا القبيل.

أصالة الطهارة في وجهه بعد غسله بالماء الثاني أثرها أن يقول له الشارع لا يجب عليك أن تغسل وجهك، يمكنك أن تصلّي في هذا الحال إذا غسلت محلّ المسح من رأسك في الوضوء الأول، وإجراء أصالة الطهارة في محلّ المسح في الوضوء الأول أنّ الشارع يقول له: أرخّصّ لك في أن لا تغسل محلّ المسح من رأسك وتكتفي بغسل الوجه وتصلّي، هذا يعني أنّه ترخيصٌ قطعيٌّ في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، يعني يمكنه أن يحلف بالعباس أنّ الشارع رخّص له في الصلاة في النجس؛ لأنّه بإجراء أصالة الطهارة في وجهه رخّص له في أن يصلّي مع هذا الوجه ولو لم يغسله، وبإجراء أصالة الطهارة في محل المسح من رأسه في الوضوء الأول رخص له في أن يصلي بدون أن يغسل ذلك المحلّ، وأحدهما نجس، فيكون ترخيص قطعي من الشارع في الصلاة بالنجس، وهذا يوجب تعارض الأصول، هذا أولاً.

    2. وثانياً: نحن ذكرنا مراراً أنّه يكفي في أثر أصالة الطهارة في مشكوك النجاسة إمكان وجود ملاقٍ له.

مثلاً: أنت تعلم إجمالاً بأنّه إمّا هذا الماء نجس أو هذا السجاد نجس، ماذا يقول عدة من الأعلام كالسيد الخوئي والسيد الصدر ‚؟ يقولون بأنّ أصالة الطهارة في الماء تجري بلا معارض، لماذا؟

لأنّ أصالة الطهارة في الفرش لا أثر لها فعلاً، لا تجوز الصلاة عليه يعني ليس ممّا يُسجد عليه وليس مما يؤكل أو يُشرب، إنّما أثر طهارة هذا الفرش أنّ ملاقيه مع الرطوبة لا يتنجس وليس له ملاقٍ بالفعل.

ولكن نحن نقول: كلا، يكفي في معارضة أصالة الطهارة في الفرش مع أصالة الطهارة في الماء أنّه يترتب على جريان أصالة الطهارة في الفرش الحكم بطهارة ما يمكن أن يلاقيه، يمكنك أن تلاقي يدك مع هذا الفرش برطوبةٍ مسرية وتصلّي، هذا أثر أصالة الطهارة في الفرش، يمكنك أن تأخذ الطعام الرطب عن هذا الفرش بعد أن لاقاه وتأكله بدون أن تغسله.

    3. وثالثاً: نحن لا ينقضي عجبنا من السيد الصدر الذي يدقق في مجالات العلم الإجمالي كيف غفل عن تطبيق قواعد منجزيّة العلم الإجمالي في المقام؟! كيف؟

أنا حينما أردت أن أتوضأ بالماء الأول ثمّ أغسل وجهي بالماء الثاني أغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني وأتوضأ به، أعلم إجمالاً بأنّه إمّا يحرم شرب هذا الماء الأول أو يتنجّس جسدي بملاقاة الماء الثاني، وهكذا العكس، إمّا يحرم عليّ شرب الماء الثاني أو يتنجّس جسدي بالماء الأول فتحرم الصلاة في هذا الجسد. علمان إجماليان، إمّا يحرم شرب هذا الماء الأول أو تحرم الصلاة في الجسد الملاقي للماء الثاني إذا كان الماء الثاني نجساً، وأنا أعلم بأنّه سوف يلاقي جسدي مع الماء الثاني، والعلم الإجماليّ الآخر هو أنّي أعلم أنّه إمّا يحرم شرب الماء الثاني أو تحرم عليّ الصلاة في الجسد الملاقي للماء الأول إذا كان هو النجس، فماذا يفعل السيد الصدر بهذين العلمين الإجماليين.

نعم، لو كنا نواجه السيد السيستاني ' ونعترض عليه لماذا أغفلت مثل هذا العلم الإجمالي؟

لكان يجيب بجواب واحد، كلمة بسيطة، يقول: أنت حصل لك هذا العلم الإجمالي، ما هو ذنب الناس؟ أنت جالس في حجرتك تفكر وتفكر وتخطط هذه العلوم الإجماليّة وتذبّها على رقاب الناس؟! والناس لم يحصل لهم هذا العلم الإجمالي، أنت حصل لك العلم الإجمالي لا إشكال، أنت اذهب موت روحك في سبيل الاحتياط لأجل منجزيّة العلم الإجمالي الذي حصل في نفسك، أمّا سائر الناس خطايا، ما حصل لديهم هذا العلم الإجمالي، لماذا تتعب أرواحهم؟!

هذا إشكال مهم، ويقول السيد السيستاني ': أوردنا هذا الإشكال على بعض الأعلام، والظاهر أنّهم لم يجيبوا. أنا سألت السيد السيستاني =: سيدنا من هذا الذي وجهت عليه الإشكال؟ قال: ما أقول. ما أدري السيد الخوئي كان يا غيره، ما أدري.

دائماً السيد السيستاني ' يذكر هذا الإشكال، يعني كثيراً ما حينما يطرحون أنّه في هذه المسألة يوجد علمٌ إجماليٌّ منجّز، يقول السيد السيستاني: أنت حصل عندك هذا العلم الإجمالي، لماذا تفتي الناس بوجوب الاحتياط ولم يحصل لديهم هذا العلم الإجمالي؟

هذا إشكال مهم وإشكال قوي، وإن حاولنا الإجابة عنه بنحوٍ وآخر ولعلّنا نذكر بعض الأجوبة في ليلة الأحد إن شاء الله.